المرأة وسمو الأخلاق ‮.. ‬السيدة زينب نموذجاً

عبادة الخالق والقرب منه،‮ ‬هي‮ ‬المرتكز والمحور في‮ ‬الشخصية الإيمانية،‮ ‬بل هي‮ ‬مقياس الإنسانية والتحرّر في‮ ‬شخصية الإنسان،‮ ‬فالبديل عن التعبد لله،‮ ‬والخضوع له،‮ ‬هو العبودية للشهوات،‮ ‬وللمصالح المادية الزائلة. إنّ‮ ‬التعبّد لله‮ ‬يعني‮ ‬انسجام الإنسان مع فطرته النّقيّة،‮ ‬واستجابته لنداء عقله الصادق،‮ ‬بأنّ‮ ‬للحياة خالقاً‮ ‬يمسك بأزمتها،‮ ‬وإليه مصيرها‮.‬

والتعبّد لله،‮ ‬هو النبع الذي‮ ‬يروي‮ ‬منه الإنسان ظمأه الروحي،‮ ‬ويتزوّد من دفقاته بدوافع الخير ونوازع الصلاح‮. ‬فكلّما أقبل الإنسان على ربّه،‮ ‬وأخلص في‮ ‬عبادته،‮ ‬تجلّت إنسانيته أكثر،‮ ‬وتجسّدت القيم الخيّرة في‮ ‬شخصيته‮.

ففي‮ ‬الحديث القدسي‮ ‬الذي‮ ‬ينقله الرسول الأعظم ‬عن الله‮ (‬سبحانه‮) ‬أنّه قال‮: ‮«لا‮ ‬يزال عبدي‮ ‬يتقرّب إلى بالنوافل،‮ ‬حتى أحبّه،‮ ‬فأكون أنا سمعه الذي‮ ‬يسمع به،‮ ‬وبصره الذي‮ ‬يبصر به،‮ ‬ولسانه الذي‮ ‬ينطق به،‮ ‬وقلبه الذي‮ ‬يعقل به،‮ ‬فإذا دعاني‮ ‬أجبته،‮ ‬وإذا سألني‮ ‬أعطيته»‮.‬

والسيدة زينب وهي‮ ‬العالمة بالله و ﴿إنما‮ ‬يَخْشَى الله من عِبَادهِ‮ ‬العُلَمَاءُ‮ ‬وهي‮ ‬الناشئة في‮ ‬أجواء الإيمان والعبادة والتقوى،‮ ‬كانت قمة سامقة في‮ ‬عبادتها وخضوعها للخالق -‬عزّوجلّ-..‬كانت ثانية أمها الزهراء (عليها السلام) في‮ ‬العبادة‮. ‬وكانت تؤدي‮ ‬نوافل الليل كاملة في‮ ‬كل أوقاتها حتى أنّ‮ ‬الحسين‮ (‬عليه السلام‮) ‬عندما ودّع عياله الوداع الأخير‮ ‬يوم عاشوراء،‮ ‬قال لها‮: ‬يا أختاه لا تنسيني‮ ‬في‮ ‬نافلة الليل‮. ‬كما ذكر ذلك البيرجندي،‮ ‬وهو مدوّن في‮ ‬كتب السّير‮..‬وعن عبادة السيدة زينب،‮ ‬ليلة الحادي‮ ‬عشر من المحرم،‮ ‬يقول الشيخ محمد جواد مغنية‮: ‬وأيّ‮ ‬شيء أدلّ‮ ‬على هذه الحقيقة،‮ ‬من قيامها بين‮ ‬يدي‮ ‬الله للصلاة،‮ ‬ليلة الحادي‮ ‬عشر من المحرم،‮ ‬ورجالها بلا رؤوس على وجه الأرض،‮ ‬تسفي‮ ‬عليهم الرياح،‮ ‬ومن حولها النساء والأطفال،‮ ‬في‮ ‬صياح وبكاء ودهشة وذهول،‮ ‬وجيش العدو‮ ‬يحيط بها من كل جانب‮.. ‬إنّ‮ ‬صلاتها في‮ ‬مثل هذه الساعة،‮ ‬تماماً‮ ‬كصلاة جدّها رسول الله في‮ ‬المسجد الحرام،‮ ‬والمشركون من حوله‮ ‬يرشقونه بالحجارة،‮ ‬ويطرحون عليه رحم شاة،‮ ‬وهو ساجد لله‮ (‬عزّ وعلا‮)‬،‮ ‬وكصلاة أبيها أمير المؤمنين،‮ ‬في‮ ‬قلب المعركة بصفين،‮ ‬وصلاة أخيها سيد الشهداء‮ ‬يوم العاشر،‮ ‬والسهام تنهال عليه كالسيل‮..‬

ولا تأخذك الدهشة إذا قلت‮: ‬إنّ‮ ‬صلاة السيدة زينب،‮ ‬ليلة الحادي‮ ‬عشر من المحرم،‮ ‬كانت شكراً‮ ‬لله على ما أنعم،‮ ‬وأنّها كانت تنظر إلى تلك الأحداث على أنّها نعمة خصّ‮ ‬الله بها أهل بيت النبوة،‮ ‬من دون الناس أجمعين،‮ ‬وأنّه لولاها لما كانت لهم هذه المنازل والمراتب عند الله والناس‮.. ‬وروي‮ ‬عن ابنة أخيها فاطمة بنت الحسين قولها‮: ‬«وأمّا عمّتي‮ ‬زينب،‮ ‬فإنّها لم تزل قائمة في‮ ‬تلك الليلة في‮ ‬محرابها،‮ ‬تستغيث إلى ربّها فما هدأت لنا عين ولا سكنت لنا رنّة»‮.. ‬

صبر وشجاعة


معروف أنّ‮ ‬المرأة تمتاز برقّة المشاعر،‮ ‬وشفّافية العواطف،‮ ‬ممّا‮ ‬يساعدها على القيام بدور الأمومة الحانية،‮ ‬لذلك‮ ‬يكون تأثيرها العاطفي‮ ‬أسرع وأعمق من الرجل‮ ‬غالباً‮.. ‬وإذا كانت تلك الحالة تمثّل الاستعداد الأوّلي‮ ‬في‮ ‬نفس المرأة،‮ ‬فلا‮ ‬يعني‮ ‬ذلك أنّها تأسر المرأة،‮ ‬وتقعد بها عن درجات الصمود والصبر العالية‮.. ‬فبإمكان المرأة حينما تمتلك قوة الإرادة،‮ ‬ونفاذ الوعي،‮ ‬وسموّ‮ ‬الهدف،‮ ‬أن تضرب أروع الأمثلة في‮ ‬الصبر والشجاعة،‮ ‬أمام المواقف الصعبة القاسية‮.. ‬وهذا ما أثبتته السيدة زينب،‮ ‬في‮ ‬مواجهتها للآلام والأحداث العنيفة،‮ ‬التي‮ ‬صدمتها في‮ ‬باكر حياتها،‮ ‬وكانت هي‮ ‬الختام لسنوات عمرها‮..‬لقد أبدت السيدة زينب تجلداً‮ ‬وصبراً‮ ‬قياسياً،‮ ‬في‮ ‬واقعة كربلاء،‮ ‬وما أعقبها من مصائب‮..‬ وإلاّ‮ ‬فكيف استطاعت أن تنظر إلى أخيها الحسين،‮ ‬ممزّق الأشلاء،‮ ‬يسبح في‮ ‬بركة من الدماء،‮ ‬وحوله بقيّة رجالات وشباب أسرتها،‮ ‬من أخوتها وأبناء أخوتها،‮ ‬وأبناء عمومتها وأبنائها،‮ ‬ثم تحتفظ بكامل السيطرة على أعصابها وعواطفها،‮ ‬لتقول كلمة لا‮ ‬يقولها الإنسان إلاّ‮ ‬في‮ ‬حالة التّأنّي‮ ‬والثّبات والاطمئنان،‮ ‬وهي‮ ‬قولها‮: اللهمّ‮ ‬تقبّل منا هذا القليل من القربان‮.. ‬

وأكثر من ذلك فهي‮ ‬تصبّر ابن أخيها الإمام زين العابدين،‮ ‬حينما رأته مضطرباً،‮ ‬بالغ‮ ‬التأثّر،‮ ‬عند مروره على جثث القتلى‮.. ‬ويُعبّر الشيخ النقدي‮ ‬عن فظيع مصائب السيدة زينب،‮ ‬وعظيم تحمّلها لها،‮ ‬بقوله‮: ‬وبالجملة فإنّ‮ ‬مصائب هذه الحرّة الطاهرة زادت على مصائب أخيها الحسين الشهيد،‮ ‬أضعافاً‮ ‬مضاعفة،‮ ‬فإنّها شاركته في‮ ‬جميع مصائبه،‮ ‬وانفردت عنه‮ (‬عليها السلام‮) ‬بالمصائب التي‮ ‬رأتها بعد قتله،‮ ‬من النّهب والسلب والضرب وحرق الخيام،‮ ‬والأسر،‮ ‬وشماتة الأعداء‮..‬أمّا القتل فإنّ‮ ‬الحسين قتل ومضى شهيداً‮ ‬إلى روح وريحان،‮ ‬وجنّة ورضوان،‮ ‬وكانت زينب في‮ ‬كل لحظة من لحظاتها تقتل قتلاً‮ ‬معنوياً،‮ ‬بين أولئك الظالمين،‮ ‬وتذري‮ ‬دماء القلب من جفونها القريحة‮..‬وأيّ‮ ‬مستوى من الصبر عند السيدة زينب،‮ ‬حينما تصف ما رأته من مصائب،‮ ‬بأنّه شيء جميل‮: ‬والله ما رأيت إلاّ‮ ‬جميلاً‮. ‬رداً‮ ‬على سؤال ابن زياد لها‮: ‬كيف رأيت صنع الله بأخيك؟‮!..‬

عفّة ومهابة


عفّة المرأة لا تعني‮ ‬الانكفاء والانطواء،‮ ‬ولا تعني‮ ‬الجمود والإحجام عن تحمّل المسؤولية،‮ ‬وممارسة الدور الاجتماعي،‮ ‬وقد رأينا السيدة زينب وهي‮ ‬تمارس دورها الاجتماعي‮ ‬في‮ ‬أعلى المستويات‮..‬ لكن العفّة تعني‮ ‬عدم الابتذال،‮ ‬وتعني‮ ‬حفاظ المرأة على رزانتها وجدّية شخصيتها أمام الآخرين‮.. ‬فإذا استلزم الأمر أن تخرج المرأة إلى ساحة المعركة،‮ ‬فلا تتردّد في‮ ‬ذلك،‮ ‬وإذا كانت هناك مصلحة في‮ ‬التخاطب مع الرجال،‮ ‬فلا مانع،‮ ‬وهكذا في‮ ‬سائر المجالات النافعة والمفيدة‮.. ‬أما الابتذال،‮ ‬واستعراض القوام والمفاتن أمام الرجال،‮ ‬فهو مناف للعفّة والحشمة‮..

‬وبعد أن استقرأنا دور السيدة زينب،‮ ‬ومواقفها العلمية والسياسية والاجتماعية،‮ ‬فلنتأمل الآن ما‮ ‬يقوله أحد المعاصرين لها،‮ ‬والمجاورين لمنزلها برهة من الزمن،‮ ‬ليتّضح لنا معنى العفّة والاحتشام عند السيدة زينب‮..‬ حدّث‮ ‬يحيى المازني‮ ‬قال‮: ‬كنت في‮ ‬جوار أمير المؤمنين في‮ ‬المدينة،‮ ‬مدة مديدة،‮ ‬وبالقرب من البيت الذي‮ ‬تسكنه زينب ابنته،‮ ‬فلا والله ما رأيت‮ ‬لها شخصاً،‮ ‬ولا سمعت لها صوتاً‮..‬

زهد وعطاء


كانت زينب تعيش في‮ ‬كنف زوجها عبد الله بن جعفر في‮ ‬المدينة،‮ ‬وهو رجل موسر‮ ‬غني،‮ ‬وباذل كريم‮ ‬لكن حياة الراحة والرفاه،‮ ‬حيث البيت الواسع،‮ ‬والخدم والحشم،‮ ‬والمال والثروة،‮ ‬لم تتمكّن من قلب السيدة زينب،‮ ‬فتخلّت عن كلّ‮ ‬تلك الأجواء المريحة،‮ ‬واختارت السفر مع أخيها الحسين،‮ ‬حيث المصاعب والمشاق،‮ ‬والآلام المتوقعة،‮ ‬لم‮ ‬يكن قلب زينب متعلقاً‮ ‬بشيء من متاع الدنيا،‮ ‬بل كانت نفسها منشدّة إلى آفاق السّموّ‮ ‬والرفعة‮..‬ورُوي‮ ‬عن الإمام زين العابدين أنّه قال عنها‮: ‬«أنّها ما ادّخرت شيئاً‮ ‬من‮ ‬يومها لغدها أبداً‮.. »‬ ونُقل عنها‮: ‬أنّها كانت أثناء سفر الأسر إلى الشام،‮ ‬تتنازل في‮ ‬غالب الأيّام عن حصّتها من الطعام،‮ ‬لصالح الأطفال الجائعين،‮ ‬والجائعات من الأسارى،‮ ‬وتطوي‮ ‬يومها جائعة،‮ ‬حتى أنّ‮ ‬الجوع كان‮ ‬يقعد بها عن التمكّن من أداء صلاة الليل قياماً،‮ ‬فتؤدّيها وهي‮ ‬جالسة‮..‬ وحينما رجعت إلى المدينة،‮ ‬مع قافلة السبايا،‮ ‬نزعت حليّها،‮ ‬وحليّ‮ ‬أختها،‮ ‬لتقدمه هدية للنعمان بن بشير،‮ ‬مكافأة له على حسن صحبته ورفقته‮..‬

صحيفة الأيام البحرينية عدد رقم: (5870) الصادر يوم الأربعاء 27 صفر 1426هـ (6 أبريل 2005م)