دعوه فهو يعرف طريقه إلى الله

في أيام الحج ليس من شيء أجمل من التفكر والاختلاء بالنفس، ليتمكن الإنسان من كشف خفايا نفسه، ومعرفة مواطن ضعفه، وتشخيص الوهن الذي يطرأ عليه في مسيرة السمو الروحي والأخلاقي التي يود الارتقاء إليها.

يستعين الإنسان في ذلك بمسيرته الطويلة الحافلة بالتقلبات والتغيرات والتذبذبات، وما فيها من الهفوات والزلات والكبوات، وما اعتراها ويعتريها من طول الأمل وتسويف العمل، والاطمئنان لتواصل الأيام وتمدد العمر، وبُعد الأجل.

وليس هنالك هدفٌ أكبر من أن يعرف الإنسان ربّه حق المعرفة، يعرفه كخالق وكرازق، ويتأمل أنعمه كمتفضل ومحسن، ويلتفت إليه وهو يكرمه بضيافته في حمايته، وعند الكعبة التي جعلها وجهةً للعباد في صلاتهم وعباداتهم.

لعل أكثر ما يصرف الحاج عن المعرفة العميقة والمتجذرة بذينك الأمرين - معرفة الله ومعرفة النفس - هو أنسه بالعبادات الجماعية التي توفرها حملات الحج عادةً، فيقرأ الأدعية في مكان سكنه في أجواء جماعية فقط، ويذهب إلى الحرم ليجلس ضمن مجموعة الحملة ويسمع دعاءً جماعيّاً فقط.

التواصل مع الله في الأجواء الجماعية والعبادة ضمن حضور جماعي عام؛ له فوائد مهمة ومؤثرة، منها ليس على سبيل الحصر، التشجيع والتفاعل مع الآخرين بالبكاء والحزن، وإحراز ضمان الدعوة لو قبلت من أحد هؤلاء الداعين والمستغفرين وغير ذلك من منافع وفوائد لست بصدد الكتابة عنها.

التأمل والتفكر عادةً لا يحصل عميقاً ومركّزاً في الإحياء الجماعي للعبادات، وإن كان الإنسان لا يُحرم من نفحاته، لكنه لا ينفذ إلى الأعماق كما في حال الخلوة بين الإنسان وربه.

حين يخلو الإنسان بربه كما يلاحظ الواحد منا، فإن حالة التأمل والتفكر في الخلق والعمل والمصير تملأ كيانه، وتسيطر على عواطفه، وتدفعه للتغيير، فيبدأ في التفكير بوسائل التغيير والإصلاح في ذاته وفي تصوراته وتصرفاته، كما أنه حين يقرأ الدعاء بمفرده؛ فإن هنالك أموراً وكلمات تستوقفه أكثر من غيرها، لأنها ذات علاقة قوية بحياته وهفواته ونزواته.

هنا يبدأ الإنسان بتكرار تلك العبارات وهو في حالةٍ من التفاعل البيني، بينه وبين ذاته، مع استحضار كبير لأوامر الخالق وزواجره ونواهيه، وتسامحه وستره وتجاوزه.

قد يتوقف الإنسان عن الدعاء ويصمت تاركاً لدموعه أن تتدفق، ولصوته أن يجهش بالبكاء ويرتفع، وربما ردّد ذنبه بلسانه وهو في حالةٍ من الخشوع والتوبة والاستغفار، وهذا قد لا يتسنى كثيراً في حالة الدعاء العام مع الناس.

إن الحل الأمثل هو تقسيم الحاج لأوقاته العبادية، في الحرم والسكن وحين تنقله بين تلك البقاع الطاهرة في فترة الحج... بين أوقات يشارك فيها في العبادات والأدعية الجماعية لما لها من أثر لا ينكر، وبين التفرغ والخلوة والانقطاع إلى الله في حالة عميقة من التفكر، ومن المناسب حتى للحملات أن توجد أوقاتاً خاصة بالحجاج يخلون فيها بأنفسهم مع توجيههم لفائدة هذه الخلوة وما تحدثه في النفس من تغييرات جادة ومركزة.

صحيفة الوسط البحرينية - العدد 3691 - الإثنين 15 أكتوبر 2012م الموافق 29 ذي القعدة 1433هـ