تقديم لكتاب «رسالة سلام مذهبي» لمؤلفه الشيخ حيدر حب الله
بسم الله الرحمن الرحيم
أول أمر نزل به الوحي الإلهي على النبي هو الأمر بالقراءة ﴿اقْرَأْ﴾.
وأن تكون القراءة من منطلق سليم صحيح، لذلك قيدها الأمر الالهي ﴿بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾.
توخي القراءة السليمة لما حول الانسان ومن حول الإنسان هو السبيل لحياة لائقة ناجحة.
لذلك توالت آيات القرآن الكريم تدعو الإنسان للتعرف على الطبيعة التي تحتضنه، وعلى أبناء جنسه الذين يعيشون معه، ويشاركونه المواطنة في هذه الحياة.
فقد شاءت حكمة الله تعالى أن يتنوع البشر في مناطقهم وأعراقهم وانتماءاتهم، مما ينتج اختلاف الثقافات والمصالح والتوجهات، وحتى لا يكون هذا الاختلاف مانعاً من التآلف والتعاون، أو دافعاً للخصومة والصراع، فإن عليهم أن يتعرفوا على بعضهم بعضا، وأن يحسن كل طرف قراءة الطرف الآخر، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ [الحجرات: الآية13].
والتعارف الصحيح هو الذي ينطلق من قراءة موضوعية قيمية، بعيداً عن نزعات التعصب للذات، ومشاعر التعالي على الآخر، ذلك ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾
القراءة الموضوعية للآخر هي التي توفر أرضية التعايش والتعاون والتكامل معه، بينما تدفع حالة الجهل بالآخر، وسوء قراءته إلى التحفظ تجاهه، وربما الصراع معه.
وإذا كان الأمر الالهي يوجّه للتعارف بين مختلف شعوب وقبائل البشر، فمن المؤكد أولوية توجه هذا الأمر للشعوب والقبائل المنتمية لأمة الإسلام على اختلاف تنوعاتها العرقية والقومية والمذهبية، لأن التعارف بين مكونات الأمة هو الخطوة الأولى في طريق انجاز وحدتها، وتحقيق الأخوة الايمانية فيما بين أبنائها، والوحدة والأخوة مبدءان قررهما القرآن وأكد عليهما. كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ [الانبياء:الآية92] وقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾[الحجرات: الآية10].
ولعل التنوع المذهبي هو أكثر ألوان التنوع حساسية داخل الأمة الإسلامية لارتباطه بمحور الانتماء الاساس وهو الدين. لذلك اكتنفت هذا التنوع كثير من التعقيدات والحساسيات، كانت مبرراً لحالات من القطيعة والجفاء والخصومة والصراع.
إن التنوع المذهبي واقع قائم في الأمة منذ عصورها الأولى، ولا يمكن إلغاؤه أو التنكر له، ويُفترض أن لا يعوّق ولا يمنع تحقيق التعايش والتآلف، وانجاز الوحدة والتآخي.
كيف ونحن نجد أمماً أخرى تعيش مستوى من الاتحاد، وحالاً من الاستقرار السياسي والاجتماعي، مع تعدد الأديان والمذاهب في شعوبها. فلماذا يتعايش الآخرون فيما بينهم، مع تناقض أديانهم ومعتقداتهم، ويعجز المسلمون عن تحقيق التعايش عندما تتعدد مذاهبهم داخل دينهم الواحد؟
ليس هناك سبب خفي، ولا أمر غيبي، ولسنا بحاجة لاجتراح معجزات، وابتكار حلول سحرية، فتجارب الآخرين ماثلة أمامنا، ويمكننا الاستفادة منها.
كانت الأمم الأوربية تعيش ما نعانيه من نزاعات وخصومات واحتراب طائفي، لكنها عبرت تلك الحالة وتجاوزتها إلى شاطئ الاستقرار السياسي والاجتماعي، بعد انبثاق حركة التنوير في ربوعها، وبعد الجهود الكبيرة التي بذلها المفكرون المصلحون، في بث نهج العقلانية وثقافة التسامح، وتعزيز قيم الحرية والعدل والمساواة، وتمخض عن تلك الجهود والتضحيات اقرار مبادئ حقوق الإنسان، وفي طليعتها احترام خيارات الإنسان في معتقداته وممارساته الدينية، وحقه في التعبير عن ذاته رأياً وسلوكاً، في إطار عدم التعدي على حق الغير.
ومع اقرار التعددية، وحرية الرأي، استطاع الناس أن يعبّروا عن ذواتهم، وأن يتعرفوا على بعضهم بعضاً، فاكتشفوا مواقع اتفاقهم، وحدود اختلافهم، وتوافقوا على خدمة مصالحهم المشتركة، واحترام كل طرف خصوصيات الآخر.
وما أحوج مجتمعاتنا الإسلامية اليوم، وهي تواجه اعاصير الفتن الطائفية، وحالات التمزق والانقسام في أوطانها بمختلف العناوين، ما أحوجها إلى حركة تنوير إسلامية، تحيي قيم الدين الأصيلة، التي تؤكد على كرامة الإنسان وحريته، وتدعو إلى التعارف بين بني البشر، وإلى التعاون والوحدة والأخوة بين المؤمنين.
إنه لا يصح لعلماء الأمة ومفكريها أن يتفرجوا على مشاريع الفتنة والانقسام، وهي تنشر الدمار والخراب في بلاد المسلمين، وتمزق أوطانهم، وتذيق بعضهم بأس بعض تكفيراً وقتلاً وتنكيلاً وتهجيراً.
ربما يبرر بعض العلماء والمفكرين عدم تصديهم لمواجهة هذه الفتن، بأن محركها هو العامل السياسي، وأن دور الفكر والثقافة ثانوي هامشي، لا يُصغى له، ولا يؤثر في مسار معارك الفتنة والانقسام.
فالأنظمة الاستبدادية، والقوى السياسية الانتهازية، هي التي تحرك أوتار الفتنة الطائفية، منعاً لتوحد الشعوب ضد استبدادها، ولإشغال الناس عن فسادها بهذه المعارك الزائفة، ولاستغلال المشاعر المذهبية في خدمة المصالح السياسية.
كما أن القوى الاجنبية الطامعة قد تصب الزيت على نار هذه الفتن، لتعزيز هيمنتها ونفوذها في بلاد المسلمين.
ولا نقاش في محورية العامل السياسي، ودوره الأساس في إثارة الفتن الطائفية، والنزاعات البينية في الأمة، لكن ذلك لا يسقط واجب الانذار والتبيين والتوعية عن كاهل العلماء والمفكرين.
إن التقاعس والتقصير في نشر المفاهيم القرآنية الداعية إلى التعارف والتعاون والوحدة والأخوة، والمحذّرة من التفرق والتنازع والعدوان، هو مصداق للتخلي عن مسؤولية عظيمة تستوجب اللعن من الله ومن أجيال الأمة، التي تدفع ثمن هذا التقاعس والتقصير.
يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾[البقرة:الآية159].
من ناحية أخرى فإن العامل السياسي لا يتحرك من فراغ، بل يستثمر حالة القطيعة المعرفية بين أتباع المذاهب، ويمارس التعبئة الطائفية والتضليل الإعلامي، ليغذي الشكوك والاتهامات المتبادلة، وليثير قلق جمهور كل طرف تجاه الآخر.
وحين لا يكون هناك جهد مقابل يُعنى بتشجيع التواصل المعرفي، وقراءة الأطراف لبعضها بموضوعية وإنصاف، ويكشف أساليب التضليل والتعبئة الطائفية، ويذكّر جماهير الأمة بمبادئ وقيم دينها الأساس، وبما يتهدد وجودها من أخطار، حين لا يكون ذلك، فإن الساحة ستكون خلواً لنشاط العامل السياسي المضاد، ليواصل مشروع الفرقة والانقسام والاحتراب.
من هنا يمكن الجزم والتأكيد بأن تصدي العلماء والمفكرين لمواجهة تيارات الفتن، وقيامهم بواجب الدعوة إلى الوحدة والأخوة، ونشرهم لثقافة المحبة والتسامح وقبول التعددية، واحترام الرأي الآخر.. هذا التصدي سيكون له دور مؤثر في محاصرة العامل السياسي، والحد من فرص تمدده وتوغله في ساحة جماهير الأمة.
إنه لخطر كبير على مستقبل الإسلام والأمة أن يتسرب اليأس والقنوط إلى قلوب علمائها ومفكريها، فيشل حركتهم، ويقعد بهم عن القيام بواجب الدعوة والنصيحة والإصلاح.
فمهما اشتدت الخطوب، وتعقدت الأمور، وساءت الأوضاع والأحوال، ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً﴾ كما يبشرنا الرب سبحانه وتعالى، وكما ينبئنا تاريخ هذه الأمة، وتجارب الأمم الأخرى.
صحيح أن ما تعيشه الأمة من واقع احتراب وتناحر طائفي، هو الأسوأ في تاريخها، وينذر بخطر ماحق.
لكني اعتقد بوجود ضوء في نهاية النفق، وأن هناك مؤشرات تدل على أن الاشتداد الحاصل في الأزمة الطائفية، قد يدفع بها نحو الحل والانفراج، وأن المتوقع بدأ العد العكسي والتنازلي لهذه الازمات.
أولاً: لأن التطرف والتشدد فيما بين المذاهب قد انتقل إلى داخلها أيضاً، فأصبح السنة والشيعة يعانون من المتشددين والمتطرفين في داخلهم، والذين يريدون فرض رؤيتهم الخاصة وممارسة وصايتهم على جميع المنتمين لمذهبهم، وهذا سينتج وعياً ورفضاً لمنحى التشدد والتطرف، ويدفع باتجاه ثقافة التعددية والتسامح.
ثانياً: اتساع رقعة الوعي وتنامي روح الانفتاح في ساحة الأمة، مما يشجع التوجه للمراجعة والنقد الذاتي داخل المذهب، لتظهير وابراز مواقع الاشتراك والاتفاق، والعناصر المحفزة على التقارب والاتحاد في تراث كل مذهب، إلى جانب معالجة نقاط التوتر والاشتباك المذهبي، باعاداتها إلى اطار الاختلاف العلمي، وتنوع الاجتهادات، وأن بعض تلك المسائل لا تعدو أن تكون رأيًّا محدوداً داخل هذا المذهب أو ذاك، لا يعبّر عن مشهور المذهب والرأي العام في أوساطه علمائه.
ومع أن صخب التطرف والتعصب المذهبي لا يزال هو الصوت الأعلى بفعل العامل السياسي، إلا أن صوت التعقل والاعتدال، واتجاه التسامح والتواصل آخذ في التجذّر والانتشار، في أعماق النخب العلمية والفكرية والأجيال الصاعدة في الأمة.
ثالثاً: تطورات الحياة، ومتغيرات الوضع العالمي والإقليمي، فرضت معادلة توازن بين القوى والأطراف، تستوجب الخروج من وهم التفكير في إبادة طرف لآخر أو الغائه وتهميشه.
فنحن نعيش عصر انفجار الهويات، وارتفاع معنويات مختلف الأقوام والطوائف، وتوفر وسائل القوة بين يدي مختلف الأطراف، ووجود فرص التحالفات على المستوى العالمي.
ويعني ذلك أن لا أفق ولا نتيجة لأي نزاع طائفي، سوى إهدار الإمكانات والطاقات، وتمزيق الأوطان، وإيقاع المزيد من الخسائر والضحايا. دون أن يتمكن أي طرف من تحقيق مكسب أو انتصار حاسم، والمستفيد الوحيد هم أعداء الأمة.
هذه الحقيقة لا تخطؤها الآن أنظار الواعين والمهتمين بمتابعة تطورات الساحة، ويمكنها أن تشكل خلفية جيدة وأرضية مناسبة، لصالح توجهات التعايش والمشاركة والتوافق الوطني، وعلى مستوى الأمة.
رابعاً: انفتاح أبناء الأمة على تجارب الشعوب والأمم الأخرى، التي تنعم بالاستقرار السياسي والاجتماعي، ويتعايش ابناؤها في إطار المواطنة، مع احترام الخصوصيات الدينية والثقافية لكل جماعة وطائفة.
هذه العوامل وأمثالها تفتح أمامنا آفاق الأمل بإمكانية تجاوز الأمة لهذه الفتن والمحن القائمة، إذا ما تحمّل العلماء والمفكرون والواعون المخلصون، مسؤوليتهم في التصدي لمهمة الإصلاح والإنقاذ، وبادروا لتكثيف الجهود في نشر ثقافة الوحدة والتآخي والوئام.
وبين يدي القارئ الكريم رسالة قيّمة تحمل هذا الهمّ الكبير.
إنها رسالة سلام بين أتباع المذاهب الإسلامية من السنة والشيعة.
سلام ينطلق من الوعي والقراءة الموضوعية للآخر، ويتعزّز بالحوار العلمي الهادئ الذي يفتح كل الملفات الساخنة بشفافية وصدق. ويضع نصب عينيه قيم الإسلام العليا، ومصالح الأمة وتطلعات شعوبها نحو الأمن والاستقرار والتقدم والازدهار.
هذه الرسالة التي تعبّر عن رأي وموقف قطاع واسع من المنتمين لمذهب أهل البيت من الشيعة الأمامية صاغها قلم فقيه أكاديمي هو العلامة الأستاذ الشيخ حيدر حب الله، وهو أستاذ الدراسات العليا في الحوزة العلمية في قم المقدسة، والذي أثرى الساحة الفكرية بعطائه العلمي المميّز، حيث صدرت له مجموعة من المؤلفات العلمية التخصصية في الفقه والحديث وعلوم القرآن، وقضايا الفكر الإسلامي.
إنه أنموذج للفقيه الإسلامي الذي يتخطى حدود الاجتهاد المذهبي، ويتعاطى مع التراث الإسلامي لكل المذاهب بايجابية ناقدة، ويواكب تطورات الفكر الإنساني في مختلف مدراسه وتوجهاته.
وتمثل هذه الرسالة مستوى متقدماً من خطاب الوحدة والتقارب، يتجاوز منطق التبرير والدفاع عن الذات المذهبية إلى موقف الشفافية ونقد الذات، والتواصي بحق انصاف الآخر، والصبر في ميدان محاسبة النفس.
أرجو أن يكون لهذه الرسالة الصادقة ما تستحقه من تجاوب واهتمام في ساحة الواعين من أبناء الأمة من السنة والشيعة.
وأن تبعث أملاً جديداً في أوساط المهمومين بمستقبل الإسلام والأمة يدفع لتكثيف المساعي والجهود من أجل تحقيق الوئام والسلام في كل الأوطان.
حسن موسى الصفار
20 ربيع الآخر 1435هـ
20 فبراير2014م