حماية مصالح المجتمع مقصد ديني

 

 التشريعات والأحكام الدينية قائمة على توخّي مصلحة الإنسان وإبعاد الضّرر عنه، على الصّعيدين المادي والمعنوي، فإذا ما طرأ ظرف أو نشأ وضع تغيّرت فيه هذه المعادلة، وأصبح التزام الحكم الشرعي موجباً للضرر والأذى، فإن الشارع المقدّس يعطل ذلك الحكم بحقّ المكلف، يضع له حكماً بديلًا يراعي مصلحته ويدفع عنه الضرر.

فمن القواعد التشريع الديني رفع الحرج والعسر والضرر، كما نصّ على ذلك القرآن الكريم، يقول تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج، آية: 78]

ويقول تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ) [البقرة، آية: 185]

ويقول تعالى: ﴿وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ [الأنعام، آية: 119]

وورد عنه أنه قال: «لا ضَرَرَ ولا ضِرارَ»[1].

   وإذا كان هذا الأمر واضحًا على صعيد التكاليف الشرعية الفردية، كإفطار المريض في شهر رمضان، والتيمم بدل الغسل والوضوء عند الحرج، وتناول الطعام المحرّم عند الاضطرار، وما شابه ذلك من حالات فردية، فإن هناك التباسًا فيما يتعلق بالحالات والظواهر الاجتماعية، لذلك يقتضي الأمر التبيين والتوضيح، فلو كان الالتزام بحكم من الأحكام يوجب ضررًا على المصلحة العامة للمجتمع، فإن القيادة الدينية الجامعة للشرائط يمكنها التدخل لإيقاف ذلك الحكم وتغييره، بحكم تصدّيها لرعاية شؤون المجتمع وصلاحيتها الولائية.

  إنّ أيّ قيادة لأيّ مجتمع إنساني صغيرًا كان أو كبيرًا، كقيادة أمة أو طائفة أو قبيلة، او فئة تكون معنية برعاية مصالحه، ودفع الأخطار عنه.

    وإذا رأت القيادة الدينية حكمًا ما يعوق مصلحة مهمة للمجتمع ويسبب ضررًا عليه، فإنّها تتصرف وفقًا للقواعد الشرعية بالتوجيه إلى حكم ثانوي، أو إصدار حكم ولائي إداري، ويصبح هذا الحكم البديل هو التكليف الشرعي.

      هذه المسألة ليست مجرد مسألة نظرية تحتمل النقاش والأخذ والردّ، بل تؤكّدها ممارسة فعلية وسيرة عملية، تعدّدت شواهدها في سيرة أئمة أهل البيت ، ومن سار على خطّهم من الفقهاء المراجع والقيادات الدينية. ونشير هنا إلى بعض تلك الشواهد.

  • سبّ الإمام

    لا شك أنّ سبّ الإمام عليّ وسائر الأئمة الأطهار من أكبر الكبائر والمحرّمات، بل ورد عن رسول الله أنه قال: «مَنْ سَبَّ عَلِيًّا، فَقَدْ سَبَّنِي»[2] وسبّ رسول الله كفر موجب للقتل، وكذلك هو حكم سبّ الإمام، كما يرى فقهاء الشيعة.

    ومع فظاعة هذا الجرم، وصعوبة تقبّل المؤمن لارتكابه إلّا أن الأمام عليًّا أجاز لشيعته أن يسبّوه حينما يُفرض عليهم سبّه من السلطة الجائرة، حفاظًا عليهم وحماية لمصالحهم.

فقد وروى الكليني عن الإمام الصادق : «أَنَّ عَلِيّاً قَالَ عَلَى مِنْبَرِ الْكُوفَةِ: إِنَّكُمْ سَتُدْعَوْنَ إِلَى سَبِّي فَسُبُّونِي، ثُمَّ تُدْعَوْنَ إِلَى الْبَرَاءَةِ مِنِّي وَإِنِّي لَعَلَى دِينِ مُحَمَّدٍ»[3]، ونحوه ما رواه الحاكم في مستدركه عنه : «إنَّكُم سَتُعرَضونَ عَلى سَبّي، فَسُبّوني، فَإِن عُرِضَت عَلَيكُم البَراءَةُ مِنّي فَلا تَبَرَّؤوا مِنّي، فَإِنّي عَلَى الإِسلامِ»[4].

  وجاء في نهج البلاغة: من كلام له لأصحابه: «أما إنِّهُ سِيَظْهَرُ عَلَيْكُمْ بَعْدِي رَجُلٌ رَحْبُ الْبُلْعُومِ، مُنْدَحِقُ الْبَطْنِ، يَأْكُلُ مَا يَجِدُ، وَيَطْلُبُ مَا لاَ يَجِدُ، فَاقْتُلُوهُ، وَلَنْ تَقْتُلُوهُ! أَلاَ وَإِنَّهُ سَيَأْمُرُكُمْ بِسَبِّي وَالْبَرَاءَةِ مِنِّي؛ فَأَمَّا السَّبُّ فَسُبُّونِي، فَإِنَّهُ لي زَكَاةٌ، وَلَكُمْ نَجَاةٌ؛ وَأَمَّا الْبَرَاءَةُ فَلاَ تَتَبَرَّأُوا مِنِّي، فَإِنِّي وَلِدْتُ عَلَى الْفِطْرَةِ، وَسَبَقْتُ إِلَى الاِْيمَانِ وَالْهِجْرَةِ»[5].

     قال ابن أبي الحديد في شرحه: «وكثير من الناس يذهب إلى أنه عنى زيادًا، وكثير منهم يقول: إنه عنى الحجاج أو المغيرة، والأشبه عندي أنه عنى معاوية؛ لأنه كان موصوفًا بالنهم وكثرة الأكل»[6].

 ويعلق المرجع الديني الشيخ ناصر مكارم الشيرازي على هذه الخطبة بقوله: «ويبدو من هذه العبارة أن السبّ- سبّ الإمام عليّ - أمر واجب إلزامي لا إباحي؛ لأنه يتضمن حفظ دماء الشيعة، وإيصال مبادئ مدرسة أهل البيت . إلّا أنّ هذا الأمر قد يكتسب صفة الإباحة، كما عبّر عن ذلك علماء الأصول حيث أمر الوجوب يقتصر على احتمال المنع لتوهّم الخطر»[7].

       إنّ سبّ الإمام محرّم حرمة مغلّظة بالحكم الأولي الأصلي، لكن الإمام يضع أمام شيعته حكمًا ثانويًّا يجيز لهم سبّه متى ما اضطرتهم الظروف إليه؛ حفظًا لحياتهم ورعاية مصالحهم.

  • التختم بالشمال

    كان من سنة رسول الله أنه يتختم بيمينه، أي يلبس خاتمًا في إصبع يده اليمنى، كزينة يتزيّن بها، وليختم به رسائله ومواثيقه، كما هو المتعارف في رسائل الزعماء ومواثيقهم الكتبية.

     ولتأسّي المسلمين بنبيهم، واستنانهم بسنته، كان من يتختم منهم يحرص على التختم بيمينه. قال حماد بن سلمة: «رَأَيْتُ ابْنَ أَبِي رَافِعٍ يَتَخَتَّمُ فِي يَمِينِهِ فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: رَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ يَتَخَتَّمُ فِي يَمِينِهِ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ   يَتَخَتَّمُ فِي يَمِينِهِ»[8].

       وهكذا حثّ أئمة أهل البيت شيعتهم على الأخذ بهذه السنة النبوية، التختّم باليمين، ولكنّ رأيًا ظهر لدى بعض علماء الأمة يقول بالتخيير في التختم بين اليمين والشمال، على أساس ورود ما يدلّ على أنّ النبي قد تختم بعض الأحيان بشماله.

   ولم يوافق على ذلك أئمة أهل البيت، الذين أكّدُوا على استحباب التختم باليمين فقط، وهذا ما التزم به شيعتهم، بينما راج الرأي الآخر لدى غيرهم، حتى أصبح التختم باليمين سمة تدلّ على الانتماء لخط أهل البيت ، في وقت كانت فيه السلطات العباسية تتحسّس من هذا الانتماء، وتراقب المتهمين به، وقد تتخذ تجاههم إجراءات عدائية، وكادت هذه السمة أن تسبب فرزًا لأتباع أهل البيت قد يؤدي إلى حصارهم وعزلهم في مجتمعات الأمة.

  ولحماية المجتمع الشيعي من هذه الأخطار المحتملة أصدر الإمام الحسن العسكري (الإمام الحادي عشر من أئمة أهل البيت) توجيهًا يأمر فيه شيعته بالتختم بالشمال، خلافًا للحكم الشرعي الأصلي.

   فقد جاء في تحف العقول ووسائل الشيعة: «عَنِ الإِمَامِ أبي محمد الْحَسَنِ الْعَسْكَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِشِيعَتِهِ فِي سَنَةِ سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ: أَمَرْنَاكُمْ بِالتَّخَتُّمِ فِي الْيَمِينِ وَنَحْنُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْكُمْ، وَالْآنَ نَأْمُرُكُمْ بِالتَّخَتُّمِ فِي الشِّمَالِ لِغَيْبَتِنَا عَنْكُمْ، إِلَى أَنْ يُظْهِرَ اللَّهُ أَمْرَنَا وَأَمْرَكُمْ، فَإِنَّهُ مِنْ أَدَلِّ دَلِيلٍ عَلَيْكُمْ فِي وَلَايَتِنَا أَهْلَ الْبَيْتِ. فَخَلَعُوا خَوَاتِيمَهُمْ مِنْ أَيْمَانِهِمْ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلَبِسُوهَا فِي شَمَائِلِهِمْ، وَقالَ لَهُمْ: حَدِّثُوا بِهَذَا شِيعَتَنَا»[9].

  •  تحريم التبغ

   كانت زراعة التبغ منتشرة في إيران، وكانت مصدر دخل لكثير من العوائل والمواطنين، من خلال البيع والشراء، لداخل إيران وخارجها، فحوالي 20% من الإيرانيين كانوا يعملون في قطاع التبغ.

    وجاءت شركة بريطانية واتفقت مع حاكم ايران الملك القاجاري (ناصر الدين شاه) أن تحتكر حقّ تجارة التبغ  في إيران بيعًا وشراءً ، فلا يحقّ لمزارع أن يبيع نتاج زراعته من التبغ إلّا لهذه الشركة بالسعر الذي تحدده، وهي التي تقوم بتسويقه داخل وخارج إيران بالسعر الذي تريده.

       وكان في ذلك حيف وجور على مصلحة المزارعين، وكانوا عاجزين عن مقاومة قرار الشاة. إضافة إلى ما يمنحه هذا الامتياز من فرصة لتغلغل نفوذ الاستعمار البريطاني.

     وهنا تدخل المرجع الديني السيد محمد حسن الشيرازي المعروف بالمجدّد الشيرازي (1230 هـ – 1312 هـ) فأصدر فتوى شرعية بتحريم التبغ بيعًا وشراءً واستخدامًا.

      ومعلوم أنّ ذلك ليس حرامًا في الأصل، لكنّ القيادة الدينية أوقفت وجمّدت حكم الإباحة والجواز، وألزمت المجتمع بحكم بديل بالعنوان الثانوي، من أجل حماية مصالح المجتمع الاقتصادية والسياسية.

  وأدّى ذلك إلى حراك شعبي كبير عرف بثورة التنباك سنة 1309هـ/ 1891م، حتى اضطر ناصر الدين شاه إلى إلغاء الاتفاق مع الشركة البريطانية، وعادت الأمور إلى مجاريها، وانتهى صلاحية حكم التحريم الاستثنائي.

    وهو شاهد من شواهد أولوية حماية مصالح المجتمع ولو اقتضت توقيف بعض الأحكام الشرعية.

  • التقية لحماية المصالح

ولاهتمام الدين بحماية الإنسان وحفظ مصالحه فردًا ومجتمعًا، شرّع أحكام التقية، والتقية من الاتّقاء والوقاية من الخطر والضرر.

وقد عرفها أحد العلماء بقوله: «ما يقال أو يفعل مخالفًا للحقّ لأجل توقّي الضرر»[10]، وجاء في فتح الباري: (التقية: الحذر من إظهار ما في النفس من معتقد وغيره للغير»[11].

وعرّفها الشيخ الأنصاري بقوله: «التحفّظ عن ضرر الغير بموافقته في قول أو فعل مخالف للحق»[12].

فإذا عاش الفرد أو المجتمع في ظلّ واقع سياسي واجتماعي، ينكر عليه حريته الدينية، وأصبحت حياته أو مصالحه في معرض الخطر إذا أظهر معتقده، أو مارس شيئًا من شعائره الدينية، هنا لا يريد الدين للإنسان أن يُفرّط في مصالحه، بل يسمح له بالتكيّف مع الظروف المختلفة، بمنتهى المرونة التي تساعده على حفظ نفسه ومصالحه. وذلك تحت عنوان التقية، هذا العنوان الذي أصبح مثار لغط وتهريج ضمن أجواء الصراعات المذهبية، مع أنه مفهوم إسلامي عرضه القرآن الكريم في أكثر من مورد، كما تناولته الأحاديث النبوية، وأقوال المفسرين والفقهاء من السنة والشيعة.

ففي القرآن الكريم جاء قوله تعالى: ﴿لا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً [آل عمران، آية 28].

وقال تعالى: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل، آية 106].

وقال تعالى: ﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ [غافر، آية 28].

وروت مختلف مصادر السنة النبوية أنَّ الْمُشْرِكِينَ أَخَذَوا عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ فَلَمْ يَتْرُكُوهُ حَتَّى سَبَّ رَسُولَ الله وَذَكَرَ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ ثُمَّ تَرَكُوهُ. فَلَمَّا أَتَى النَّبِيَّ قَالَ: "مَا وَرَاءَكَ"؟ قَالَ: شَرٌّ يَا رَسُولَ الله، وَاللهِ مَا تُرِكْتُ حَتَّى نِلْتُ مِنْكَ وَذَكَرْتُ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ. قَالَ: فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ: "كَيْفَ تَجِدُ قَلْبَكَ؟". قَالَ: أَجِدُ قَلْبِي مُطْمَئِنًّا بِالإِيمَانِ. قَالَ: فَإِنْ عَادُوا فَعُدْ»[13]، قال الحافظ ابن حجر: «واتفقوا على أنه (أي عمار) نزل فيه ﴿إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ [النحل: 106] »[14].  وقال أبو بكر الجصاص عن هذه الآية: «هذا أصل في جواز إظهار كلمة الكفر في حال الإكراه»[15].

وجاء في كنز العمال عن عليّ عن رسول الله أنه قال: «من لا تقية له لا دين له»[16].

وروى البخاري عن الحسن البصري قال: «التَّقِيَّةُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ»[17].

وناقش العلماء سعة ومحدودية استخدام التقية، هل يقتصر جوازها لدرء خطر الكافرين فقط؟ أم حتى لدرء الخطر ضمن المجتمع الإسلامي؟.

يرى الشيعة جواز التقية لكلّ حالات الحاجة إليها من الكافر أو الظالم المسلم، وكذلك مذهب الشافعي: «أن الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين والمشركين حلّت التقية محاماة على النفس»[18].

كما أفتى علماء الحنابلة بجواز الصلاة خلف المبتدع والفاسق تقية[19].

وذكر الدكتور عبد الكريم الزيدان أنّ «التقية كما تجوز مع الكفار تجوز مع غيرهم إذا وجد الاضطرار دفعًا لتلف النفس بغير حقّ ـ من قبل ظالم باغ ينتسب للإسلام.

قال الإمام السرخسي في مبسوطه: لا بأس باستعمال التقية وأنه يرخص له في ترك بعض ما هو فرض عند خوف التلف على نفسه.

ولم يشترط السرخسي لجواز استعمالها ـ مع الكفار ـ وإنّما جعل مناط استعمالها خوف التلف على النفس.

وقال الإمام الجصاص ـ وهو يتكلم عن النطق بالكفر عند الإكراه ـ وإعطاء التقية في مثل ذلك إنّما هو رخصة من الله تعالى .. وهذا ـ أيضًا ـ يدلّ على ما دلّ عليه كلام السرخسي، وهو جواز استعمالها حيث وجد الاضطرار إليها»[20].

وإذا كان أئمة أهل البيت قد ركزوا كثيرًا على مسألة التقية، وتداولها شيعتهم أكثر من غيرهم، فذلك بسبب حاجتهم إليها في ظلّ ما واجهوه من قمع فكري، وتمييز وتهميش من قبل السلطات المختلفة.

من ناحية أخرى، فإنّ استخدام الشيعة للتقية يهدف إلى تجاوز حالة التوتر والتشنج في المجتمعات الإسلامية، فإذا كان هناك من تستفزّه بعض المقولات الشيعية، أو ممارسة الشيعة لشيءٍ من شعائرهم وأحكام مذهبهم، فإنّ الأئمة يوصون شيعتهم بتجنّب هذه الحالات، والتكيف والانسجام مع الأجواء السائدة في الأمة، تلافيًا للحرج والنزاع، بالتنازل عن حقّهم في التعبير عن الرأي وممارسة شعائرهم المذهبية. إلى أن ترتقي الأمة إلى مستوى الوعي والنضج الذي يقرّ الحريات الدينية، ويحترم حقوق الإنسان.

وهذه المرونة ميزة تحسب للشيعة وليس مثلبة يعابون بها.

 

  • تصدّي القيادات ووعي المجتمعات

وإذا كانت حماية مصالح المجتمع مقصدًا دينيًّا، فذلك يستدعي اهتمام القيادات الدينية بتشخيص مصالح مجتمعاتها، وأن ترى نفسها معنية بحمايتها، وأن تأخذ أوضاع مصالح مجتمعاتها بعين الاعتبار، حين تصدر فتاواها الشرعية، وتنتج خطابها الديني.

فهناك من القيادات الدينية من لا تجد نفسها معنية بذلك، وهي تستنبط الأحكام انطلاقًا من النصوص الشرعية، ومع المراعاة لآراء العلماء السابقين، دون اهتمام بدراسة الواقع الاجتماعي المعاصر، وما يحيط به من ظروف وتحدّيات.

من جانب آخر، فإنّ القيادات الدينية الواعية المهتمة بالمصالح الاجتماعية، تواجه في بعض الأحيان ضعف استجابة من المجتمع، بسبب وجود إصرار عند جهات محافظة على الآراء والتقاليد المألوفة، تأخذ منحى المزايدة على الدين والعقيدة والهويّة المذهبية.

وفي هذا السياق ينقل الشيخ مرتضى مطهري الحادثة التالية: «إنني أتذكر تلك السنوات التي عشتها في قم وكم من هذه المسرحيات المبتذلة، كانت تعرض على الناس آنذاك في السنين الأولى لمرجعية السيد البروجردي، حيث كان في أوج نفوذه، وجاء إليه البعض وشرح له وضع هذه المسرحيات، والوضع العام الذي يرافقها، فدعا سماحته في حينها جميع رؤساء الهيئات الحسينية إلى اجتماع في منزله، وسألهم يومها: أيّ المراجع تقلّدون؟ فقالوا له جميعًا: نقلّدك أنت. فقال لهم سماحته: إنّ فتواي بشأن هذه المسرحيات والتمثيليات التي تقيمونها بالشكل الذي سمعت حرام في حرام. فهل تعرفون ماذا كان ردّهم عليه؟ قالوا له: مولانا، نحن نقلّدك طوال العام ما عدا هذه الأيام الثلاثة أو الأربعة، فنحن لسنا من مقلّديك»[21].

وجاء في ترجمة السيد علي نقي الكشميري (1900- 1976م) أنه أسّس ما عُرف في النجف الأشرف بشعار تشييع الزهراء فاطمة، إحياءً لمظلوميتها الزهراء، وكيفية دفنها ليلًا. ورغم أنّ السيد محسن الحكيم (وهو المرجع الأعلى) لم يمل إلى هذا واعتبره غير راجح إلّا أنّ السيد الكشميري أصرّ[22].

 

* حديث الجمعة 10 ربيع الأول 1438ﻫ الموافق 9 ديسمبر 2016م

[1] كنز العمال، المتقي الهندي، ج٤، الصفحة ٥٩، حديث 9498. والكافي، الشيخ الكليني، ج٥، الصفحة 292، حديث2.
[2] أخرجه الحاكم 3/121. وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي.
[3] الكافي، ج2، ص219.
[4] المستدرك، الحاكم النيسابوري، ج٢، الصفحة ٣٥٨، حديث 3365/502.
[5] نهج البلاغة، خطبة 57.
[6] شرح النهج، ابن أبي الحديد، ج4، ص54.
[7] نفحات الولاية، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، ج2، ص 418.
[8] صحيح سنن الترمذي للعلامة الألباني، ج2، ص 275.
[9] وسائل الشيعة (آل البيت)، الحرّ العاملي، ج٥، الصفحة ٨١، حديث 7.
[10] تفسير المنار، محمد رشيد رضا، ج3، ص280.
[11] فتح الباري شرح صحيح البخاري، ا بن حجر العسقلاني، ج12، ص 314.
[12] رسالة في التقية، الشيخ مرتضى الأنصاري، ص37.
[13] المستدرك على الصحيحين، الحاكم النيسابوري، ج2، ص 357.
[14] الإصابة ج2، ص512.
[15] أحكام القرآن ج3، 192.
[16] كنز العمال، المتقي الهندي، ج٣، الصفحة ٩٦، حديث 5665.
[17] صحيح البخاري، كتاب الإكراه، باب قول الله تعالى: إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان.
[18] تفسير الرازي، ج 8 ص14، (آل عمران 26 – 129).
[19] الموسوعة الفقهية، إصدار وزارة الشؤون الإسلامية الكويتية، ج13، ص196.
[20] التقيّة في إطارها الفقهي، علي الشملاوي، ص149، عن كتاب: الدكتور عبد الكريم زيدان: مجموعة بحوث فقهية، ص213.
[21] الملحمة الحسينية، الشيخ مرتضى المطهري، ج1، ص185.
[22] مع الصادقين، السيد محمد حسن الكشميري، ج3، ص30.