عاشوراء تماسك المجتمع وإحياء القيم

مكتب الشيخ حسن الصفار

عن أبي عبدالله جعفر بن محمد الصادق أنه قال لأصحابه: «اتقوا الله وكونوا إخوة بررة، متحابين في الله، متواصلين، متراحمين، تزاوروا وتلاقوا وتذاكروا أمرنا وأحيوه»[1]   .

هناك وصايا كثيرة أكد فيها أهل البيت لشيعتهم العمل بها، وفي هذه الرواية تأكيد أمرين:

الأول:

توثيق العلاقات الأخوية الودية بين المؤمنين. بأن يكون هناك تحابّ وتواصل وتراحم فيما بينهم، وهذا لا يعني أن يكون مجتمع المؤمنين مجتمعًا مثاليًّا يخلو من الاختلاف في الرأي أو التضارب في المصلحة، فهم بشر كغيرهم، لكن ديننا الحنيف وأئمته يؤكدون أن يبقى اختلاف الرأي وتضارب المصالح، إن وجد، تحت سقف التراحم والتواصل، واستمرار العلاقات الودية داخل مجتمع المؤمنين.

الثاني:

أن يكون لهذا التواصل مضمون رسالي. بأن يكون هناك إحياء لذكر أهل البيت: «وتذاكروا أمرنا وأحيوه» وفي رواية أخرى: «رحم الله عبداً أحيا أمرنا»[2]   كما عن الإمام الرضا. فما هو أمرهم؟

ليس لأهل البيت أمر شخصي أو مصلحة عائلية، فيطلبون من شيعتهم أن يهتموا بها. أمر أهل البيت هو أمر الدين، ومصلحة الأمة، كما صرحوا بذلك. فهذا سيّد الشهداء الإمام الحسين يعلن بصراحة تامّة عن الأمر الذي دعاه للخروج: «إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدّي أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر»[3]  . فأمرهم هو تعاليم الدين ومصلحة الأمة، وحين يأمر الإمام شيعته أن يحيوا أمرهم، فهي وصية لتبادل الاهتمامات النافعة فيما بينهم، والدفاع عن قيم الدين، وتعزيز مصالح الأمة.

عطاء المناسبات الدينية:

هذه النصوص هي الأرضية التأسيسية لإحياء مناسبات أهل البيت التي يقوم بها الشيعة. قد لا يكون عندنا نصّ لإحياء كلّ مناسبة على حدة، لكن الهدف المنشود الذي ينادي به أهل البيت لإحياء أمرهم هو الاهتمام بقضية الإسلام وقضية الأمة، وذلك عبر التلاقي والتداول لهذه القضايا الهامة.

هذه التوجيهات هي التي دفعت شيعة أهل البيت لإحياء ذكر أئمتهم؛ لأنه مظهر لتطبيق تلك التوجيهات. فإحياء موسم عاشوراء مثلًا يتيح لمجتمعاتنا أفضل الفرص في الجانبين المذكورين سلفًا: تأكيد التواصل الاجتماعي، وتعزيز القيم والمبادئ الدينية، إضافة إلى المزايا الهامة التالية:

تعزيز الجهد الأهلي: إحياء عاشوراء نشاط أهلي تطوعي صرف، ليس للحكومات دخل فيه. حتى المجتمعات التي تحكمها قيادات دينية شيعية كإيران، فإن إحياء هذا الموسم يبقى جهدًا أهليًا. وهذه قيمة ينبغي أن نعززها في مجتمعاتنا.

تكريس التواصل بين الناس. فكل حارة تجد فيها مأتمًا أو أكثر يلتقي فيه الناس لإحياء هذه المناسبة، وفيه تسودهم أجواء روحية وفكرية موحّدة. ونحن نلحظ هذا الأمر جليًّا فيمن يقيم خارج البلاد. حيث يلتقي أناسًا من إخوانه المؤمنين لا يعرفهم، ولكن لرغبة في إحياء هذه المناسبة فإنه يبحث عمّن يقيمها ويلتقيهم، ويتداخل معهم، وتكون فرصة لبداية علاقات جديدة. وهذه فائدة مهمة ينبغي تنميتها، والاهتمام بها، ولا يمكن الاستعاضة بما تبثه القنوات الفضائية من المآتم والحسينيات، مهما كان مستوى المادة التي تبث. فالمسألة لا تنحصر في الجانب الفكري فقط، بل هناك أغراض ومقاصد اجتماعية ونفسية وروحية لا تتحقق إلا باجتماع الإنسان المؤمن مع بقية إخوانه المؤمنين.

تفعيل الخطاب المنبري الذي يحمل عنوان قضية الإسلام ومصالح الأمة.

تعزيز المشاركة الفاعلة. إذْ على كل شخص أن يطالب نفسه بالبذل في هذه المجالس، سواء كان بجهد بدني أو فكري أو عطاء مالي، وألّا يقنع بأن يكون مستهلكًا فقط.

علينا كشيعة للحسين نهتم بإحياء ذكره وتخليد رسالته وموقفه، أن نجعل من هذا الموسم العاشورائي منطلقًا لنا لتأكيد أهمية وحدة المجتمع وغرس القيم والمبادئ فيه. لهذا فكلنا معنيٌّ بهذا الموسم السنوي، وليست الأدوار مناطة بأحدٍ دون آخر.

 

الخطبة الثانية: صمود غزة والموقف العربي الهجين

﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [سورة الأنفال، آية: 60].

في مواجهة العدوان لا بُدّ من الردع والمقاومة. فالدفاع عن النفس حقٌّ مشروع أقرّته كلّ الأديان والشرائع والمواثيق الدولية؛ لأن العدو إن لم يجد أمامه رادعًا فإنه سيتمادى في غيّه وعدوانه.

تواجه الأمة الإسلامية في هذا العصر أسوأ عدوان وظلم من قبل الصهاينة المعتدين. هؤلاء الذين احتلوا فلسطين وشرّدوا أهلها، وصاروا يمارسون هيمنتهم على المنطقة كلها، والعالم كله يدرك أن هذا عدوان سافر، بما في ذلك الأمم المتحدة التي تصفه بالاحتلال، وتقرّ للفلسطينيين بأن لهم الحقّ بإقامة دولتهم المستقلة، عن طريق التفاوض والدبلوماسية مع إسرائيل، وأن يأخذوا حقّهم بموافقة إسرائيل وبرضاها! وكيف لإسرائيل أن ترضى؟ كيف لقوة ظالمة معتدية أن تكفَّ عن عدوانها؟!

خيار المقاومة:

لقد جرّب العرب هذا الخيار. سنوات وهم يلهثون خلف التفاوض والحلّ الدبلوماسي، لكنه لم ينتج إلا تكريس الاحتلال، وإلغاء أيّ احتمال لإقامة دولة فلسطينية، عبر تقطيع أوصال فلسطين بالاستيطان لخلق أمر واقع، وضمان تفوق إسرائيل عسكري في المنطقة، كما تعلن عن ذلك أمريكا والغرب. ويعني ذلك أن كلّ العرب والمسلمين في المنطقة يجب أن يكونوا تحت الهيمنة الإسرائيلية، وهذا ما تمارسه إسرائيل بالفعل، حيث احتلّت فلسطين والجولان وسيناء، وغور الأردن، ولم تخرج من سيناء والأردن إلا بشروط مُذلّة للمصريين والأردنيين. واحتلت جنوب لبنان، بل وصلت إلى قلب بيروت.

إنها تمارس الغطرسة، وتنفذ إرادتها في العالم العربي والإسلامي، وكأنَّ المنطقة مفتوحة لها تعبث فيها كيف تشاء. فحينما أراد العراق بناء المفاعل النووي قررت إسرائيل أن تقصف المفاعل النووي في بغداد وبالفعل قامت بذلك، وحينما تحدثوا عن وجود منشأة نووية في سورية دمّروها، وحينما ادّعوا وجود مصنع باسم اليرموك في السودان يصنع الأسلحة لمساعدة فلسطين، قصفوه، وحينما كان في تونس بعض القيادات الفلسطينية «أبو جهاد» أرسلوا فرقة الكماندوز إلى قلب تونس وقتلوه، وأخيرًا سربوا فيلمًا عن العملية. كل ذلك يحصل أمام مرأى ومسمع من العالم! وهم يهددون الآن إيران، هذه الدولة القوية الكبيرة في المنطقة، لامتلاكها برنامجًا نوويًا؛ لأن إسرائيل تجد لنفسها الحق في تهديدها، بالرغم من أن إسرائيل لديها أخطر برنامج نووي في المنطقة.

أمام هذا التغطرس والعدوان السافر، ماذا على العرب والمسلمين سيما الفلسطينيين واللبنانيين أن يفعلوا؟ هل نفعت تلك المفاوضات؟ إنه لا خيار أمام العرب والمسلمين سوى الحلّ القرآني، حيث يقول تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّـهِ وَعَدُوَّكُمْ، من دون الردع والمقاومة لن تتغير الأمور، ولن تتعطف إسرائيل على الفلسطينيين والعرب بإعطائهم بعض حقوقهم، وهذا ما أثبتته مواجهة المقاومة في لبنان لإسرائيل، حيث اضطرت إسرائيل للانسحاب من دون مفاوضات، ومن دون شروط، وأصبحت تحسب حساباً للبنان. هل تلقّت إسرائيل أوامرها حيال ذلك من مجلس الأمن؟ كلا، وإنما لأن هناك مقاومة. وحين لعب المجاهدون في غزة نفس الدور، ورأت إسرائيل نفسها أمام شعب مقاوم قوي صامد، قررت الانسحاب من غزة. وها هي اليوم تعلن عن قبول هدنة مع حماس.

متى كانت إسرائيل تفكر في هدنة وهي في موقع قوة؟! لكن المقاومة اليوم غيرت المعادلة، فالشعب في فلسطين يقود مقاومة صامدة بطولية ضد العدوان الإسرائيلي، حيث وصلت صواريخهم إلى تل أبيب، وعرض التلفزيون مشهداً لرئيس الوزراء نتنياهو وهو يخرج مهرولًا من مكتبه نحو الملجأ!

لا تفهم إسرائيل غير هذه اللغة، ولا يمكن التفاهم معها بغير هذه اللغة. صحيح أن هناك خسائر وتضحيات، ففي صباح اليوم الجمعة كانت عشرات الغارات على غزة، سقط على إثرها شهداء وجرحى، وأصيب فيها النساء والأطفال، هذه تضحيات وخسائر وآلام، لكن هذا هو الطريق للخلاص من عدوان إسرائيل.

حقّ تسليح المقاومة:

نحن كشعوب عربية وإسلامية نتضامن مع الفلسطينيين وأهالي غزة، ومطلوب من قيادات الدول العربية والإسلامية دور أكبر، يتمثل في تسليح الشعب الفلسطيني.

للأسف الشديد، أصبح إمداد الفلسطينيين بالسلاح تهمة تتبرأ منها الدول العربية، وتخشى الإقرار بحق تسليح الفلسطينيين! لماذا لا يحق للفلسطينيين حمل السلاح؟ أليس من حقهم الدفاع عن أنفسهم؟ وحينما تقصف إسرائيل مصنع اليرموك في الخرطوم لأنهم يصنعون أسلحة للفلسطينيين ـ حسب زعمها ـ فهل هو أمر مشروع؟ والأدهى من ذلك ما تراه وتسمعه من شماتة البعض على دولة السودان لفتحها مجالًا لإسرائيل لاختراقها.

إن هذا موقف ذلّ وهوان. كم نسمع عن صفقات جديدة للأسلحة مع دول أوروبا المختلفة وبالمليارات، ولكن لماذا؟! أين هذه الأسلحة عن دعم المقاومة في غزة، هذه المليارات التي تنفق على الأسلحة لو خصصنا مليارًا واحدًا للفلسطينيين لتغيّرت المعادلة، إنهم بحاجة إلى السلاح، وهذا حقّ مشروع لهم.

نسأل الله البركة والتأييد لمن يدعم المقاومين الفلسطينيين بالسلاح، ويقف بصفهم. هذه هي العروبة، والموقف البطولي المشرف، وهو الموقف الذي ينبغي أن يقوم به الجميع. حين نسمع أمريكا والدول الغربية يعلنون بكل وقاحة عن مسؤولية حماس تجاه التصعيد في غزة، وتعطي لإسرائيل الحقّ فيما تمارسه من إجرام بحجة الدفاع عن النفس، فما ذاك إلا لتخاذلنا عن نصرة الفلسطينيين، وعدم اتخاذ المواقف الضاغطة والمعارضة لموقف الدول الغربية.

نسأل الله تعالى أن يكتب النصر لإخواننا في غزة ويمنحهم الثبات والصمود، ويشفي جرحاهم ويرحم شهداءهم. فإن الحقّ مع الفلسطينيين، والله معهم، والشعوب معهم، وحركة التاريخ كذلك مع الفلسطينيين.

 

*خطبتي الجمعة 4 محرم 1434هـ الموافق 16 نوفمبر 2012م
[1] محمد بن يعقوب الكليني، الكافي، ج ٢، ص ١٧٥، حديث 1.
[2] الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا، ج ٢، ص ٢٧٥، حديث69.
[3] محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 44، ص ٣٢٩.