الأب زحلاوي عن كتاب «التسامح وثقافة الاختلاف»:

رؤية واضحة في زمن ملتهب

الأب الياس زحلاوي *

يسعدني أن أستجيب لمن دعاني «صديقه»، الشيخ حسن الصفّار، السعودي، في تقديمه لي كتاباً له، بعنوان «التسامح وثقافة الاختلاف»، وقد سألني تقديمه للقراء في طبعته الثانية، الوشيكة.

لقد طالعت هذا الكتاب بارتياح كبير، وبمنتهى التأني، ففيه من صفاء الروح، ووضوح الرؤيا، وسلاسة التعبير، وموضوعية المعالجة، وحسن الاستشهادات، وصدق التحليل، وشجاعة الاستنتاجات والمقارنات، ما يدهش القارئ... الذي لم يُتح له أن يعرف مؤلفه!

أما وقد أُتيح لي أن أتعرّف إليه، منذ ما يقارب سبع سنوات، فلم أفاجأ. فقد وجدته في الكتاب، كما عرفته خلال ثلاث لقاءات كانت لي معه، يصعب عليَّ نسيانها.

أوّلها كان إبان حوار مدهش حقًّا، دار بيننا في ندوة ضمتنا على شاشة التلفزيون العربي السوري، ونزل أثناءها، شيئاً فشيئاً، منزلة الأخ والقريب، في قلبي.

 ثانيها كان إبان زيارة جائني فيها، بُعيد الندوة، إلى مكتبي في كنيسة سيدة دمشق، بدمشق. وتبيّن لي، عبر أسئلته الكثيرة والمباشرة، مدى حبه للحقيقة، وصدق انفتاحه على «الآخر».التسامح وثقافة الاختلاف

وكان ثالثها لقائي به في مركزه، بمجمع السيدة زينب، بالقرب من دمشق، حيث استقبلني في بساطة ابن الصحراء ونبله.

وإني لأرى أن هذا الكتاب احاط بموضوع «التسامح وثقافة الاختلاف»، البالغ الدقة والحساسية، إحاطة هادئة إنسانية وشاملة، في زمن تلتهب فيه، لأدنى الأسباب، المشاعر والألسنة، بل والعقول، وقد تجلّى فيه ما يمتلك من معرفة واقعية وعميقة، للنفس البشرية، وهي معرفة تجمع بين أدقّ التفاصيل وابرز النتائج، الايجابية منها والسلبية، وذلك لا على الصعيد الشخصي والجماعي وحسب، بل الوطني والإنساني أيضًا. كما أنه يبدي مرونة موضوعية ونادرة، في أمور دينية هامة، دفعته للتذكير بأن خدمة الناس واحترامهم يأتيان في مرتبة «أهم العبادات» في الإسلام.

كل ذلك ينساب عبر فصول تترابط عضويًا وتتكامل، وفي لغة واضحة محببة، يحرص معها المؤلف على تدعيم آرائه واستنتاجاته، بمراجع دينية وعلمية واجتماعية، لا تقلّ عن ثلاثة وخمسين مرجعاً.

ويطيب لي أن أشير إلى ميزتين جليّتين لديه: الأولى، وهي أنه يتقن تجنّب التكرار والاجترار، والثانية أن استشهاداته كلها، ولا سيما استشهاداته بآيات القرآن الكريم، جاءت وجيزة، وافية، وملائمة.

وقد يأخذ عليه بعض الباحثين أو النقّاد أو القرّاء، إعراضه المتعمّد عن كل ما من شأنه أن يثير جدلاً حول ما أشار إليه من تأخّر المجتمعات الإسلامية، وهو المطّلع، دون أدنى شكّ، على ما كان عليه المجتمع الإسلامي والحضارة العربية، من تطور فكري وديني واجتماعي وفلسفي وعلمي، يوم كان الغرب لا يزال يحبو على دروب الحضارة.

إلا أني أرى أنه تلمّس بذلك، في صدق وجرأة، بعض الثغرات الأساسية في المجتمعات الإسلامية، وفتح ما يبدو لي، على صعيد الحرية الفكرية بكافة أبعادها، وعلى صعيد المبادرة، الفردية والجماعية، آفاقاً واسعة، لا يجوز إغفالها بعد اليوم، ويجدر بكل من يتولى السلطة في هذه المجتمعات، إنْ على صعيد البيت أو المؤسسات العامة، أو على صعيد الدولة، أن يطيل التأمل الصادق فيها، قبل أن يستبعدها، ليبقي واهماً الوضع الراهن على حاله، وإلا استبعد ذاته ومجتمعه من الحياة الفاعلة في التاريخ.

وفي هذا السياق بالذات، أطرح في ختام هذا التقديم الوجيز، سؤالاً ملحّاً، فرضته عليّ مرات كثيرة، قراءتي لهذا الكتاب بالذات، كما كانت قد فرضته عليّ قراءة العديد من الكتب العربية والأجنبية، التي تناولت الإسلام وتاريخ المسلمين والعرب. وإني لأرى في هذا السؤال ما يمسّ في الصميم كل إنسان عربي، مسلماً كان أم مسيحياً، لأنه يمسّ قناعاته الأساسية، كما يطال مبرّر وجوده ودوره في عالم يهدّد حتى قدرته على البقاء...

السؤال:

لئن كان الإسلام يدعو، كما جاء في هذا الكتاب وفي غيره من الكتب، في مبادئه الأساسية، للإيمان بالله في حرية، وللتعامل مع «الآخر»، كل «آخر»، ﴿بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، ويدعو لبناء أسرة يتكافل فيها الرجل والمرأة في احترام متبادل، كما يدعو لإقامة مجتمع لا تمييز فيه سوى تمييز الطاعة لله، وحب الخير للآخرين، فما الذي أقعد المسلمين، وبالتالي الإسلام، دون المضي قُدماً وصُعداً، بما كان قد بدأه وأنجزه في حقبة طويلة من الخلافة الأموية، وفي حقبة هامة أخرى من الخلافة العباسية؟

عسى أن يحمل جواب المؤلف أو غيره من الباحثين، ما يساعد المجتمعات الإسلامية، وبالتالي العربية، على التحرر أخيراً ممّا يكبّلها وممّن يكبّلونها، كي تستعيد حضورها وفعاليتها على مستوى الحضارة والتاريخ.

الأب الياس زحلاوي[1] 

دمشق في 16/2/2010م

 

[1]  وُلِدَ عام 1932 في دمشق،.تلقى تعليمه في سورية ولبنان، وواصل دراسته للفلسفة واللاهوت في القدس، وعلم النفس في جامعة ليون بفرنسا.

رسم كاهناً عام 1959

الأب زحلاوي عضو في اتحاد الكتاب العرب منذ العام 1973، وهو عضو أيضاً في جمعية المسرح، وقد اختير عضواً في اللجنة الشعبية لدعم الانتفاضة منذ تأسيسها في شهر أيار 2001، وكتب في شؤون كثيرة، أهمها الشأن الفلسطيني.

من مؤلفاته:
1. عرب مسيحيون أو مولد إيمان، مطبعة الأديب، دمشق، 1969.
2. حول الإنجيل وإنجيل برنابا، المطبعة البولسية، لبنان، 1971.
3. المجتمع والعنف (مترجم)، منشورات وزارة الثقافة، 1976.
4. شهود يهوه، من أين وإلى أين؟ مطبعة دار العلم، دمشق، 1991.
5. من أجل فلسطين، دار عطية، بيروت، 2004.
6. الصوفانية خلال 25 عاماً (ثلاثة مجلدات)، دار المجد للطباعة والنشر، 2009.
مؤلف وباحث، راعي كنيسة سيدة دمشق - سوريا.