تقديم لكتاب الحب والفراق
حينما ترزء بفقد عزيز رسّخت محبته ومكانته في قلبك مشاهد ومواقف نبيلة، فإن استجابة وجدانك ومشاعرك لتحدي ألم المصاب بفقده تأخذ منحيين: الأول منهما الشعور بالحزن والأسى؛ لأن الموت قد أحدث فراقاً أبدياً بينك وبين من تحب، وهذا ما يواجهه المؤمن بالتسليم لقضاء الله تعالى وقدره، وطلب المثوبة بالصبر والاسترجاع كما أمر الله سبحانه بقوله: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾.
أما المنحى الثاني فهو استعادة شريط الذكريات، والعودة إلى أعماق الذاكرة والوجدان، وفتح أرشيف الصور والمشاهد المختزنة، التي جمعتك بالفقيد الراحل للتطواف بها، والوقوف أمامها، تعويضاً عما تشعر به من غياب وفراق.
وهذا ما عشته حين بلغني نبأ وفاة الحبيب العزيز الدكتور الشيخ محمد عبده يماني رحمه الله.
فقد ربطتني به علاقة محبة وتقدير، وتشاور وتعاون على البر والتقوى، في إطار تعزيز روح الإخاء والتقارب بين أبناء الأمة والوطن، ونشر ثقافة التسامح والاعتدال بين شرائح المجتمع.
وخلال هذه العلاقة الطيبة التي دامت خمسة عشر عاماً وجدت في تعامله الصدق والإخلاص والأدب الجم وتوخي الحكمة في كل حركة وموقف.
ولست الآن بصدد الكتابة عن شخصيته، أو الحديث عن صفاته، وخدماته للدين والوطن، فإن سيرته وانجازاته هي خير كتابة وحديث عنه.
وقد أشار عدد من الكتّاب ورجالات العلم والفكر في تأبينهم له إلى بعض ما يتحلى به من سمات الخير والفضل ومكارم الخلاق والشيم.
لكنني أحببت التقاط بعض الصور والمشاهد التي استعادتها الذاكرة في غمرة الحزن والأسى عندما تلقيت نبأ وفاته الأليم.
وحين أطلعني الأخ الفاضل الأستاذ كمال عبدالقادر على السيرة الذاتية التي كتبها للدكتور محمد عبده يماني، من خلال مذكرات نشرها عنه في صحيفة المدينة سنة 1414هـ وجدتها فرصة سانحة لتسجيل انطباعاتي وذكرياتي عن شخصيته الكريمة.
شاكراً للأخ العزيز الأستاذ كمال عبدالقادر أن منحني شرف التقديم لهذه الصفحات المشرقة بنور تجربة إنسانية وطنية رائدة.
كنت مشتاقاً للتعرف على الدكتور محمد عبده يماني لما سمعت عن شخصيته الفاضلة، ولقراءتي بعض كتاباته، وخاصة كتابه الأشهر والأكثر انتشاراً (علموا أولادكم محبة آل بيت النبي ) حيث نفذت الطبعة الأولى منه سنة 1410ﻫ، قبل أن يمضي على صدورها شهر واحد كما جاء في مقدمة الطبعة الثانية، ثم تعددت طبعات الكتاب وبين يدي منها الطبعة العاشرة لسنة 2006م ولعل طبعات أخرى قد صدرت بعدها.
كنت ابحث عن طريق يوصلني إليه، بعد عودتي إلى الوطن سنة 1415ﻫ، وحين توفقت لحج بيت الله الحرام، وزرت العالم الجليل السيد محمد بن علوي المالكي رحمه الله بمكة المكرمة، طلبت منه عنوان الدكتور يماني، فبادر للاتصال به، وحدثه عن رغبتي في زيارته، فحيّا ورحب، واتفقنا على موعد اللقاء بعد أيام الحج.
كان اللقاء به في منزله بجدة عصر يوم الرابع عشر من ذي الحجة سنة 1415ﻫ، وشاركني في اللقاء الأخ العزيز الشيخ حسين رمضان القريش، فاستقبلنا ببشاشة وترحاب، وابتدأت الحديث بالإشادة بكتابه (علموا أولادكم محبة آل بيت النبي )، فاستلم دفة الحديث، شاكراً لله تعالى على توفيقه له في تأليف هذا الكتاب، وعلى سعة انتشاره وعظيم استقبال الناس له، مؤكداً أن ذلك من بركة الله لأهل البيت .
واخبرني أن له كتاباً سيصدر بعنوان (إنها فاطمة الزهراء)، وأنه خلال تأليفه للكتاب تم العثور على (دار السيدة خديجة أم المؤمنين)، وهي تقع بزقاق الحجر بمكة المكرمة، ويقال له زقاق العطارين، وتعرف بمولد فاطمة، ولم تعد هذه الدار معروفة اليوم، فقد اختفت في باطن الأرض وانهالت عليها الأنقاض، وصادف أثناء الحفريات حول الحرم المكي في إطار التوسعة أن كشفت أجزاء منها، وتم التعرف عليها وتحديدها بدقة، ثم أرانا صوراً عن تلك الدار المباركة، مضيفاً إن اكتشافها في هذا الوقت من توفيق الله تعالى، حيث سيكتب عنها وينشر صورها في الكتاب، وقد طبع الكتاب سنة 1416ﻫ ـ 1996م مزيناً بتلك الصور.
واسترسل رحمه الهم في الحديث بألم وأسى عن ضياع معالم وآثار عهد النبوة بسبب الإهمال والآراء المتشددة التي تمنع من إحياء تلك المعالم والآثار، حتى لا تكون ذريعة إلى التبرك والتوسل المحظور حسب رأيها.
ثم تحادثنا عن ما يعانيه الوطن والأمة من ضعف التواصل بل القطيعة بين أتباع المذاهب والاتجاهات المختلفة، وما ينتجه ذلك من سوء الظنون، وعدم وضوح صورة كل فئة أمام الأخرى، مما يوجد أرضية للفتن والنزاعات والصراعات، وأن على الواعين المخلصين السعي لتجاوز هذه الحواجز المفتعلة بين أبناء الوطن الواحد والأمة الواحدة.
وأبدى رحمه الله استعداده للتواصل والتعاون من أجل نشر روح المحبة والتسامح، وتقوية عرى الإخاء والمودة بين أبناء الوطن والأمة.
خرجت من اللقاء معه، ونفسي يملؤها السرور والتفاؤل، بوجود مثل هذا الرجل في ساحتنا الوطنية، ممن تعقد عليهم الآمال بتخطي واقع الجفاء والفتور في العلاقات بين أطراف المجتمع، وصنع أرضية جديدة تنمو فيها بذور المحبة والثقة والعمل المشترك لخدمة المصالح العليا للدين والوطن.
وبحمد الله تعالى، كان ذلك اللقاء المبارك بداية تواصل لم ينقطع، حيث لا يكاد يمر عام لا تتكرر فيه اللقاءات كلما توفقت لحج أو عمرة، أو قصدت جدة لمشاركة اجتماعية أو ثقافية. وتفضّل بدعوتي أكثر من مرة في بيته العامر، بحضور نخبة من الشخصيات الاجتماعية والأدبية، كما كان يلبي معظم الدعوات التي حضرتها في مجالس جدة العامرة، ويضفي بحضوره على تلك اللقاءات بهجة وإفادة بمداخلاته القيمة، وتعليقاته الظريفة، وأخص بالذكر مجلس الشيخ عبدالمقصود خوجة، وأثنينيته الأدبية العريقة، ومجلس الأستاذ محمد سعيد طيب واهتماماته الإصلاحية الوطنية.
واغتنم رحمه الله فرصة زيارته للدمام لإلقاء محاضرة عن حقوق الإنسان بدعوة من فرع هيئة حقوق الإنسان، ليشرفني بزيارته للقطيف ظهر يوم الأربعاء 19 ذي الحجة 1429ﻫ الموافق 17 ديسمبر 2008م، حيث دعوت على شرفه نخبة من الأدباء والمثقفين في المنطقة، ليشاركوني الاحتفاء بزيارته الكريمة، وتخللت اللقاء كلمات ترحيب بمعاليه، كما ألقى كلمة جميلة تناولت الهم الوطني والإسلامي العام.
كان الدكتور يماني متفاعلاً ومتفائلاً جداً بانطلاقة الحوار الوطني، لأنه كان يرى فيه مؤشراً للاعتراف بالتعددية المذهبية والفكرية، يتجاوز بالوطن هيمنة فكر واتجاه آحادي، لا يرى لغيره شرعية وجود، أو حق تعبير عن رأي، كما كان يجده فرصة لظهور وتشجيع توجهات الاعتدال والتسامح في وسط كل الأطراف، مما يهيئ لتواصل وتعاون يكبح جماح التشدد والتطرف.
رأيته في الحوار الوطني الأول الذي انعقد في الرياض بتاريخ (15-18 ربيع الثاني 1424ﻫ الموافق15-18 يونيو 2003م)، يشارك بحيوية وسعادة بالغة، وقد قال لي: إن بعض من تراهم معنا في جلسات الحوار كان يتأثم من إلقاء تحية الإسلام على كثير من الحاضرين، ويرفض أن يجمعه معهم سقف واحد، لأنه يشكك في ديانتهم ويراهم مشركين أو مبتدعة أو علمانيين مناوئين للدين، إن هذا اللقاء يمثل تطوراً كبيراً إذا أحدث تغييراً في عقليات وسلوكيات المشاركين، ولم يكن مجرد استجابة صورية تكتيكية.
مضيفاً: علينا أن ننطلق من التفاؤل وحسن الظن، وان نعين القيادة السياسية على إنجاح هذا التوجه.
أما في الحوار الوطني الثاني والذي انعقد في مكة المكرمة بتاريخ 4-8 ذي القعدة 1424ﻫ الموافق27-31 ديسمبر 2003م فقد كان الدكتور يماني في قمة السعادة والتفاؤل، حيث نجح في إقناع السيد محمد بن علوي المالكي بالمشاركة، بعد أن كان متردداً، حتى أنه طلب مني أن أتحدث معه لتشجيعه على المشاركة.
كان الدكتور يماني مرتاحاً جداً لحضور هذه النخبة الوطنية الواسعة المتنوعة الاتجاهات، ومغتبطاً بمستوى الصراحة التي سادت أجواء المؤتمر في مناقشة قضية (الغلو والاعتدال).
ولا أنسى له ذلك الموقف النبيل حينما التقى المشاركون في الحوار بخادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله في الرياض (كان وقتها ولياً للعهد) حيث تحدث بعض المشاركين في اللقاء، حسب جدول أعدته إدارة المؤتمر، ولما انتهت كلمات المتحدثين وحان وقت حديث الملك عبدالله، توجه الدكتور يماني للملك ملتمساً إتاحة الفرصة لكلمة من السيد محمد بن علوي المالكي، فوافق الملك على طلبه، وكان على السيد المالكي أن ينهض ليقف أمام مكبّر الصوت، لكن الدكتور يماني بادر للطلب بأن يؤتى بمكبّر الصوت للسيد المالكي، حتى يتحدث وهو جالس في مكانه، فكانت التفاتة احترام وتقدير تنم عن شهامة وعمق أدب ووفاء.
تلقيت دعوة للمشاركة في مؤتمر يقيمه مركز الدراسات والبحوث التابع لوزارة الخارجية في الجمهورية الإسلامية الإيرانية بتاريخ 28 ـ 29 شوال 1424ﻫ الموافق 22-23 ديسمبر 2003م تحت عنوان (العالم الإسلامي التحديات والفرص) وقد أسعدني حين شاركت في المؤتمر حضور الدكتور محمد عبده يماني، والذي كان مهتماً بالتعرف على طبيعة الأوضاع في إيران، وعلى التوجهات السياسية والثقافية السائدة لدى الشعب الإيراني، وكان يتحدث أن زيارته لإيران تحقق رغبة عميقة في نفسه للإطلاع عن قرب على أوضاع الشعب الإيراني، بعد كل التطورات التي حصلت منذ قيام الجمهورية الإسلامية، مشيراً إلى أن الإعلام المسيّس يمنع من رؤية الأمور على حقيقتها.
كان حريصاً على متابعة جلسات المؤتمر، وقد ترأس إحدى الجلسات مفتتحاً بكلمة قيّمة، عما يواجه العالم الإسلامي من تحديات خطيرة تستوجب التقارب والتعاون بين حكومات الدول الإسلامية، وبين الجهات والمؤسسات العلمية والأهلية في ساحة الأمة.
وكان مهتماً بالتعرف على الشخصيات الإيرانية العلمية والفكرية، واغتنام أي فرصة للحديث معها في مختلف شؤون وقضايا الأمة.
ولاحظت الحفاوة التي أحاطته بها إدارة المؤتمر، وما كان يبديه العلماء والمفكرون من احترام لشخصيته، واهتمام بمناقشاته وملاحظاته، وبدا لي أنه كان مرتاحاً جداً لزيارته لإيران، وللحصيلة التي خرج بها من الأفكار والانطباعات.
كان الدكتور يماني ذا شخصية جذابة مؤثرة، يحب الآخرين، فتنفذ إلى قلوبهم محبته، ويحترم الناس فيبادلونه الاحترام والتقدير، يتحدث عن آرائه بثقة وتواضع، ويتعامل مع الأمور ببصيرة وحكمة، لا يبخل بمشورته على أحد، ولا يضن بجاهه وشفاعته، يحرص على المشاركة في أي مناسبة خير يدعى إليها، رغم متاعبه الصحية.
حقاً إن حياته وسيرته منارة إصلاح تستضيء بها أجيال الأمة والوطن.
ومن حق هذه الأجيال أن تتعرف على جوانب سيرة هذا الرجل، وآفاق اهتماماته وانجازاته، وتلبية لنداء هذا الحق، وانطلاقاً من واجب الوفاء، بادر أخونا العزيز الأستاذ كمال عبدالقادر لإعداد هذه السيرة الذاتية، ومن أولى منه بهذه المبادرة، وقد كان على صلة وثيقة بهذه الشخصية الكريمة، وتفيأ ظلال رعايتها ردحاً من الزمن، واجتذبته إليها صفات الخير، ومواقف الإخلاص، ومكارم الأخلاق العالية، فاندفع للكتابة عنها بقلم الحب والوفاء.
أسأل اله تعالى أن يجعل في قراءة سيرة هذا الرجل خيراً ومنفعة كما كانت حياته مليئة بالخير والنفع.
وجزى الله الأستاذ كمال عبدالقادر خير جزاء الأوفياء المخلصين.
والحمد لله رب العالمين.
حسن بن موسى الصفار
13 ربيع الأول1432هـ
16 فبراير 2011م