وقفة مع الأربعين
تصوروا أن الحسم العسكري الذي تمكنوا من تحقيقه في وقت قصير بقتل الأبطال قادر على إنهاء كل شيء، وظنوا أن المزيد من الذل والإهانة لحرائر أهل البيت ومن معهن يمكنه أن يمنع من مجرد التفكير في مواصلة المسير، واعتقدوا أن المستقبل مطوّع في يد اللحظة الراهنة، لأنها سيدة الحاضر ومنتِج القادم.
مقابل ثلاثين ألفاً من العسكر المتوثب للحرب والقتال، كل شاهر سيفه، ومبرز رمحه، ومجهّز سهامه، وقف الحسين قبل ألف وأربع مئة عام، وهو يستعين بعد الله بكلمات تبين مطلبه، وما يريد، ربما لم يفقه القوم أثرها، ولم يدركوا قوتها.
إلى جانب ذلك أعدوا الكيد كله عبر إعلام مضلل، يشوه الحركة، ويلوي عنق الواقعة، ليصوّروا ابن بنت رسول الاسلام خارجياً فضّع في دماء الأبرياء، وشق عصا المسلمين، فقتل بسيف جده.
منحتهم لحظتهم ما أرادوا، لكنها خدعتهم في قدرتها على الامتداد، والقدرة على طمس الحقائق، والهيمنة بفعل الخوف على عواطف الناس وقلوبهم.
الملايين من المشاة المتجهين إلى كربلاء في زيارة الأربعين يؤكدون بمشيهم وتعبهم وبذل نفوسهم، رغم كل الأخطار القائمة فعلا، أن شهادة الكرام تفرخ أبطالاً لا علاقة لهم بالخوف أبداً، وأن المزيد من الإذلال والمهانة ترفع منسوب الشوق والتطلع إلى حياة العزة والكرامة، وأن الصعوبات في طريق نيل الحقوق أحلى من العسل.
يعلمنا التاريخ أنه بقدر التفظيع في القتل والتشويه للجثث، والعنف الذي لم يدع طفلاً صغيراً ولا شيخاً مسناً ولا امرأةً مستورة، كانت القناعة تترسخ، وكانت الآمال تتقد، وكانت التطلعات تشعر بأنها تسقى من ماء غير آسن. قالتها: «فكد كيدك واسع سعيك وناصب جهدك فوالله لن تمحو ذكرنا»، ولم يكن ذلك غيباً ينكشف على يد زينب ، ولا تخرصات المنجمين التي نسمعها هذه الأيام مع نهاية السنة الميلادية، إنما هي إشارة لسنة كونية أشار إليها الإمام علي بقوله «ما ضاع حق وراءه مطالب».
زيارة الأربعين تاريخياً وحالياً تبطل مفعول العنف والإرهاب والعسكرة والتخويف في إيقاف أصحاب الحق عن مطالبتهم وإصرارهم. تاريخياً كانت صلابة السجاد ومواقف زينب، وحالياً يمكن حتى لمن أعمى الله بصيرته أن يشاهد ببصره أطفالاً يعلمون أن طريق كربلاء محفوف بمخاطر المتربصين، الذين أدمنوا الولوغ في دماء المسلمين، ومع ذلك لا يعنيهم الخطر شيئاً، ولا يزيدهم إلا إصراراً، وهم يرددون تلك المقولة الخالدة «هيهات منا الذلة».
زيارة الأربعين تؤكد أن الحسم كل الحسم يبدأ حين تفقد القوة مفعولها فلا ترهب الصغير، ولا تخيف الهرِم، ولا تزيد المرأة المعروفة بعاطفتها إلا إصرارا.
حينها يكون كل شيء حُسم، والمسألة مسألة وقت فقط، وقت يقطع، يسميه العقلاء عبثاً، ويعبر عنه الرياضيون بالوقت الضائع، ويقول السياسيون انه وقت لإنضاج الحل، أو للتفاوض وتحسين الشروط.
حسمها الحسين بصموده، وحسمها عياله بمواصلتهم، ونحن في الأربعين إنما نقف على بدايات مشهد الحسم الذي سيكتمل مع حركة التاريخ.