كرامة الإنسان

مكتب الشيخ حسن الصفار

من مناطق الخلل الرئيسة في مساحة واسعة من الخطاب الإسلامي القول بتجزئة الكرامة الإنسانية، وأنّها خاصة بالمسلمين فغير المسلم يشمله التكريم، وتضييق الدائرة أكثر بتخصيصها بالمؤمنين، أي أتباع المذهب فقط، وما عداهم من المخالفين والمبتدعة، لا ينطبق عليهم عنوان التكريم، وتستباح بعض حقوقهم المادية والمعنوية، مع أنّ القرآن نصّ على منح الكرامة من الله تعالى لعموم بني آدم، يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا[سورة الإسراء، الآية 70].

معنى التكريم:

قال الجوهري: «التكريم والإكرام بمعنى واحد، والاسم منه: الكرامة، وجاء في القاموس: يقال: أكرمه وكرمه: عظّمه ونزّهه».

والمعنى: التكريم هو التنزيه.

ما المراد بالتكريم في الآية الكريمة:

جاء في الميزان: «يظهر أنّ المراد بالآية بيان حال لعامة البشر مع الغضّ عمّا يختصّ به بعضهم من الكرامة الخاصة الإلهية والقرب والفضيلة الروحية المحضة فالكلام يعمّ المشركين والكفار والفسّاق وإلّا لم يتم معنى الامتنان والعتاب».

وحملناهم: أحد مظاهر تكريمهم.

ورزقناهم من الطيبات: من الأشياء التي يستطيبونها من أقسام النعم كأحد مظاهر التكريم.

مثل من يُدعى إلى الضيافة وهي تكريم ثم يرسل إليه مركوب يركبه للحضور لها وهو تكريم ثم يقدم له أنواع الأغذية والأطعمة اللذيذة الطيبة وهو تكريم. فهو من قبيل عطف المصاديق المترتبة على العنوان الكلّي المنتزع فيها[1] .

روى ابن عباس عن رسول الله قوله: «كلّ شيء يأكل بفيه إلّا ابن آدم فإنه يأكل بيديه».

ومن طريف ما يحكى في هذا الصدد: أنّ الرشيد أحضرت عنده أطعمة فدعا بالملاعق وعنده أبو يوسف، فقال له: جاء في التفسير عن جدّك في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ جعلنا لهم أصابع يأكلون بها، فردّ الملاعق وأكل بأصابعه.

هل هناك فرق بين التكريم والتفضيل أم أنّه جاء على نحو التكرار؟

المراد بالتكريم تخصيص الشيء بالعناية وتشريفه بما يختصّ به ولا يوجد في غيره، وبذلك يفترق عن التفضيل فإنّ التكريم معنى نفسي وهو جعله شريفًا ذا كرامة في نفسه، والتفضيل معنى إضافي وهو تخصيصه بزيادة العطاء بالنسبة إلى غيره مع اشتراكهما في أصل العطية، والإِنسان يختص من بين الموجودات الكونية بالعقل ويزيد على غيره في جميع الصفات والأحوال التي توجد بينها والأعمال التي يأتي بها.

قال الإمام عليّ: إن الله عزّ وجلّ: «ركّب في الملائكة عقلًا بلا شهوة، وركّب في البهائم شهوة بلا عقل، وركّب في بني آدم كليهما. فمن غلب عقله شهوته، فهو خير من الملائكة، ومن غلبت شهوته عقله، فهو شرٌّ من البهائم».

ويقول صاحب الميزان: «لا يبعد أن يكون المراد بمن خلقناهم أنواع الحيوانات ذوات الشعور والجن»[2] .

الغرض بيان ما كرّم الله به بني آدم وفضّلهم على سائر الموجودات الكونية وهي فيما نعلم الحيوان والجنّ، وأما غيرهم فهم خارجون عن محلّ الكلام؛ لأنّهم موجودات نورية غير كونية ولا داخلة في مجرى النظام الكوني، والآية إنّما تتكلم في الإنسان من أنه أنعم عليه بنعمٍ نفسية وإضافية.

وأمّا الملائكة فوجودهم غير هذا الوجود فلا يتعرض لهم في ذلك بوجه، وبذلك يظهر فساد ما استدلّ به بعضهم بالآية على كون الملائكة أفضل من الإنسان.

إنّ الذي تعرّضت له إنّما هو التفضيل من حيث الوجود الكوني الدنيوي والملائكة غير موجودة بهذا النحو من الوجود.

المراد بالكثير في الآية الجميع ومن بيانية والمعنى فضلناهم على من خلقنا وهم كثير.

التكريم أصل فقهي:

تنبّه العلامة السيد محمد فضل الله ـ من بين أغلب المفسّرين ـ لهذه الحقيقة في سياق تفسيره للآية الكريمة حيث قال:

قد يخطر في البال ألّا يكون هذا الإعلان عن تكريم الله لبني آدم مجرَّد حديث عمّا أفاض الله على الإنسان من ألطاف التّكريم التكوينيّ في طبيعته ودوره في الحياة، بل يتعدّاه إلى الخطّ التّشريعيّ الذي يوحي بكرامة الإنسان كأصلٍ من أصول النّظرة القرآنيّة إليه، بحيث تؤكّد كلّ تصرّف يكرِّس كرامته، وترفض كلَّ ما يؤدّي إلى إهانته من موقعه الإنساني، بعيدًا عن العناوين الثانويّة التي قد تجيز إهانته والتعدّي على حرمته على أساس بعض الأوضاع أو الصّفات أو الانتماءات المنحرفة عن خطّ الله، لتكون لنا من خلال ذلك قاعدة شرعيّة، هي احترام الإنسان في نفسه وماله وعرضه، كأصل إسلاميّ فقهيّ، لا يجوز الخروج عنه إلّا بعنوان آخر مخصّص له...

وقد يكون الأساس في استيحاء هذا الأصل الفقهيّ من الآية، هو أنَّ الله إذ كرَّم بني آدم في إعدادهم التّكوينيّ والعمليّ، فإنَّنا نستفيد من ذلك أنَّه يريد لهم أن يؤكِّدوا هذه الكرامة على مستوى وجودهم الحياتيّ، وفي علاقاتهم الاجتماعيّة التي تحكم تصرّف كلّ واحد منهم تجاه الآخر، ولا سيّما أنَّ التصرّف السلبيّ المخالف لذلك، يتنافى مع خطّ الكرامة الإلهيّة للإنسان؛ لأنّه ينتهي إلى الإهانة لمن يريد الله احترامه[3] .

نظرة تاريخية:

لقد عانت البشرية طوال عهودها من انتشار تصورات خاطئة تحصر الكرامة الإنسانية في فئة من الناس وتحطّ من شأن وقدر من سواهم، مما يؤسّس لتبرير العدوان وانتهاك الحقوق والحرمات.

فاليهود والنصارى كانت تسود في أوساطهم نظرية الشعب المختار، التي تبرّر ازدراء بقية الشعوب، والتجاوز على حقوقها، كما تحدّث عن ذلك القرآن الكريم، يقول تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّـهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ[سورة المائدة، الآية: 18]، هذا هو المنطق الإلهي الذي يقرّر التساوي بين أبناء البشر في ذاتيتهم الإنسانية ﴿بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ.

ولا يعني الانتماء لعرق أو دين تبرير الازدراء أو التجاوز على حقوقهم، كما كان يرى أولئك اليهود باعتبارهم أميين لا إثم في مصادرة حقوقهم، كما يقول عنهم تعالى: ﴿قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ[سورة آل عمران، الآية 75].

إنّهم ينسبون إلى شريعتهم المنزلة في الأصل من الله تعالى بأنّها تجيز لهم مصادرة أموال غير المنتمين إلى دينهم ﴿قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ويأتي الردّ القاطع من الله تعالى أنّ ذلك القول كذب وافتراء، حيث لا يمكن أن يشرّع الله تعالى للعدوان على حقوق  الآخرين، ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّـهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [سورة آل عمران، الآية 75].

ويبدو أنّ تنديد القرآن الكريم بمثل هذه الآراء والتصورات، وردّه عليها، لم يكن لمجرّد الإدانة والتشهير بأولئك اليهود والنصارى، وإنّما الأهمّ من ذلك تحذير الأمة الإسلامية من الوقوع في نفس المنزلق بأن تشيع في وسط المسلمين نظرات ازدراء وتحقير تجاه الآخرين وتبرز لتجاوز حرماتهم والاعتداء على حقوقهم.

إنّ القرآن الكريم إذ يقول: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ فهو يقصد أنّ بني آدم مكرّمون لأنّهم بنو آدم، فحينما يقال حقوق الإنسان، معنى ذلك أنّ للإنسان شرفه وكرامته بما هو إنسان حتى ولو كان كافرًا؛ لأنّ الإنسان محترم بذاته عند الله، وهذا صريح معنى الآية. ويقول الإمام عليّ: في عهده لمالك الأشتر: الناس صنفان: «إمّا أخٌ لك في الدين أو نظيرٌ لك في الخلق» وبالتالي فإنّ للإنسان حرمته بما هو إنسان.

إذًا إنّ هدف القرآن الكريم تأصيل مبدأ الإنسان لإنسانيته أولًا وقبل كلّ شيء، فمن عرق انحدر وإلى أيّ دين وعقيدة انتمى، فهو إنسان له كرامته الذاتية.

17 ذو القعدة 1425هـ الموافق 29 ديسمبر2004م
[1] حمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج13، ص152-154، الطبعة الأولى 1991م بيروت، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات.
[2] المصدر السابق.
[3]  محمد حسين فضل الله، تفسير من وحي القرآن، ج14، الطبعة الثانية 1998م، (بيروت: دار الملاك)، ص180.