الإصغاء أيها العقلاء
كلام وخطابات، بيانات وتصريحات، مقالات ومقابلات وتغريدات وعالم عربي مليء بالضجيج، لكنه الأقل إنتاجاً والأبطأ نمواً، والأكثر تخلفاً وحروباً ودكتاتورية.
عالم يعيش أزمات حقيقية ومهلكة، وهو في كل أزمة يريد أن يتكلم فقط، وأن يتحدث ويقول ويصرخ لكنه لا يريد أن يسمع، فالحديث والثرثرة المتتابعة أهون على قلبه من الاستماع.
أحياناً ترفض الدولة الاستماع لمن يخالفها وتفهم مطالبه كما حصل في بدايات اشتداد الصراع بين الحكومة المصرية والمعارضة، وأحياناً تقف المعارضة نفسها موقفاً لا يستجيب للهدوء والاستماع والحوار.
هذا الواقع هو الذي يفرض مسارات خاطئة في هذه الدولة أو تلك، وتصبح المنازعات في أوجها، وكأنها جبهات مفتوحة، لأن الأذن الصماء لا تحتاج إلى كلام هادئ كما يقول الطرفان.
تصل العدوى أحياناً إلى مكونات المجتمع الواحد، وأصحاب الهدف الواحد، والهم الواحد، فيسعى كل طرف لفرض رأيه وبرنامجه ورؤاه، ويعطي أذناً صماء لبقية الأطراف، ليبقى كل طرف حبيس أفكاره وتصوراته، ولتتحول تلك الأفكار والتصورات إلى خنادق ومتاريس تجيد التقاتل فحسب، ولا تتقن غيره إلا التعبئة الداخلية وتحصين القاعدة ضد الاستماع إلى الرأي المخالف للسائد بينها.
نخسر في هذه الشرنقات أجمل الرؤى وأحسن الرأي، ونندفع مهووسين برأينا، ومعتقدين أن الحقائق مطوعة لأفهامنا، فنخطو ونحث السير، وبعد حين نكتشف أننا لسنا على أفضل جادة ولا أحسن طريق.
ما لم يكن هناك استماعٌ وإنصاتٌ للآخر فلن نتبع الأحسن، فقد فرع القرآن الكريم الأحسن على الاستماع «الَذين يستمعون القولَ فيتَّبِعُون أَحسَنَهُ أُولئك الّذينَ هداهُمُ اللهُ وأُولئك هم أُولو الأَلبابِ».
هؤلاء تتعدد لديهم الخيارات، ويكتشفون طرقاً جديدة نحو أهدافهم، فلا يلزمون أنفسهم بمسار واحد ولا بباب واحد «لا تدخلوا من بابٍ واحدٍ وادْخُلوا من أَبوابٍ متفرّقةٍ».
كما يوسع الاستماع إلى الآخر من خياراتنا السياسية التي نراها مفيدة لأوضاعنا، فإنه يعيننا على اكتشاف نقاط التلاقي بيننا وبينه، والمشتركات التي يمكن أن نتعاون على إنجازها وتحقيقها، ولعلي لا أبالغ إن قلت أن أغلب تباينات أبناء الساحة الواحدة في أية بقعة كانوا هي محدودة وقليلة، بينما تغطي المشتركات بينهم أكثر من 90 في المئة من التطلعات والآمال.
عدم الاستماع بمعناه الواسع، والتمترس ضمن الرأي الواحد هو الذي يمنعنا من التعرف على تلك المشتركات وساحات التراضي والتوافق بيننا، فتتعبأ نفوسنا بمناطق الخلاف والتنافر، وجزئيات التباعد والتفارق، فتتباعد السواعد عن بعضها وتنفر الأيدي من بعضها.
في الساحات التي يزداد فيها الصمم تكثر الخلافات، وتتحرك الشائعات، وتزداد الاتهامات، وتتفشى الشكوك وتتباعد القلوب، وتصبح ساحةً موبوءةً وجاهزةً للصراعات الداخلية، وأرضاً خصبةً لكل شيطانٍ مريد.
نحتاج سماع بعضنا، والحديث مع بعضنا، وتعلم الإصغاء، فهو فنٌّ زهدنا فيه وتبرّأنا منه، فهو الطريق لنقترب ونتعاون ونقطع الخط على الفتنة وعلى المسيئين والكائدين.