بناء الوحدة والشراكة الاجتماعية

نشرت صحيفة الأيام البحرينية الجزء الأول من مقالٍ لسماحة الشيخ حسن الصفار تحت عنوان: بناء الوحدة والشراكة الاجتماعية، على أن يتم نشر الجزء الثاني الأسبوع المقبل.
جاء ذلك في العدد رقم (5891) الصادر يوم الأربعاء 18 ربيع الأول 1426هـ (27 أبريل 2005م).
نص المقال:


كيف‮ ‬يمكن تحقيق الوحدة السياسية والاجتماعية في‮ ‬مجتمع‮ ‬يعيش انقسامات حادة على اساس قومي‮ ‬او ديني‮ - ‬مذهبي،‮ ‬او مناطقي‮ ‬او قبلي؟
هل‮ ‬يكون ذلك بالمراهنة على تذويب الهويات وإلغاء مشاعر الانتماء الخاص؟
أو بغلبة طرف واخضاعه لسائر الاطراف؟
ام ان هناك اساليب وخيارات اصوب؟

بإمكاننا ان نقرأ في‮ ‬الانجاز التاريخي‮ ‬الذي‮ ‬تحقق على‮ ‬يد رسول الله‮ (‬ص‮)‬،‮ ‬بقيام الدولة والمجتمع الاسلامي‮ ‬الاول،‮ ‬تجربة ناجحة رائدة على هذا الصعيد‮.‬

حيث‮ ‬يجمع المؤرخون ان مجتمع الجزيرة العربية قبل الاسلام كان ممزقا لا‮ ‬يجمعه كيان،‮ ‬ولا‮ ‬يلم شمله نظام،‮ ‬كانوا قبائل متناثرة،‮ ‬في‮ ‬اجواء علاقات مضطربة،‮ ‬غالبا ما تفضي‮ ‬الى العداء والاحتراب،‮ ‬ومن‮ ‬يقرأ ايام العرب،‮ ‬وهو ما‮ ‬يطلق على معاركها وحروبها،‮ ‬تدهشه تلك المعارك الضارية،‮ ‬التي‮ ‬تنشب لأتفه الاسباب،‮ ‬ففي‮ ‬كتاب‮ (‬ايام العرب في‮ ‬الجاهلية‮) ‬الذي‮ ‬اشترك في‮ ‬اعداده ثلاثة من الباحثين،‮ ‬عرض لعشرات الحروب الداخلية بين القبائل العربية،‮ ‬فمعارك القبائل القحطانية فيما بينهم بلغت عشر معارك،‮ ‬وبين القحطانيين والعدنانيين عشر معارك،‮ ‬وفيما بين قبائل ربيعة ست معارك،‮ ‬وما بين ربيعة وتميم خمس عشرة معركة،‮ ‬وبين قبائل قيس احدى عشرة معركة،‮ ‬وبين قيس وكنانة عشر معارك،‮ ‬وبين قيس وتميم سبع معارك،‮ ‬وبين قبائل ضبة وغيرهم خمس معارك،‮ ‬وهناك معارك اخرى متفرقة‮ (‬محمد احمد جاد المولى وآخرون،‮ ‬ايام العرب في‮ ‬الجاهلية‮).‬

ويبدو ان هذه الحروب التي‮ ‬عرضها المؤلفون،‮ ‬هي‮ ‬ما تناقلت كتب التاريخ والادب اخبارها،‮ ‬اما سائر المعارك وهي‮ ‬كثيرة فقد تجاوزوا ذكرها،‮ ‬جاء في‮ ‬مقدمة الكتاب‮ (‬ايام العرب في‮ ‬الجاهلية‮): ‬وقد اقتصرنا على الايام المشهورة التي‮ ‬وصل الينا تفصيل حوادثها،‮ ‬وذكر اسبابها،‮ ‬ورواية اشعارها وقصائدها،‮ ‬اما الايام التي‮ ‬لم‮ ‬يقع في‮ ‬الكتب الا ذكر عنواناتها مجردة من الحوادث وذكر الاسباب،‮ ‬فقد جاوزها اختيارنا‮.. ‬روى صاحب كشف الظنون وغيره‮: ‬ان أباعبيدة قد الف كتابا صغيرا حوى خمسة وسبعين‮ ‬يوماً‮ (‬معركة‮)‬،‮ ‬وآخر كبيرا جمع فيه الفا ومائتي‮ ‬يوم،‮ ‬وان ابا الفرج الاصفهاني‮ ‬الف كتابا جمع فيه الفا وسبعمائة‮ ‬يوم‮...‬

كان ولاء العربي‮ ‬اولا واخيرا لقبيلته،‮ ‬مما‮ ‬يعني‮ ‬انصهاره فيها،‮ ‬وتغنيه بقوتها وامجادها،‮ ‬وشدته تجاه ما‮ ‬يخالفها وقد لاحظ احمد امين‮ - ‬في‮ ‬كتابه فجر الاسلام‮ - ‬انه‮ ‬حين تقرأ الشعر الجاهلي‮ ‬تشعر‮ - ‬غالبا‮ - ‬ان شخصية الشاعر اندمجت في‮ ‬قبيلته حتى كأنه لم‮ ‬يشعر لنفسه بوجود خاص،‮ ‬وانك لتتبين هذا بجلاء في‮ ‬معلقة عمرو بن كلثوم،‮ ‬وقل ان تعثر على شعر ظهرت فيه شخصية الشاعر،‮ ‬ووصف ما‮ ‬يشعر به وجدانه،‮ ‬واظهر فيه انه‮ ‬يحس لنفسه بوجود مستقل عن قبيلته.‬

في‮ ‬هذا المجتمع المتنوع قبليا،‮ ‬والذي‮ ‬تسوده نزعة التطرف في‮ ‬الولاء للقبيلة،‮ ‬ويعيش حالة الصراع والاحتراب بين قبائله،‮ ‬بعث الله تعالى نبيه محمداً‮ (‬ص‮)‬،‮ ‬فاستطاع خلال اقل من ربع قرن من الزمن،‮ ‬ان‮ ‬يبني‮ ‬من تلك القبائل مجتمعا متماسكا،‮ ‬وكيانا موحدا،‮ ‬يحمل للعالم مشروعا حضاريا متقدما‮.‬

حقا انه انجاز عظيم لا نظير له في‮ ‬تاريخ البشرية‮.‬

وهو ما لفت نظر الدكتور‮ (‬مايكل هارت‮) ‬من امريكا،‮ ‬عند تأليفه لكتاب عن المئة الاوائل في‮ ‬تاريخ البشرية،‮ ‬فوضع شخصية النبي‮ ‬محمد على رأس القائمة كأهم شخصية في‮ ‬تاريخ البشر،‮ ‬وكتب عن هذا الاختيار قائلا‮: (‬ان اختيار المؤلف لمحمد ليكون على رأس القائمة التي‮ ‬تضم الاشخاص الذين كان لهم اعظم تأثير عالمي‮ ‬في‮ ‬مختلف المجالات،‮ ‬ان هذا الاختيار ربما ادهش كثيرا من القراء،‮ ‬الى حد انه قد‮ ‬يثير بعض التساؤلات،‮ ‬ولكن في‮ ‬اعتقاد المؤلف‮: ‬ان محمدا كان الرجل الوحيد في‮ ‬التاريخ الذي‮ ‬نجح بشكل اسمى وابرز في‮ ‬كلا المستويين الديني‮ ‬والدنيوي‮).‬

فكيف استطاع رسول الله‮ (‬ص‮) ‬تحقيق هذا الانجاز العظيم؟

وما هي‮ ‬الخطة التي‮ ‬اعتمدها لتوحيد ذلك المجتمع المتناثر الاشلاء؟


الهوية المشتركة


في‮ ‬حالة الانقسام الاجتماعي‮ ‬تتضخم الهوية الخاصة عند كل طرف من الاطراف،‮ ‬فهي‮ ‬حدود الدفاع عن ذاته،‮ ‬وخندق مقاومته،‮ ‬وعنوان وجوده،‮ ‬ومن اجل ان‮ ‬يتوحد المجتمع،‮ ‬لا بد ان تنخفض درجة الغليان في‮ ‬الهويات الخاصة،‮ ‬لصالح هوية مشتركة‮ ‬يتمثل فيها وجود كل الاطراف،‮ ‬وترى من خلالها ذاتها بدرجة متماثلة‮.‬

وهنا لا‮ ‬يمكن ان تقوم هوية احد الاطراف بهذا الدور،‮ ‬لان بروزها‮ ‬يستثير تحدي‮ ‬بقية الهويات،‮ ‬واعلانها‮ ‬يعني‮ ‬غلبتها واعتراف الآخرين بالهزيمة امامها‮.‬

فإذا كان المجتمع منقسما على اساس قومي،‮ ‬فلا‮ ‬يمكن ان تشكل احدى قومياته اطارا لوحدته،‮ ‬وتصبح هوية جامعة له،‮ ‬وكذا الحال لو كان متعدد الاديان او المذاهب،‮ ‬فإن احدها لن‮ ‬يقوم بدور الجامع المشترك‮.‬

فلا بد من عنصر مشترك بين اجزاء المجتمع،‮ ‬يتم ابرازه والتركيز عليه كهوية جامعة،‮ ‬او تنمو حالة فكرية سياسية جديدة تتمحور حولها فئات المجتمع،‮ ‬وتصبح هدفا مشتركا واطار جامعا‮.‬
وهذا ما تحقق على‮ ‬يد رسول الله‮ (‬ص‮)‬،‮ ‬ومن خلال دعوته الاسلامية المباركة،‮ ‬والتي‮ ‬اصبحت حالة سريعة النمو تخترق اوساط مختلف القبائل،‮ ‬وتبشر بتوجه جديد‮ ‬يحفز نحو اهداف سامية،‮ ‬ويتبنى قيما انسانية حضارية،‮ ‬تتجاوز انانية الافراد،‮ ‬وعصبية القبائل وعبثية الحياة‮.‬

لقد اخذ الايمان موقعه في‮ ‬نفوس ابناء تلك القبائل المتصارعة،‮ ‬وتمحور حوله ولاؤهم،‮ ‬وتوثق له انتماؤهم،‮ ‬على حساب الولاء القبلي،‮ ‬والانتماء العشائري،‮ ‬فأصبح اطارا جامعا وهوية مشتركة،‮ ‬يفخر به الجميع بدرجة متساوية على اختلاف قبائلهم وتفاوت مكانتها وقوتها‮.‬

ثقافة الوحدة


حالة الانقسام والفرز الاجتماعي،‮ ‬تحفر آثارها في‮ ‬النفوس والمشاعر،‮ ‬بتضخيم الذات الفئوية،‮ ‬والحط من شأن المنافسين،‮ ‬والتعبئة تجاههم،‮ ‬كما تنتج ثقافة تبرر التمايز،‮ ‬وتكرس المفاصلة،‮ ‬وقد تدفع الى سلوكيات عدائية،‮ ‬وممارسات استفزازية‮.‬

وحين‮ ‬يحصل تطلع لوحدة في‮ ‬المجتمع،‮ ‬لا بد من ثقافة جديدة تعالج آثار ثقافة الانقسام،‮ ‬وتواجه مفاعيلها النفسية والسلوكية‮.‬

لقد كان الصراع والتنافس القبلي‮ ‬في‮ ‬الجزيرة العربية،‮ ‬دافعا لتربية الابناء على الفخر والاعتزاز بانتمائهم للقبيلة،‮ ‬وتنمية مشاعر التميز واحاسيس الافضلية على الآخرين،‮ ‬وهذا ما تنضح به قصائد شعرائهم،‮ ‬وخطب زعمائهم‮.‬

ان الحماسة والفخر هو من الاغراض الاساسية في‮ ‬الشعر العربي‮ ‬الجاهلي،‮ ‬حيث‮ ‬يتفنن الشعراء في‮ ‬تمجيد قبائلهم واظهار مكانتها،‮ ‬وفي‮ ‬شعر عمرو بن كلثوم نموذج صارخ لمثل هذا التوجه،‮ ‬حيث‮ ‬يقول في‮ ‬احدى قصائده‮:‬

ملأنا البر حتى ضاق عنا
وماء البحر نملأه سفينا
ونشرب ان وردنا الماء صفوا
ويشرب‮ ‬غيرنا كدرا وطينا
اذا بلغ‮ ‬الفطام لنا وليد
تخرّ‮ ‬له الجبابر ساجدينا
لنا الدنيا ومن اضحى عليها
ونبطش حين نبطش قادرينا


والوجه الآخر لهذا اللون من الادب الجاهلي‮ ‬هو ادب الهجاء،‮ ‬حيث‮ ‬يبالغ‮ ‬الشعراء في‮ ‬الحط من شأن القبائل المنافسة لقبيلتهم،‮ ‬ووصفها بأسوأ النعوت،‮ ‬واقبح الصفات‮.‬

وجاء الاسلام ليوحد تلك القبائل فاهتم بمواجهة تلك الثقافة التمييزية السائدة،‮ ‬باجتثاث جذورها النفسية والفكرية،‮ ‬ومقاومة آثارها السلوكية،‮ ‬حيث اكدت آيات القرآن الكريم،‮ ‬على الاصل الواحد لبني‮ ‬البشر‮: ﴿‬الذي‮ ‬خلقكم من نفس واحدة‬،‮ ‬ونسفت كل مبررات التفاضل الزائفة بين الناس،‮ ‬الا على اساس كسبهم الاختياري‮ ‬للصفات الفاضلة‮: ﴿‬يا ايها الناس انا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند الله اتقاكم‮.‬

العدد رقم (5891) الصادر يوم الأربعاء 18 ربيع الأول 1426هـ (27 أبريل 2005م).