الشتات والتشرذم

يواجهنا العالم كأمم كبيرة وأحياناً كأمة واحدة، يتحدانا، يعاركنا، يبارزنا، وفي كثير من الأحيان إن لم يكن كلها يتمكن منا ويذلنا.

حقنا يقلبه باطلاً، وخيرنا يحوله وبالاً علينا، وإمكاناتنا يسخرها لما يريد ويخطط، وجل مخزوننا البشري المقتدر يختطفه من بين أيدينا، ونحن نتفرج حيارى متبلدين، فنحوقل وننتظر الفرج.

ثقافة ذلك العالم قائمة على الكتل الكبيرة، والمصالح المتداخلة، وتقديم الأولويات العامة على السياسات الخاصة، في الاقتصاد والتجارة، والسياسة وغيرها.

هم يقابلوننا كأمم ونحن نقابلهم كدول، هو يتحدون مع بعضهم ككتل ونحن من تفكك إلى آخر. هم يوسعون ويشبكون علاقاتهم بينهم، ونحن نتمزق ونتفتت. هم يتحدثون باسمهم جميعاً، ونحن لكل واحد منا منبره وصوته وأدواته بمفرده.

هم يجتمعون لمصالحهم ويفرضونها، ونحن نعتقد أنهم يجتمعون ضدنا. هم يرسمون مستقبلهم بجهود موحدة، ونحن نتصور أنهم يخططون لخديعتنا. هم يفكرون في أجيالهم وكيف يورثونهم القدرة والقوة، ونحن نتوجس خيفة منهم، ونكتفي بهذا التوجس.

لقد ألفت منظومتنا العربية والإسلامية ثقافة الشتات والتمزق، وبنت قوتها الوهمية عليها، وصارت أبواقها الإعلامية الصغيرة من هنا وهناك تمجد للعز والمجد والانتصارات، وتعيد تاريخاً تحاول استدعاءه كلما شعرت بالوهن، لا لتستمد منه قوتها وعزيمتها، بل لمجرد التسكين وإرضاء النفس والتسلي بالوهم.

أدرك الصهاينة أن شتاتهم في العالم مضيعة لهم، وتبديد لما يتصورونه من حقوق زعموها، فتواصوا يتجمعون ويتحدون مع بعضهم في شركات اقتصادية ضخمة، وتحالفات سياسية عاتية، وتوافق ولو على الحد الأدنى من المصالح، فكانت لهم هيبتهم ومكانتهم وقدرتهم على صناعة القرارات وتغيير المسارات، ليس على مستوى الجغرافيا المحدودة بالأرض التي احتلوها، بل على مستويات تؤثر في المعادلات الدولية كلها.

الصخب والتباكي الذي نسمعه ونشاهده حول قضايانا المصيرية، لا ينم عن قوة ولا يدل على عزيمة، بل هو تعويض عن الفعل الذي لا يتمكن الشتات منه، وكل الصيحات العالية الوتيرة والبعيدة المنال، التي تصدر من هذا الرمز أو ذاك الزعيم العربي أو القومي، هي استهلاك إعلامي محض على رأس المهلوكين، الذين تعودوا سماع الجعجعة ولم يروا الطحن بعد.

التعاون والتكاتف والتعاضد وغيرها من العبارات الجميلة كلها أوهام في واقع التشرذم الذي يعيشه العالم العربي والإسلامي، سواء على مستوى الزعامات أو الشعوب، هي وهم للإحساس بالعظمة، ووهم لاستشعار القوة، ووهم للقفز فوق المعادلات التي يصوغها الواقع الفعلي القائم على الأرض.

لابد من تفكير جديد للعالم العربي، وللزعيم العربي، وللشعوب العربية، بدايته تقوم على الاعتراف بما نحن فيه من تمزق وتناحر وضياع، وطريقه يمر عبر البناء الحقيقي للقوة، معتمدة ومتوسلة بالمخزون البشري الذي تملكه أمتنا بكل كفاءاته ومؤهلاته واستعداداته، وهدفه هو الوحدة الحقيقية القادرة على العمل والصنع والإنجاز والتحدي الإيجابي.

لن يكون التفكير الجديد مؤثراً إلا إذا كان المستقبل هو شغله الشاغل، فالبوصلة باتجاهه، والخطوات تسير نحوه، والتاريخ رافد حقيقي ومؤثر يُنظر له بالقدر الذي يؤثر في صناعة المستقبل والوصول إلى الهدف.

العدد 3404 - الإثنين 2 يناير 2012م الموافق 8 صفر 1433هـ