«شيوخ» و«مراجع» يتخبطهم الشيطان!

صحيفة الشرق أحمد هاشم

الراديو، التلفاز، تعليم البنات، التصوير، أطباق البث الفضائي، جوالات الكاميرا، «البلوتوث»، لبس «الجينز»، إن الرابط الذي يجمع بين تلك الكلمات «المتقاطعة» أنها ذات يوم كانت من المحرمات التي أفتى «بعضهم» بحرمتها، لتصبح بعد أن «دار» الزمن حلاً للمحرمين ذاتهم، فهم أول من استمعوا لإذاعة لندن، وأكثرهم ظهوراً على شاشات التلفاز، والشاجبون لمن يتوانى عن تعليم بناته والحاملون للهواتف الذكية ذات الكامرتين.

تلك الفتاوى التي كان الزمن كفيلاً بكشف عورتها لمعارضتها قانون التطور، ظل غيرها كثير باباً للفتنة والتأجيج خاصة تلك التي ترتبط بالنزاع الفكري المذهبي بين السنة والشيعة.

فذلك «شيخ» يفتي بعد أن تخبطه الشيطان بكفر المختلف معه، وآخر يحل إقامة موالد الشتم والدعاء على الأموات، وثالث يحلف الأيمان الغلاظ بكفر هذا وذاك البين الذي لا مكان للشك فيه لمجرد مذهبه، ورابع يتعدى بالقول والفعل على رموز الآخر، حتى أصبحت أجيال «تويتر» و«يوتيوب» و«واتساب» يتفنون في بث سموم أولئك «الشيوخ» و«المراجع»، دعاة الفتنة دون وعي أو وجود جهة رقابية تحد من ذلك.

إن بعض قادة الفكر الديني في هذين المذهبين أصبحوا كملقنيهم حبساء لنظرية الصراع والفرقة الناجية، دون وعي بأهمية الوطن وتجانس فئاته، أما القلة منهم كما فعل بعض علماء السنة الداعين بأهمية التقارب وكذلك علماء الشيعة المؤثرين التي نشرت الشرق في عددها 679 تقريراً مطولاً -يحسب إيجاباً لهذه الصحيفة المتزنة- بعنوان مرجعيات شيعية تتحد ضدّ الطائفية والإساءة إلى الصحابة، فلا شك أن التاريخ سيذكرهم يوماً ما إيجاباً وسيتندر على أولئك المخالفين للفطرة الإنسانية التي تؤكد على اجتماعية البشر واختلافهم كما حدث من «طيبي الذكر» المحرمين لـ«البيكمون» ولبس «الكبك».

إننا بحاجة في هذه الأمة إلى قادة فكر ديني حقيقيين يعون المتغيرات الحالية ويدركون أن وحدة الوطن وأمنه أهم من تلك «السفسطة»، لا يخشون شيخا ما أو مرجعية أو غوغاء في قول الحق الذي يثبته العقل والمنطق كما فعل المرجع الشيعي السيد علي السيستاني عندما وقف ضد من ينتمون لمذهبه مستنكراً من يؤجج روح الطائفية بين السنة والشيعة ومؤكداً أن من يقوم بذلك الفعل مدان وعلى خلاف ما أمر به أئمة أهل البيت، أو كما حدث مع الشيخ حسن الصفار عندما أعلنها صريحة بأن الإساءة إلى أهل البيت أو أمهات المؤمنين أو الصحابة، عمل محرّم، ومنكر فظيع، يتنافى مع واجب الاحترام المتبادل للرموز والمقدسات والأحاسيس والمشاعر، ويؤجج الفتنة ويثير الضغائن، وهو ما أعلنه السيد علي الخامنئي الذي أفتى بحرمة الإساءة لزوج النبي الأكرم أم المؤمنين السيدة عائشة أو النيل من الرموز الإسلامية لأهل السنة والجماعة.

ولم يكن الشيخ السني علي الطنطاوي -رحمه الله – ببعيد عن إدراكه بأهمية التقارب بين السنة والشيعة لمعرفته بأهمية الوطن وإيمانه بسنية الاختلاف عندما دون في كتابه ذكريات «7/132» أنه زار «القمي» الإيراني الذي أسس دار التقريب، بل زاد الدكتور محمد سيد طنطاوي ـ شيخ الأزهر السابق ـ أنه لا فرق بين السنة والشيعة وأن كل من يشهد أن لا إله إلا الله فهو مسلم، وأن الخلاف، إن وُجد، فهو خلاف في الفروع وليس في الثوابت والأصول، والخلاف موجود في الفروع بين السنة أنفسهم والشيعة أنفسهم، وقال إن كل من يحاول إشاعة الخلاف بين السنة والشيعة محاسب، فالأمر الأهم هو ضرورة الاعتصام بحبل الله إن لم يكن من أجل الدين، فعلى الأقل من أجل الدنيا التي يلتقي فيها الجميع، وهو ما يؤكده كذلك الشيخ سلمان العودة في حواراته.لقد حان الوقت لنتجاوز الهاجس «العرقي»، فالإسلام يقرر أن الانتماء إلى الأمة الإسلامية لا يلغي انتماءهم إلى الأرض «الوطن»، كما أن الإسلام يقوم على الجمع بين الوحدة والتعدد على المستويين التكليفي والتكويني، استناداً إلى مفهوم الوسطية، وطبقاً لهذا أقر بالتعددية على المستوى التكويني بإقراره التعدد كسنة إلهية، كما أقر بالتعددية على المستوى التكليفي بإقراره تعدد الشرائع والمذاهب، ولذلك فإن فرض طائفة ما سننها على طائفة أخرى أو الاستهزاء بها ونقد مقدساتها لا يعد نمطاً صحياً في المواطنة.

أما أولئك المتربعون على المنابر الذين يكيلون الكره والبغض للآخر، فالسلطة الأمنية والسياسية عليها أن تقوم بدورها في نصحهم واستتابتهم كما حدث مع «حمزة» وغيره، حتى لا يصل الخلاف بيننا إلى درجة الكراهية والحروب «الافتراضية» التي نشهد بوادرها على مواقع التواصل الاجتماعي.

إننا في حاجة إلى أن يعي صناع القرار أهمية التقارب بين المذاهب وأن الجميع على حق فيما يعتنقه، وإلى إعلام مستنير وواعٍ يسهم في تغيير الموقف والاتجاه نحو المفهوم الحقيقي للمواطنة، بعيداً عن مس «المقدسات»، ومناهج تعليمية تؤصل مبدأ الاختلاف وسنيته، وقبل كل ذلك نحتاج «علماء» ربانيين حقيقيين يدركون أن مثيري الفتنة والباحثين في زوايا التراث ومتتبعي الشبهات عن كل ما من شأنه أن يشق عصا المسلمين يثيرون الفتن ويستغلون البسطاء من الناس لإثارتهم لا عن قوة أو حجة وإنما يعكسون حالة من الخوف والفزع تنتابهم خوفاً من انفراط سبحة السلطة من أيديهم.