عن ماذا نبحث: كرامة المسلم أم كرامة الإنسان؟
انتماء أي جمع من الناس لإطار مادي أو معنوي مشترك، تترتب عليه درجة من الخصوصية للعلاقة فيما بينهم، فإذا كانوا أبناء عشيرة واحدة مثلاً، فإنهم يشعرون بالتزام خاص تجاه بعضهم بعضا، وإذا كانوا أهل دين واحد، كانت العلاقة فيما بينهم أوثق واحترامهم لبعضهم أكثر، هذا أمر طبيعي معروف، ولكن هل تعني خصوصية العلاقة فيما بينهم الازدراء والتحقير لمن هم خارج إطارهم من بني البشر؟ وهل يعني ذلك أن الإكرام والاحترام يقتصر على الناس المشاركين لهم في انتمائهم فقط، أما غيرهم فهم بشر من الدرجة الثانية؟
إننا نجد في النصوص الإسلامية تأكيداً على فضل الإسلام والإيمان، ومدخليته في كمال شخصية الإنسان، وإشادة بمكانة الإنسان المسلم ـ المؤمن، وتوجيهاً لاحترامه ورعاية حقوقه، كل ذلك مفهوم في إطار الاعتقاد بأحقية الدين وصوابيته، وضمن توثيق عرى التلاحم بين أبنائه ومعتنقيه.
ولكن هل يستبطن ذلك التنكر لكرامة الإنسان خارج دائرة الإسلام؟
وهل يسوّغ النظر بازدراء واحتقار لجميع أبناء البشر غير المسلمين ـ المؤمنين؟ أم هل يبرر انتهاك شيء من حرماتهم وحقوقهم المادية والمعنوية؟
لقد عانت البشرية طوال عهودها من انتشار مثل هذه التصورات، التي تحصر الكرامة الإنسانية في فئة من الناس، وتحط من شأن وقدر من سواهم، مما يؤسس لتبرير العدوان وانتهاك الحقوق والحرمات.
فالنازية التي أطلق حركتها هتلر، كانت تبشر بتفوق العرق الآري، وأن اليهود والسلافيين والأقليات الأخرى هي في مرتبة دنيا، ويقضي ذلك بإبعاد غير الآريين عن وظائف الدولة، وبمنع الزيجات المختلطة، وبتعقيم المعاقين والمتخلفين عقلياً، وبمحاربة كل عرق غير آري.
واليهود والنصارى كانت تسود في أوساطهم نظرية الشعب المختار، التي تبرر ازدراء بقية الشعوب، والتجاوز على حقوقها، كما تحدث عن ذلك القرآن الكريم. يقول تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ﴾.
هذا هو المنطق الإلهي الذي يقرر التساوي بين أبناء البشر في ذاتيتهم الإنسانية ﴿بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ﴾.
ولا يعني الإنتماء لعرق أو دين تبرير الازدراء للآخرين أو التجاوز على حقوقهم، كما كان يرى أولئك اليهود الذين لا يحترمون أموال غير اليهود باعتبارهم أميين لا إثم في مصادرة حقوقهم، كما يقول عنهم تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾.
إنهم ينسبون إلى شريعتهم المنزلة في الأصل من الله تعالى: أنها تجيز لهم مصادرة أموال غير المنتمين إلى دينهم، ﴿لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ ويأتي الرد القاطع من الله تعالى أن ذلك القول كذب وافتراء، حيث لا يمكن أن يشرع الله تعالى للعدوان على حقوق الآخرين: ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾.
ويبدو أن تنديد القرآن الكريم بمثل هذه الآراء والتصورات ورده عليها لم يكن لمجرد الإدانة والتشهير بأولئك اليهود والنصارى، وإنما الأهم من ذلك تحذير الأمة الإسلامية من الوقوع في نفس المنزلق، بأن تشيع في وسط المسلمين نظرات ازدراء وتحقير تجاه الآخرين، تبرر لتجاوز حرماتهم والاعتداء على حقوقهم. إن هدف القرآن الكريم تأصيل مبدأ كرامة الإنسان لإنسانيته أولاً وقبل كل شيء، فمن أي عرق انحدر، وإلى أي دين وعقيدة انتمى، فهو إنسان له كرامته الذاتية.
إذ تشيد آيات القرآن الكريم بمكانة الإنسان وخصائصه الفريدة كقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾. ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾.
صحيح أن بعض الآيات تتحدث عن نقاط ضعف وجوانب سلبية في شخصية الإنسان، لكنها تأتي في سياق توجيهه إلى تجاوزها والسمو عليها عبر مدارج الكمال والرقي. فهي حالات يسف إليها الإنسان عند غفلته، ولا تسلبه الأهلية الذاتية للتفوق والامتياز.
وعادة ما يقف الخطاب الديني عند هذه الحالات مركزاً عليها، ليشكل من خلالها صورة الإنسان في لحظات ضعفه وغفلته، وكأنها الصورة التي أراد القرآن تقديمها عن الإنسان، وذلك هو مكمن خلل ترتبت عليه آثار سلبية في النظرة إلى الإنسان والتعامل معه من قبل بعض الأوساط الدينية.
إننا لو استقصينا النماذج البشرية التي قدمها القرآن الكريم، لوجدنا أن العدد الأكبر منها هو من الشخصيات العظيمة الصالحة، كالأنبياء والأولياء والمحسنين، بينما ينخفض عدد النماذج المنحرفة الفاسدة، هذا على مستوى الحديث عن النماذج، ولعل ذلك يوحي لنا بتفضيل القرآن الكريم لتقديم الإنسان في صورته النبيلة المشرقة. مع الالتفات إلى ما أشار إليه القرآن الكريم من انتشار حالات الغفلة والضعف في أوساط بني البشر.
وفي حديث القرآن عن خلق الإنسان تبرز المكانة الفريدة التي اختصه الله تعالى بها. ومن تجلياتها الملاحظات التالية:
* ليس في القرآن حديث تفصيلي عن خلق سائر الكائنات كالسماء والأرض والملائكة أو الموجودات الأخرى، كما هو الحال في الحديث عن خلق الإنسان.
* لقد بدأ الوحي الإلهي بالحديث عن الخلق وخص الإنسان بالذكر من بين جميع المخلوقات ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ﴾.
* إن الله تعالى قد خلق كل الكائنات بقدرته، لكنه تعالى أحاط خلق الإنسان برعاية وتكريم استثنائي، حيث قال تعالى: ﴿قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾. فالعظيم الشأن لا يتولى بيديه إلا الأمر الكبير القدر الرفيع القيمة، ولأن الله تعالى منزه عن مشابهة الخلق بالتجسيم، فإن المقصود هو خلق الإنسان بعناية خاصة.
* كما نص تعالى أنه قد نفخ في الإنسان من روحه تعالى، ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي﴾، وبالطبع لا يعني ذلك حلول جزء من الله تعالى في الإنسان كما زعم بعض الحلوليين، ولكنه يعني إظهار التشريف والتكريم للإنسان بإسناد النفخ، وإضافة عنصر الروح إليه تعالى.
* وقد أعلن الله تعالى لملائكته عن إرادته لخلق الإنسان، كما يعلن أي عظيم عن مشروع مهم يريد إنجازه، يقول تعالى: ﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ﴾.
* وعندما خلق الله تعالى الإنسان أقام له مهرجاناً كونياً للاحتفاء بولادة الإنسان ووجوده، وأمر الملائكة بأداء مراسيم التحية والإكرام له بالسجود ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ، فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ﴾، ولعلها إشارة إلى خضوع قوى الكون للإنسان بتسخيرها له من قبل الله تعالى.
وقد استكثر البعض على الإنسان نوعاً أن تسجد له الملائكة، فقال إن السجود هو لشخص آدم باعتبار نبوته، وليس لجنس البشر، لكن سياق الآيات القرآنية يدحض هذا القول، حيث يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ﴾، والآية خطاب للبشر وامتنان عليهم بالخلق ثم التصوير ثم سجود الملائكة لهم ممثلين في شخص أبيهم الأول آدم.
هكذا يتحدث النص القرآني عن مكانة الإنسان وموقعيته، بينما لا يواكب الخطاب الإسلامي هذه الدرجة من الاهتمام بإبراز قيمة الإنسان. لقد ورد في كنز العمال عن رسول الله قوله: »ما شيء أكرم على الله من ابن آدم«.