قراءة الحوار في فكر الشيخ الصفار
الحوار كالماء الجاري على وجه الأرض يرطب العقول بالكمال هو سمة السماء تجلت في الأرض، يعشقها أمراء الكلام، وبها تدوم الأوطان، وقد أجاد الشيخ الصفار في الوصل إلى مقاصد المرام كماً ونوعاً من أبحاث قد عزفت عنها الأقلام. لذا تنبع أهمية كتاب الحوار والانفتاح على الآخر من عدة أمور: فمؤلفه سماحة الشيخ حسن الصفار من علماء القطيف في المملكة العربية السعودية، ومن أصحاب الفكر والاعتدال في العالم العربي والإسلامي في العصر الحديث، وله كتب مشهورة، ومحاضرات قيمة، غرست حقائق الحوار والانفتاح في ظل الوحدة الإسلامية.
دمج سماحة الشيخ بين الحوار والانفتاح وبقية المفاهيم الإسلامية في تطبيق نظرية الوحدة التي كادت أن تكون غريبة بين أهلها وهي من الأسس الاجتماعية التي تركزت في الإسلام.
الحوار عند الشيخ الصفار يبدأ من عدم الانغلاق، والذي يلخّص أسبابه في عدة أمور منها: الجهل، والسذاجة، واللامبالاة، والكسل، وضعف الثقة بالذات وبالمجتمع، وعدم مواجهة الحقيقة، فكلها عوامل نفسية واجتماعية قد يبتلى بها الشخص أو المجتمع معاً.
وبوابة الحوار تبدأ عند الصفار بنفي هذه التناقضات في الشخصية الإنسانية التي أراد الله تعالى أن تسمو بالتواصل والانسجام مع الاخر.
ويعتبر التواصل والانسجام في ملامح شخصية الصفار من المكونات الاأساسية التي يعتمد عليها فكرياً وعقدياً فهما حركتان مبنيتان على قاعدة أخلاقية رصينة لها جذور من الماضي لتمد المستقبل على اساس قاعدة الترحيب بين الاطراف المشتركة. وهذه من القيم الأساسية في نجاح التعايش الاجتماعي والتي سمح لها سماحة الشيخ في المجتمع الانساني. وفي هذه الجنبة أكدت جملة من الاختبارات والتوصيات الإسلامية:
قال تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾.
وقوله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا﴾.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾.
واكدت السنة النبوية قولاً وفعلاً مفهوم الوحدة حيث قال النبي: (المسلمون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم ويسعى بذمتهم ادناهم) على أساس التفاهم والحوار والانفتاح، وهذه النصوص الشريفة وغيرها تقتضي أن يكون الحوار والانفتاح منهجاً عاماً لكل المسلمين في جميع الأزمنة.
وهذه المفاهيم نجدها مبنية على أسس تطبيقية في فكر الشيخ الصفار من خلال معرفة الأجواء العلمية والعملية التي يتحرك بإزائها في المجتمع فتكون حركته بسكونه.
فمنهج اللاعنف الذي يمثل حركة الصفار في سلوكه العملي مع الآخرين هو ليس وليد الضعف إنما هو جزء من البنية الفكرية، والبيئة العقدية التي تربى عليها. وهي نابعة من التسامح كقيمة إنسانية تضع مصلحة المجتمع فوق كل اعتبارات فئوية أو شخصية.
تلك الشخصية التي تجلت في الحوار والانفتاح الذي يمثل حركة جوهرية مستمر تتغلغل بين أطباق المجتمع الواعي لتردم فجوات دعاة الفتنة والتفرقة. يحمل بين طياته روحاً يبثها في انهاض المجتمع بعد أن عزفت تلك النفوس وتخلفت بسبب جور الجائرين وبغي الظالمين كما وأننا بحاجة إلى غذاء في بناء أجسامنا، كذلك الأمة اليوم أحوج إلى بناء عقولها بالحوار والانفتاح على الاخر فمفهوم الحوار الذي دعا إليه الشيخ الصفار مشروع إسلامي لجمع شمل هذه الأمة المشتت. يكون مشروعاً طويل الأمد ويتطلب تطبيق القواعد الأساسية في الإسلام التي جعلها المسلمون خلفهم، وكان العنف مسرحاً لبلادهم، فعندما تركت هذه الأمة إحدى مبادئ القرآن بفعل السلطات وأئمة الجور والضلال، وجعلت القوة والقسر والقتل منهجاً مزيفاً باسم الإسلام وتحت عناوين دعا إليها دعاة الفتنة والسلاطين.
فالنتيجة عطل الحوار وانغلقت أبوابه وانطمست آثاره والقرآن ينادي صباحا ومساء ﴿وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ هذه القراءات وغيرها تصدى لها الشيخ الصفار وأدرج هذا العنف تحت عنوان التعصب. يقول في كتاب الحوار صحة 85 (إن نمو اتجاهات تعصبية في الأمة يكشف عن خلل فكري وعن مشكل اجتماعي، لا بد أن يتداركه قادة الأمة المخلصون ومفكروها الواعون قبل أن يستشري المرض أكثر في أوصال الأمة وتزداد اخطاره ومضاعفاته، وحتى لا تبقى مظاهر هذه الاتجاهات مستمسكات بيد أعداء الأمة يستغلونها لتشويه سمعة الإسلام والمسلمين). وقد أشار إلى ملاحظة مهمة هي أن لفظ التعصب والعصيبة من الألفاظ التي لم يرد ذكرها في القرآن الكريم.
وطرح الصفار عدة حلول لمواجهة التعصب بعد أن مثله بمرض فقدان المناعة الذي يؤثر على حامله ومحيطه، وأطلق عليه تبعا لعلماء النفس(التعصب السلبي) الذي يدفع أصحابه إلى الاضرار بالآخرين وينمي لديهم نوازع الحقد والكراهية على الغير وتحفيزهم نحو العدوان عليه. ويقول سماحته ص 98 (إن نمو الاتجاهات التعصبية يفقد المجتمع وحدته واستقراره حيث من الطبيعي أن يصبح لكل اتجاه تعصبي ضد فئة من المجتمع صدى ورد فعل عند الفئة المستهدفة، ويشكل حالة مضادة للدفاع عن الذات وحماية المصالح فيتحول المجتمع إلى حالة صراع وميدان احتراب بين فئاته المتمايزة عرقياً أو دينياً أو سياسياً وبذلك تنهار وحدته ويقوض أمنه واستقراره).
والسؤال الذي يطرح هل هذه الممارسات من الدين؟
يقول الشيخ الصفار ص 99 (أنه يمكن القول بجزم أن الدين في مفاهيمه وتعاليمه الواقعية التي أوحى الله بها لأنبيائه لا يمكن أن يسمح أو يجيز حالة من التعصب العدائي ضد أحد من أبناء البشر إلا أن يكون معتدياً أو ظالماً).
ومن الميزات المهمة التي يدركها القارئ وينطلق منها الشيخ الصفار في كتاب الحوار هو مفهوم التجديد إذ يحاول تقديم رؤية عملية تساهم في بلورة منهج الانسجام والحركة معاً في الحياة من خلال الفكر والعمل، وهذا ما حاول الصفار فعله بمناقشاته لهذه المواضيع في إطار احترام القيم المتعالية لروح التجديد وإخراجها بثوب جديد.
وقد اعتمد على جملة من الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة في ترسيخ هذا المبدأ في تعريفها وعلى المدركات العقلية والعلمية، فمن خلال دراسة التجديد في كتاب الحوار بعمق وتفصيل يتمكن الباحث من اكتشاف ملامح الشيخ الصفار النهضوية والتغييرية على انطلاق الفكر والتحرر من العادات (التي تضر بالمجتمع) بالقوة والإرادة.
ومن المحاور الرئيسية التي يؤكدها الشيخ الصفار في أغلب كتبه هو دور الكفاءة والإبداع في المجتمع يقول ( الحوار ص 131) (إنما تقاس المجتمعات بقوتها النوعية المتمثلة في كفاءة أبنائها وقدراتهم المتميزة علمياً وعملياً) ثم يذكر سماحة الشيخ أهم العوامل المؤثرة في نمو الكفاءات التي تعتبر قانوناً في رسم منهاج واستقرار الدولة ودعم أبنائها لخدمة المجتمع ضمن ثلاث نقاط :
1ـ الاحترام.
2ـ التشجيع.
3ـ التكريم.
هذه الحقيقة ينطلق منها الشيخ الصفار ليستعرض أهم القضايا والتطلعات في بناء الحوار وترميم ما تبقى من بعد الانحراف والاختلاف دون افراط أو تفريط في أي جانب يمكن أن نعتبرها مرحلة تأسيسية لمبدأ الانفتاح ليتعرف فيها على الآخر ويكون لها الأثر الحاسم في اختيارات مستقبلية بعد أن نودع الانغلاق الذي عكف عليه أصحاب العقول الدفينة.