التزمت في الدين: نشأته ومظاهره
كان الإنسان قبل مجيء الإسلام يعيش تحت وطأة مختلف الضغوط والقيود التي تصادر حريته، وتقيّد نشاطه وحركته، وتمنعه من التعبير عن ذاته.
حيث كانت سلطة الحكام المستبدّين كأكاسرة الفرس وقياصرة الروم، الذين يستعبدون الناس ويسومونهم الذلّ والهوان، وكانت الزعامات القبلية التي تقرّر على أتباعها دون رأي منهم، فهي تفكّر بديلًا عنهم، وتقرّر عليهم.
وكانت الأعراف التقاليد التي لا فكاك لأفراد المجتمع من الالتزام بها، مهما كانت مؤذية لهم ومعوقة لمصالحهم.
والقيد الأكبر على الإنسان كان يأتي من تبنّيه وخضوعه للمعتقدات والأوهام الفاسدة التي ينظر من خلالها للكون والحياة، وتتأثر بها مواقفه وسلوكه.
فابتعث الله نبيه محمّدًا ليحرّر الإنسان من كلّ هذه الضغوط والقيود، فيعيش حريته، ويُطلق العنان لفكره وإرادته، ويتمتع بالعزة والكرامة في حياته.
وكما وصف الله تعالى مهمة نبيه بقوله: ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾
وأعلن أنّ غاية دعوته أن يكون الناس مالكين لأمورهم، حيث ورد عنه أنه قال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهَ تُفْلِحُوا وَتَمْلِكُوا بِهَا الْعَرَبَ، وَتَذِلَّ لَكُمُ الْعَجَمُ، وَإِذَا آمَنْتُمْ كُنْتُمْ مُلُوكًا فِي الْجَنَّةِ)[1].
وهذا هو هدف كلّ الرسالات التي جاء بها الأنبياء السّابقون، لكن ما حدث هو وقوع التحريف والتزوير في تلك الرسالات، حتى أصبحت مبعث أسرٍ جديد للإنسان، ومصدرًا لكثيرٍ من القيود والحدود الضاغطة على حياته، والمقيّدة لحريته باسم الشرع والدين.
وقد تحدّث القرآن الكريم عن هذه الظاهرة التي حصلت في مجتمعات الديانات السّابقة، حيث حذّر أهل الكتاب من الغلوّ في دينهم، والإضافات التي أضافوها لمعتقدهم خلافًا للحقّ، يقول تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّـهِ إِلَّا الْحَقَّ﴾.
ويقول تعالى: ﴿وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّـهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّـهِ ۚ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ [سورة الأنعام، الآية 140]
وقد تكرّرت في القرآن الكريم الآيات التي تُندّد بتوسيع رقعة التحريم والمحرّمات في الدين، باعتبارها افتراءً على الله، ولأنها تشكّل قيودًا على حركة الإنسان في الحياة، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّـهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾[سورة المائدة، الآية 87]
ويقول تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّـهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّـهُ أَذِنَ لَكُمْ ۖ أَمْ عَلَى اللَّـهِ تَفْتَرُونَ﴾[سورة يونس، الآية 59]
- التشدّد والتزمّت في الأديان
حين يُندّد القرآن الكريم بحالات التشدّد والتزّمت الديني في الأمم السابقة، إنما يستهدف تحذير الأمة من الوقوع في ذات المنزلق، ومع الأسف الشديد فقد ابتليت الأمة بمثل هذا الدّاء الوبيل، وتكونت فيها توجّهات متشدّدة متزمّتة حولت الدين إلى طقوس وشعائر تستهلك معظم وقت الإنسان وجهده، وإلى قائمة عريضة من المحرمات والممنوعات التي تحاصر حركة الإنسان في مختلف جوانب الحياة، وتحدّ من حريته، فكلّ شيء حرام، وكلّ شيء فيه إشكال، إذ يستخدمون قاعدة سدّ الذرائع بلا حدود.
ولكن لماذا تنشأ حالة التشدّد والتزمّت في الدين؟
يبدو أنّ هناك عوامل وأسبابًا وراء حدوث هذه الظاهرة، وأبرزها ما يلي:
أولاً: غياب القيم والاهتمامات الكبرى التي جاء من أجلها الدين، كإقامة العدل وهي المهمة الأساس التي نزلت من أجلها الرسالات الإلهية، يقول تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ وكمهمّة إعمار الأرض واستثمار خيرات الكون، يقول تعالى: ﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ وكتحصيل المعرفة واستكشاف أسرار الكون، يقول تعالى: ﴿قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾. وكحفظ لحقوق الناس واحترامها، يقول تعالى: ﴿وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ﴾.
حينما تغيب مثل هذه القيم والاهتمامات الكبرى، ويضعف حضورها في ساحة حياة المجتمع، يحصل التعويض عنها بالتعمق في جزئيات المسائل العقدية النظرية، والاستغراق في الطقوس والممارسات العبادية الشعائرية، والمبالغة في التحريمات والاحتياطات.
ثانيًا: تكوّن طبقة في الحالة الدينية تحترف التزمّت والتشدّد، وتعمل على نشره والتبشير به، لخطأٍ في فهم المقاصد الدينية، أو لمصلحة ينشدونها من خلال تأكيد حضورهم عبر هذا التوجّه الذي يجد له روّادًا ومؤيّدين، بدافع ديني ساذج.
وعن وجود هذه الطبقة في الديانات السابقة يقول تعالى: ﴿إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّـهِ﴾ [سورة التوبة، الآية: 34]
وتشير آية أخرى في القرآن الكريم إلى قيام هذه الطبقة بوضع إضافات من عندياتهم، ونسبتها إلى الدين، لتحقيق بعض المصالح والمكاسب، يقول تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـٰذَا مِنْ عِندِ اللَّـهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ﴾ [سورة البقرة، الآية 79]
ثالثًا: نشْأةُ ظروف وأجواء تدفع إلى حالة من المزايدات في الدين بسبب وجود تحدٍّ للهوية الدينية، أو صراع وتنافس بين أجنحة الحالة الدينية، حيث قد يدفع الشعور بالتحدّي للهوية إلى المبالغة فيها، كما قد يؤدي الصراع والتنافس بين الجهات الدينية، إلى سعي كلّ طرف لإظهار نفسه أنه أكثر التزامًا بالعقيدة ودفاعًا عنها، بينما يتّهم الأطراف الأخرى المنافسة بالميوعة والذوبان وتقديم التنازلات والمساومة على المبادئ.
- الوقاية من التزمّت
من أجل حماية الدين من ظاهرة التزمّت والتشدّد أكّدت النصوص الدينية على أنّ طبيعة التشريع الإسلامي ومنهجيّته قائمة على أساس السّماحة واليسر، ورفع الحرج والعسر، مما يعني رفض توجّهات التزمّت والتشدّد.
يقول تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّـهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [سورة البقرة، الآية 185]
ويقول تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [سورة الحج، الآية 78]
ويقول تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّـهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ۚ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾ [سورة النساء، الآية 28]
وفي السنة النبوية الشريفة نجد أبوابًا تضمّ عددًا من النصوص في مصادر الحديث تحت عنوان (الدين يسر)[2]، وعنوان (يسّروا ولا تعسّروا)[3].
ومن تلك النصوص ما ورد عن رسول الله أنه قال: «أَحَبُّ الدِّينِ إلى اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ»[4].
وعنه : «خَيْرَ دِينِكُمْ أَيْسَرُهُ»[5].
وعنه أنه قال لأبي موسى ومعاذ حين بعثهما إلى اليمن: (يَسِّرَا وَلاَ تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلاَ تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا)[6].
وعن عائشة أنها قالت: (مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ A بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ)[7].
وورد أنَّ (أَعْرَابِيًّا بَالَ فِي المَسْجِدِ، فَثَارَ إِلَيْهِ النَّاسُ ليَقَعُوا بِهِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ A: دَعُوهُ، وَأَهْرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ، أَوْ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ، فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ) [8].
وقال : (لَا تُشَدِّدُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَيُشَدَّدَ عَلَيْكُمْ، فَإِنَّ قَوْمًا شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَشَدَّدَ اللهُ عَلَيْهِمْ)[9].
ورأى رسول الله (شيخًا يُهَادَي بينَ ابنَيْهِ، قالَ: ما بالُ هذا. قالوا. نَذَرَ أنْ يمشِي. قالَ: إنَّ اللهَ عن تعْذِيبِ هذا نفسَهُ لغَنِيٌّ. وأَمَرَهُ أنْ يَرْكَبَ)[10].
وعنه : (إِيَّاكُمْ وَالتَّعَمُّقَ فِي الدِّينِ، فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُحِبُّ مَا دَامَ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا)[11].
وورد عن الإمام الصادق أنه قال: «اجْتَهَدْتُ فِي الْعِبَادَةِ وَأَنَا شَابٌّ، فَقَالَ لِي أَبِي: يَا بُنَيَّ، دُونَ مَا أَرَاكَ تَصْنَعُ؛ فَإِنَّ اللّهَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ إِذَا أَحَبَّ عَبْداً رَضِيَ عَنْهُ بِالْيَسِيرِ»[12].
- الحذر من توجّهات التشدّد
الظروف التي تمرّ بها مجتمعاتنا حاليًّا تجعل الأرضية مناسبة لنموّ توجّهات التزمّت والتشدّد، فهناك إقبال على الدين، قد يستغلّه البعض في تمرير ثقافة الغلوّ والاستغراق في الطقوس والشعائر، كما أنّ تفجّر صراع الهويات في المنطقة قد يشجّع على قبول المواقف البينية المتشنجة، وقد يكون من مصلحة الأطراف الخارجية الطامعة أن تدعم تيارات التطرّف والتشدّد.
لكلّ هذه الأسباب يجب الحذر واليقظة حتى لا تُستغلّ العواطف والمشاعر الدينية، وخاصة لدى فئة الشباب الناشئين الذين يمتلكون فائض طاقة تبحث عن تصريف. وعادة ما تتجه إليهم تيارات الغلوّ والتطرف، وذلك ما حذّر منه الإمام...
إنّ هذا الحماس العاطفي المتدفق عند جيل الشباب يجب أن يوجّه إلى تحصيل العلم والمعرفة، وتعميق الوعي، وبناء الكفاءة، وخدمة المجتمع والوطن، وزيادة الفاعلية في الإنتاج والعطاء.
يجب أن نقدّم لهذا الصّاعد المعارف الدينية الحقيقية، وثقافة التسامح والانفتاح، وأن نعلّمهم أنّ (أحبّ الدين إلى الله الحنيفية السمحة) وأنّ (خير دينكم أيسره).