فقه المواطنة.. حوارٌ في المنطلقات مع المفكر الإسلامي سماحة الشيخ حسن الصفار

سماحة الشيخ حسن الصفار علمٌ من أعلام الفكر المعاصر، وهو - على تواضعه ودماثة أخلاقه - اسمٌ له حضورٌ بيّنٌ في التجاذب الثقافي الديني الذي يدور في هذه الأيّام.

أمام تلك الابتسامة التي تكاد لا تفارق مُحيّاهُ تشعرُ أنّك تجالس صديقاً مُقرّباً، وبين يدي ذلك الفكر الرحب الذي يغمرك به عند تلمّسه لمفردات الواقع تستشعرُ فيه مُفكراً حذقاً، وبعيداً - كُلّ البعد - عن حالة الانبهار بالفكرة أو صاحبها، تتراءى لك - وأنت تُحادثهُ - ضرورة أن يحوز المفّكر المجدّد موقعهُ الفاعل في الحراك المعرفيّ الدائر اليوم؛ بعد أن ألفت الساحةُ – طويلاً - أن لا تحترم مبدعيها إلا بعد فقدهم.

"المرتقى" التقت سماحة الشيخ الصفار.. وكان لها معهُ حوارٌ في موقع مفردةٍ المواطنة - الحديثة -  في منظومة الفقه الإسلامي (ضمن مدرسة أهل البيت على وجه الخصوص)، ودار مع سماحته الحديث التالي..:

عندما يتحوّل الفكرُ إلى قيادةٍ للواقعِ بَدلَ مُحَاكاته، ينطلقُ الـمُفكّر ليُصبح قائداً عمليّاً في الساحة الاجتماعيّة الملتزمة، وفي الإطار ذاته تُطرحُ كُلُّ تحديات الساعة بنَفَسٍ من الوعي الـمُعاصر الذي طالما افتقدته مساحاتٌ البيئة الدينيّة.

وإن كانت ضريبةُ هذا الخطاب ليست بالقليلة ضمن ساحةٍ مُفعمةٍ بالعُقد، كان على المفكر الذي يحملُ لواء منهجيّة الوعي والـمُعاصرةِ أن يبتسم أمام كُل الألغام التي تعترض خطواته في هذه الساح. 

 بدءاً.. هل هناك وجود لما يسمى بـ(فقه المواطنة) في الفكر والتشريع الإسلامي أم أن الانتماء يتعلق بالمعتقد الديني وحسب؟

 المواطنة بمعنى الانتماءِ إلى دولةٍ ذات حدود جغرافية وكَيانٍ سياسيٍّ تترتبُ عليه حقوقٌ وواجبات, هي تطور في الاجتماع السياسي الإنساني, ظهر في العصر الحديث, ولم يكن قائماً بهذا الشكل في العصور الماضية.

ورغم أن في فكرنا الإسلامي وتراثنا الديني ما يُمَكّنُنا من صياغة رؤية, وإنتاج فقه للتعامل مع هذا الواقع الذي فرض نفسه, إلا أننا نشكو من بطئ وضعف مواكبة الفقه لتطورات الحياة, ومعالجة القضايا المستجدة في ساحة المجتمع الإسلامي.

ولعل من أسباب ذلك العوامل التالية:

1- الارتياب من الحال الجديد, والنظر إليه بسوء, وأنه قد يكون نتاج خطة معادية, وسبيلاً للانحراف والفساد.

2- الرهبة من تجاوز الفقه الموروث, واستحداث أبواب جديدة, ومصطلحات حديثة, واستنباط قواعد ومنهجيات لم تكن متداولة.

لذلك تلتزم الكتب الفقهية غالبا حتى على مستوى الرسائل العملية الموجهة لعموم الناس, بنفس التبويب الفقهي السابق, وبنفس المصطلحات والتعابير, حتى في القضايا التي اندثرت وانحسرت مصاديقها, وما عاد المكلفون المعاصرون يعرفون معاني مفرداتها.

3- عدم الاهتمام بدراسة الواقع الخارجي السياسي والاقتصادي والاجتماعي في الوسط العلمي الشرعي, حيث ينصب الاهتمام على دراسة العلوم الشرعية النظرية, واللافت للنظر أن الفقهاء القدامى كانوا يدرسون بعض العلوم الطبيعية المرتبطة بالأحكام الشرعية, كعلم الحساب والفلك, بينما في عصرنا الحاضر  تبدو تجربة الشهيد محمد باقر الصدر في دراسة الاقتصاد المعاصر وكأنها حالة نادرة اعتمد فيها على جهده الشخصي وتثقيفه الذاتي حيث لم يكن في الحوزة العلمية منهج معتمد لدراسة الاقتصاد.

4- الخلل في تشخيص وظيفة الفقه الإسلامي, حيث أصبحت تعنى بتكاليف الفرد المسلم, أكثر مما تعنى بترشيد واقع الأمة والمجتمع, وهي تعالج المشكل بعد وقوعه, دون أن تضع أمام الأمة بدائل وخيارات وتصورات مستقبلية.

إن فقهاء هذا العصر الذين واكبوا قيام الدولة القومية أو القطرية على الأصح, كان متوقعاً منهم رصد حدوث هذا الواقع, والمبادرة لتوجيهه وترشيده, وإنتاج فقه للتعامل معه.

 لماذا نواجه نقصاً - أو فراغاً كما يرى البعض - في بحث موضوع المواطنة وفقهها على المستوى الفكري والفقهي؟

 إضافة لما سبق ذكره من العوامل يجب أن نقول أن فقهاء الشريعة لم يكونوا راضين عن تجزئة الدولة الإسلامية وتقسيم الأمة الواحدة, ولم تكن نظرتهم لقيام الدولة القطرية نظرة إيجابية, وخاصة وأن التجزئة والتقسيم كان بتأثير أجنبي استعماري, مثل اتفاقية (سايكس بيكو).

كما أن نوعية الحكومات والأنظمة التي قامت في البلاد الإسلامية لم تكن كلها موقع رضا من الفقهاء, لذلك صمت الفقهاء عن الحديث السياسي ومنه فقه المواطنة.

ولعلهم لم يكونوا قادرين على التعبير عن آرائهم في هذا الموضوع بحريةٍ ووضوح.

 هل هناك منطلقات نظرية لفكرة المواطنة في التراث الإسلامي وخاصة في مدرسة أهل البيت ؟

 في المواطنة لا بُدّ من النظر إلى أبعاد ثلاثة:

الأول: أرض الوطن والإمكانات والموارد الطبيعية.
الثاني: المجتمع البشري وهم المواطنون.
الثالث: النظام السياسي الحاكم.

ونجد في تراثنا الإسلامي آفاقاً رحبة للحديث عن هذه الأبعاد الثلاثة.

من حق الإنسان في الحياة على أرضه,وتمتعه بخيراتها, وذلك أن إمكانات الطبيعة والحياة مسخرة من قبل الله تعالى للإنسان, والناس شركاء في الموارد العامة. وفي ذلك آيات قرآنية وأحاديث وروايات كثيرة.

كما تتحدث بعض النصوص عن علاقة الناس بديارهم أي أوطانهم, وعن حب الوطن والحنين إليه, والدفاع عنه. وعن علاقة الإنسان بمواطنيه وأهل بلده, نجد الحديث في الإسلام عن حسن الجوار, وحسن المعاشرة, والاحترام المتبادل,ورعاية حقوق الآخرين, والتعاون على الخير, والعمل من أجل المصالح المشتركة.

أما عن النظام السياسي, فهناك تشريعات إسلامية في الحقوق والواجبات المتبادلة, بين الحاكم والشعب, وقد كتب أمير المؤمنين رسالة مفصلة لمالك الأشتر حينما ولاه مصر, تعتبر من أفضل الوثائق وأروعها في تنظيم العلاقة بين السلطة والمواطنين.

 وهل ترتبط حقوق وواجبات المواطنة بنوعية الانتماء الديني أو المذهبي للمواطن، في الرؤية الإسلامية؟

 حين أسس رسول الله الكيان الإسلامي الأول في المدينة المنورة فور هجرته إليها, وكان في المدينة مجموعات من اليهود, فإنه وضع دستوراً لتنظيم العلاقة بين مواطني المدينة المنورة بمختلف قبائلهم ودياناتهم, فيما عرف بصحيفة المدينة, والتي نصت على الحقوق والواجبات المشتركة بين اليهود والمسلمين كمواطنين في ظل كيان واحد.

كما أن في التعاليم الإسلامية تأكيداً على رعاية حقوق أتباع الديانات الأخرى في ظل الإسلام فيما يعرف بأحكام أهل الذمة.

ونقرأ في تاريخنا الإسلامي اهتمام رسول الله وأهل بيته والصحابة برعاية أهل الذمة, وإتاحة الفرصة لهم ليتمتعوا بكل الحقوق المشروعة, من حرية العقيدة وممارسة شعائرهم وعباداتهم, والعمل بأحكام دينهم في محيطهم الاجتماعي.

إنّ القرآن يؤكد على إقامة العدل بين الناس ﴿وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْل [النساء- 58].

ويحذر القرآن الكريم من مُجانبة العدل مع الآخرين: ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة – 8].

 من هذا المنطلق.. ما هي معالم الدولة التي يتحقق في ظلها مبدأ المواطنة؟

 إنها الدولة التي تقوم على أساس المشاركة الشعبية, وتخضع لسيادة القانون, الذي يتساوى أمامه الجميع, وتتكافئ فيها الفرص بين المواطنين دون تمييز, وهي الدولة التي تحترم حقوق الإنسان.

 إذاً ما هي أهم حقوق المواطن وواجباته؟

 أهم حقوق المواطن:

هي حق العيش بكرامة, والمشاركة في إدارة شؤون البلاد, وتمتعه بخيرات وثروات وطنه.

وعليه واجب الدفاع عن الوطن, وخدمة مصالحه, والمشاركة الفعالة في بنائه وتنميته.

 ما هي نظرتكم للضجيج الذي يثار بين الآونة والأخرى بأن الشيعة لا يعيشون الانتماء إلى أوطانهم بل إلى مرجعياتهم الموجودة خارج هذه الأوطان في كثير من الأحيان؟

 هناك من يعمل على زعزعة الثقة بين شرائح الأمة في أوطانها, وإثارة القلق والمخاوف عند كل جهة تجاه الأخرى؛ مما يضعف حالة التماسك والتلاحم الوطني, ويؤسس للنزاعات والخلافات.

وما يثار حول انتماء الشيعة لأوطانهم يدخل ضمن هذا السياق, مع أن شيعة أهل البيت كانوا في طليعة المدافعين عن أوطانهم تجاه أي عدوان خارجي, والمقاومة الإسلامية في لبنان خير شاهد على ذلك,وكذلك دور الشيعة في مواجهة الاستعمار البريطاني في العراق مطلع القرن العشرين, فيما عرف بثورة العشرين, كما صوت الشيعة في البحرين لصالح استقلال البحرين وعروبتها, وفي الكويت كان للشيعة دور ريادي في مقاومة الاحتلال والعدوان الصدامي، وفي المملكة العربية السعودية وقف الشيعة إلى جانب وطنهم في مواجهة التهديدات الصدامية.

أما ارتباط الشيعة بمرجعياتهم الدينية فذلك يتم في الإطار الديني وأخذ الفتاوى والأحكام الشرعية, والمرجعية عند الشيعة تمتاز بالعمق العلمي والالتزام المبدئي, والاتزان والنضج في اتخاذ المواقف, ولذلك فهي لا تتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وهي توجّه أتباعها لخدمة أوطانهم وحسن العلاقة مع مواطنيهم.

إن بعض الساحات الإسلامية غير الشيعية تعاني من فوضى المرجعيات وإصدار الفتاوى, وهناك من لا يمتلك مستوى علمي لكنه يتصدى للقيادة كبعض أمراء الجماعات الإسلامية, ويتخذون المواقف التي يعتبرونها جهادية, والتي شرّعت للعنف والإرهاب في بلاد المسلمين وفي العالم باسم الإسلام.

 انطلاقاً من هذه الرؤية، ما هي آليات نشر وعي المواطنة في الخطاب الديني المعاصر؟

 يجب أن تقوم المؤسسات العلمية الدينية ببلورة الرؤية الإسلامية الواضحة نحو المواطنة في مجالي الحقوق والواجبات, ثم نشر الوعي بحقوق المواطنة وواجباتها في أوساط أبناء المجتمع.

إن معظم الناس يعيشون اهتماماتهم الذاتية المصلحية, والخطاب الديني يجب أن يذكر الناس بمسؤولياتهم العامة, وضرورة الاهتمام بالشأن العام, فقد روي عن رسول الله : «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته».

ويقول أمير المؤمنين «واعلم أنك مسؤول حتى عن البقاع والبهائم».

إننا نواجه في الوقت الحاضر خطاباً طائفياً, يثير عند كل طائفة الاهتمام بشأنها الخاص كطائفة, مما يكرس حالة الانعزال والانطواء, ويضعف الاهتمام بالمصالح العامة المشتركة, ويؤسس لواقع المحاصصة الطائفية.

إن سيرة أئمة أهل البيت تؤكد محورية الإسلام والأمة في اهتماماتهم, فرغم ما تعرضوا له من مظالم, إلا أنهم كانوا يتجاوزون ظلاماتهم ومعاناتهم, ويقفون إلى جانب مصالح الأمة, وخدمة وحدتها وتماسكها أمام الأخطار والتحديات.

كما قال أمير المؤمنين «والله لأسالمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلا عليّ خاصة».

العدد الأول / 2011م - 1432هـ
* مجلة (المرتقى المعرفي) الصادرة عن حوزة الإمام الخميني في دمشق التابعة لجامعة المصطفى العالمية