تطورات العلاقة بين المجتمعات المسيحية والإسلامية

مكتب الشيخ حسن الصفار

جاء في السيرة النبوية أنه وفد إليه وفد النجاشي فقام صلى الله عليه وسلم يخدمهم بنفسه، فقال له أصحابه: نحن نكفيك، يا رسول الله، فقال: "إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين وإني أحبّ أن أكافئهم"[1] .

ثمة دلالات تاريخية عديدة حول نشوء علاقة إيجابية بين المسيحيين والمسلمين منذ مطلع الدعوة الإسلامية. ومن أوائل تلك الدلالات، الهجرة الإسلامية الأولى إلى الحبشة، فحينما اشتدّت الضغوط على المسلمين في مكة المكرمة، خلال السنة الخامسة من البعثة النبوية الشريفة، شجّع رسول الله أصحابه على الهجرة إلى الحبشة، البلد المسيحي، الذي كان يحكمه النجاشي، وجاء في السيرة النبوية أنه خاطب ثمانين من أصحابه بالقول: "لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإنّ بها ملكًا لا يُظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجًا مما أنتم فيه"[2]  ، فخرجوا بقيادة جعفر بن أبي طالب، متجهين إلى الحبشة بحرًا. وكما كان متوقّعًا فقد استقبل أهل الحبشة المسلمين المهاجرين، استقبالًا حسنًا. وفي ذلك إشارة إلى طبيعة الأجواء الإيجابية السائدة بين المسيحيين في الحبشة آنئذٍ، الذين أتاحوا الفرصة لأتباع الديانات الأخرى للعيش بينهم في أمن وسلام، وأن يظهروا إيمانهم ويمارسوا عباداتهم.

وورد عن أم سلمة وكانت إحدى المهاجرات للحبشة قبل أن تكون زوجًا للنبي ، أنها قالت: "لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار، النجاشي، آمنا على ديننا وعبدنا الله لا نؤذى ولا نسمع شيئًا نكرهه"[3] . وقد بعثت قريش خلف المهاجرين المسلمين إلى الحبشة، فأرسلت وفدًا محمّلًا بالهدايا إلى النجاشي، طمعًا في أن يطرد المسلمين من بلاده ويعيدهم إلى مكة، غير أنّ تلك المحاولة باءت بالفشل، وبقي المهاجرون في الحبشة إلى حين عودتهم إلى المدينة المنورة إبّان فتح خيبر، حتى قال النبي قولته الشهيرة: "ما أدري بأيّهما أنا أشدّ فرحًا، بقدوم جعفر أم بفتح خيبر"[4] .

النبي يردّ الجميل للمسيحيين

وعلى المقلب الآخر، قدّم رسول الله ، في عزّ انتصاره وقوته، أنموذجًا مشرقًا على صعيد العلاقة الإيجابية بين المسلمين والمسيحيين. فقد قابل صنيع النجاشي وأهل الحبشة مع أصحابه، في تعامله مع وفد النجاشي الذي وفد عليه لاحقًا في المدينة المنورة، إذ بخلاف سائر الوفود، انبرى لخدمة وفد الحبشة بنفسه، وحين عرض الأصحاب القيام بخدمة الوفد عارضهم بالقول: "إنّهم كانوا لأصحابنا مكرمين وإني أحبّ أن أكافئهم". وفي ذلك رد ّجميل لموقفهم الحسن، واستقبالهم للمهاجرين المسلمين.

وعلى ذات المنوال، كان تعامل رسول الله ، لما جاءه وفد نصارى نجران، فدخلوا عليه المسجد بعد صلاة العصر، فحانت صلاتهم، فقاموا يصلون في مسجده فأراد الناس منعهم، فقال : "دعوهم" فاستقبلوا المشرق فصلّوا بصلاتهم وهم في مسجد رسول الله [5] .

العلاقة الإيجابية مع أتباع الديانات

إنّ قيم الإسلام تدفع باتجاه قيام العلاقة الإيجابية مع أتباع الديانات الأخرى. ومردّ ذلك إقرار الإسلام بأصالة حرمة الإنسان وكرامته، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ، فالإسلام يقرّ بكرامة الإنسان بما هو إنسان، بصرف النظر عن العرق والدين واللون، كما يقرّ للبشر بالحرية الدينية، واختيارهم الدين الذي يرتضونه لأنفسهم، قال تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ. ناهيك عن أنّ الإسلام يقرّ الإيمان بجميع الأنبياء، باعتبار ذلك جزءًا لا يتجزأ من العقيدة الإسلامية، فلا يمكن أن يكتمل إيمان مسلم إذا ما تنكّر لأيِّ نبيٍّ من الأنبياء السابقين على النبي محمد ، قال تعالى: ﴿قُلْ آمَنَّا بِاللَّـهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ[سورة آل عمران، الآية: 84].

وتبعًا لذلك، يقرّ الإسلام بوجود الديانات الأخرى ويعترف بكيانات أتباعها. فلم يعمد إلى إجبار أتباع الديانات الأخرى على ترك عقائدهم، ولم يأمر بإجلائهم أو التعدّي عليهم وإبادتهم، وإنما تعامل معهم كما هم، وعلى دياناتهم، تحت شرط واحد فقط، هو المسالمة وعدم العدوان، قال تعالى: ﴿لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّـهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [سورة الممتحنة، الآية: 8]. هذه هي المبادئ الإسلامية للعلاقة مع أتباع الديانات المختلفة.

وقد أولى الإسلام أهل الكتاب، من اليهود والنصارى والمجوس، معاملة أشدّ خصوصية باعتبارهم أتباع ديانات سماوية. بالرغم مما وقع من التحريف في أديانهم، ويكفي أنه تعالى أطلق عليهم وصف أهل الكتاب، وهو وصف ينمّ عن الاحترام. علاوة على ذلك، دعاهم إلى الحوار والتوافق على المشتركات، قال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ. وقد أشاد الإسلام بالمسيحيين على نحو خاصّ، قياسًا على اليهود الذين تعاطوا مع الدعوة الإسلامية منذ البدء تعاطيًا سلبيًا، وحاكوا المؤامرات وخاضوا الحروب مع المسلمين، على النقيض من الموقف الإيجابي الذي أبداه المسيحيون من الدعوة، من هنا ميّز الإسلام بين الموقفين، قال تعالى: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ۖ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ[سورة المائدة، الآية:82].

تعثّر العلاقة مع المسيحيين

غير أنّ العلاقة بين المسيحية والإسلام أخذت منعطفًا آخر فيما بعد، على خلاف ما كانت عليه عند بداية ظهور الإسلام. فقد شقّ المسلمون طريقهم كأمّة صاعدة، فيما اختار المسيحيون، ممثلين في حكوماتهم السياسية، الوقوف في وجه هذه القوة الإسلامية الجديدة، مما قاد لاشتعال الحروب بين أتباع الديانتين، بدءًا من معركة مؤتة في السنة الثامنة للهجرة، ثم تلا ذلك نشوب معركة تبوك في السنة التاسعة للهجرة، التي لم يقع خلالها اصطدام عسكريّ فعليّ بين الطرفين، لتتابع بعدها حالات الصراع والحروب بين المسلمين والمسيحيين، إلى أن استطاع المسلمون بسط نفوذهم على أنحاء كثيرة من العالم، من خلال الفتوحات الإسلامية، فيما تراجعت القوة المسيحية.

هنا ينبغي الإشارة إلى ما شاب الفتوحات الإسلامية من ممارسات لا تعبّر بالضرورة عن رأي الإسلام، ومردّ ذلك إلى من كان على رأس هذه الغزوات من سياسيين وعسكريين، بعضهم كانوا يمارسون الظلم والجور على المسلمين أنفسهم، فضلًا عن غير المسلمين. ثم جاءت مرحلة الحروب الصليبية التي شنّها المسيحيون ضدّ الأراضي الإسلامية، ليعقبها فيما بعد عهد الاستعمار الغربي لمعظم البلاد العربية والإسلامية. هذا ما يلخّص على نحو سريع المنعطفات التي شابت العلاقة الشائكة بين المسلمين والمسيحيين خلال القرون الماضية.

هذا العصر وفرص التجاوز

وبصرف النظر عن أحداث التاريخ، يبدو أنّ الفرصة باتت مؤاتية لقيام علاقة أكثر إيجابية بين الشعوب الإسلامية والمجتمعات الغربية المسيحية، في عصرنا الراهن. ومردّ ذلك إلى عوامل عدة، منها: تغيّر الحالة الدينية عند المسيحيين، وانكفاء الهيمنة الكنسية التي كانت تنشب أظفارها في تلك المجتمعات، خلال القرون الوسطى، وجاءت عوضًا عن ذلك حكومات غربية تعتمد مفهوم المواطنة، في النظر إلى أفراد شعوبها، بصرف النظر عن عقائدهم وأعراقهم وألوانهم، وصار أكبر همها العمل من أجل تحقيق المصالح لبلادها.

زد على ذلك عامل التطور الإنساني في العصر الحديث، المتمثل في قيام مواثيق دولية تنظم العلاقة بين البشر، ومنها مواثيق حقوق الإنسان، ونشوء المؤسسات الدولية الراعية لهذه العهود والمواثيق.

وكذلك الحال على الضفة المقابلة، فقد شهدت الأمة الإسلامية حالة انتشار الوعي في صفوف مجتمعاتها، التي أصبحت تدرك أنّ هناك تمايزًا واضحًا للعيان بين الحكومات الغربية من ناحية، وشعوبها من ناحية أخرى، على نحو باتت فيه للحكومات سياساتها وأجندتها، فيما بات للشعوب ثقلها، ورأيها العام، الذي ربما جاء معاكسًا لتوجهات حكوماتها. ولذلك توفرت فرص كبيرة للمسلمين لكسب تعاطف الشعوب الغربية مع قضاياهم، بالضد من التوجّهات السياسية الحاكمة هناك.

إنّ من الصحيح أنّ هناك مراكز قوى متعددة في الدول الغربية. ولهذه القوى خططها ووسائل نفوذها، كما أنّ المجتمعات الغربية مجتمعات منفتحة على التواصل، ونسج العلاقة، والقابلية وللتأثر التأثير.

الجاليات الإسلامية جسور تواصل

وينبغي أن نضع بعين الاعتبار عاملًا مؤثرًا في العلاقة بين الغربيين والمسلمين، يتمثل في الهجرات الكبيرة لأبناء الأمة الإسلامية للدول الغربية، حيث باتت تلك الدول موطنًا للملايين من المهاجرين المسلمين، الذين وفدوا عليها لأسباب مختلفة، وحصلوا على جنسياتها، وباتوا جزءًا من نسيجها الاجتماعي، حتى لا تكاد تخلو مدينة غربية من وجود إسلامي. وقد ذكّرنا احتضان الشعوب الغربية للمهاجرين المسلمين في عصرنا الراهن، باستقبال أسلافهم من مسيحيي الحبشة للمسلمين الأوائل، سيمّا وأن كثيرًا من المهاجرين المعاصرين قد هربوا من الاضطهاد الديني والسياسي والعرقي، أو الحرمان الاقتصادي الواقع عليهم في بلادهم، فلما ذهبوا للغرب احتضنتهم تلك المجتمعات، ووفرت لهم الأمن والاطمئنان، وأتاحت لهم الفرص، بما في ذلك ممارسة شعائرهم الدينية، فأقيمت هناك المساجد والحسينيات والمراكز الدينية والمدارس.

وبعيدًا عن رسم صورة مثالية عن الوضع هناك، يمكن الاعتراف بوقوع وبروز المشاكل أمام المسلمين في بعض الأحيان، غير أنّ هناك في المقابل مبدأ سيادة القانون، ورسوخ مفهوم المواطنة، واحترام حقوق الإنسان، ما يساعد كثيرًا في محاصرة المشاكل ومعالجتها.

لقد ساهم تفاعل الجاليات المسلمة في الغرب، مع بيئاتهم الاجتماعية، في ترك تأثير إيجابي على العلاقة المسيحية الإسلامية. ومن مظاهر ذلك بروز حالة التفهّم للإسلام في أوساط تلك المجتمعات، الأمر الذي دفع كثيرين منهم للدخول في الإسلام، حتى أصبح أسرع الأديان انتشارًا في الولايات المتحدة الأمريكية وفي بلدان أخرى، فيما اكتسب المهاجرون المسلمون العلم، وتشرّبوا القيم الحضارية، ما يعني قيام تأثير وتأثر متبادل بين المهاجرين المسلمين وتلك المجتمعات. 

كما أنّ حالة الانفتاح العالمي أسهمت في بروز تفهّم أكبر وتداخل عميق بين الشعوب الإسلامية والمجتمعات المسيحية. وذلك بفضل التقدم التكنولوجي، وتقنيات الاتصال، ومواقع التواصل الاجتماعي، على النحو الذي جعل من العالم قرية واحدة.

بين الشعوب الغربية وحكوماتها

وكان متوقّعًا أن تقوم في هذا العصر علاقات إسلامية مسيحية أكثر ايجابية وأهمية، حيث كان مسار العلاقة يمضي بهذا الاتجاه، فهناك فرق كبير بين مناوئة المسلمين لسياسات الحكومات الغربية، وبين العلاقة مع شعوب تلك الدول. ولطالما أظهرت فئات من الشعوب الغربية تضامنها مع قضايانا العربية والإسلامية، وعلى رأسها قضية فلسطين المحتلة، التي ضحّى بعض الغربيين بأنفسهم في دفاعهم عن الفلسطينيين. ناهيك عمّا تظهره منظمات المجتمع المدني في الغرب من تعاطف كبير مع معاناة الشعوب العربية والإسلامية، التي ترزح تحت سيطرة حكومات استبدادية.

وخلافًا لما سبق، ظهر من يستغلّ مواقف الحكومات الغربية من قضايا المسلمين ذريعة للإساءة للشعوب والمجتمعات الغربية. وفي ذلك خلط متعمّد للأوراق وحرف للبوصلة، وتضييع للمسار، فأن يكون لدى أيّ طرف كان مشكلة مع الحكومات الغربية فإنّ لديه الحقّ في مواجهتها، وذلك أمر متفهّم، إلّا أنّ من غير المفهوم ولا المقبول أن يمارس الاعتداء على المواطنين الأبرياء في تلك المجتمعات. إنّ المنظمات الإرهابية المنتسبة زعمًا للإسلام أفسدت العلاقة بين الشعوب الإسلامية وبين المجتمعات الغربية، من خلال اعتداءاتها الإرهابية ضدّ أبناء الشعوب الغربية، كما حصل في أمريكا وبريطانيا، وفي العاصمة الفرنسية مؤخرًا، وغير ذلك من المناطق، مما جعل العلاقة الإسلامية المسيحية تمرّ بمرحلة حرجة، وبات الوجود الإسلامي في الغرب مثيرًا للقلق، وألقى بظلاله على كلّ مظاهر التواجد الإسلامي هناك، من مراكز إسلامية ومساجد ومدارس، وعلى نحوٍ جعل العائلات الإسلامية تواجه مصاعب مستجدة لم تقابلها فيما سبق، ناهيك عن الإجراءات الطويلة التي باتت تفرضها السفارات الغربية على المسلمين، من طالبي تأشيرات الدخول إلى أوروبا وأمريكا، وما يتبع ذلك من إجراءات أمنية مشدّدة في المطارات.

التداعيات الخطيرة للحركات الإرهابية

يمكن القول هنا، إنّ من حقّ الدول الغربية أن تتخذ الإجراءات التي تحفظ أمنها، وتمنع من تسلل الإرهابيين إلى أراضيها. إلّا أنّ ذلك ترك تداعيات سلبية على شكل العلاقة بين المجتمعات الغربية والوجود الإسلامي فيها، على نحوٍ بات هناك عمل على تكوين رأي عام مناهض للإسلام، ومعادٍ لوجود المسلمين في الغرب. وفي الوقت الذي نعتقد فيه بوجود قوى مستفيدة من حالة التوتر في العلاقة الإسلامية المسيحية، بل وتستثمر فيها، وعلى رأسها الصهيونية العالمية، واليمين المسيحي المتطرف، والجهات السياسية المستفيدة، إلّا أننا ينبغي أن نعترف في الوقت عينه بالمشكلة التي نعيشها في داخلنا، حيث يعجّ تراثنا الديني بالمواقف السلبية المتشنجة من أتباع الديانات الأخرى، بالرغم من وضوح المبادئ الإسلامية الإيجابية، فهناك في هذا التراث نصوص وآراء لا تجعل المسلم ينظر نظرة احترام للآخرين، أو يتعامل معهم على نحو سلمي، لفرط الشحن السلبي الذي توفره بعض مقولات هذا التراث.

صحيح أننا نعتقد أن الإسلام هو الدين الحق، كما جاء في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّـهِ الْإِسْلَامُ، لكن ذلك لا يعني أبدًا إعطاء الضوء الأخضر لممارسة الإساءة للأديان الأخرى. فقد ورد عن النبي أنه قال: "من آذى ذميًا فقد آذاني"[6] ، كما أمرنا الباري جل وعلا أن نقابل الناس كافة بالإحسان، قال تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا، ونهانا عن ظلم الناس، وذلك في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ. أن مما لا شك فيه أن هناك مقولات تسلّلت إلى تراثنا الديني، إما باصطناع واختلاق نصوص مزورة، أو بإنتاج تفسير سيء لبعض النصوص يعتمدها بعض الفقهاء في إصدار فتاوى متشددة، وآراء مخجلة من الناحية الإنسانية في التعامل مع الآخر، والشواهد كثيرة معروفة، كما أن هناك من علماء الدين، وخطباء المنابر، والدعاة، من احترف التعبئة ضد أتباع الديانات الأخرى على نحو الإطلاق، كالدعاء بالهلاك على جميع اليهود والنصارى، دونما مبرّر شرعي أو عقلي يبرر هذا الدعاء، إذ من المفهوم أن يأتي الدعاء بالهلاك على الظالمين والمعتدين، لا أن يكون على عموم الناس لمجرّد كونهم من دين معيّن.

وماذا عسانا نتوقع من أتباع الديانات الأخرى إذا سمعوا مكبرات الصوت تصدح من مساجدنا بالدعاء عليهم بالهلاك؟ والأغرب من ذلك، أن يقع بعض أفراد الجاليات الإسلامية اللاجئين إلى الغرب، في منزلق الدعاء بالهلاك على تلك الشعوب التي احتضنتهم وآوتهم وأحسنت إليهم، حتى إنّ أحد هؤلاء اللاجئين المتطرفين سئل في لقاء صحفي، عن سبب بقائه في بلاد الغرب وهو يحمل كمًّا هائلًا من الضغينة عليهم، ويتمنّى هلاكهم؟ فجاء بجواب غاية في القبح بقوله: إنّ الإنسان يضطر إلى دخول بيت الخلاء (المرحاض) ولكنه لا يمتدحه!!.

الخطاب المتشنج والتعبئة المتطرفة

إنّ الخطاب الديني المتشنّج، والتعبئة السياسية المتطرفة، تتحمّل قسطًا كبيرًا من المسؤولية عن العلاقة الشائكة بين الشعوب الإسلامية والشعوب الغربية. ولنا أن نراقب هذه الأيام صدور الفتاوى المتزامنة مع أعياد الميلاد، التي تنصّ على منع المسيحيين في البلاد الإسلامية من الاحتفاء بعيد ميلاد المسيح . فما هو يا ترى المبرّر من منع ملايين المسيحيين في البلاد الإسلامية من ممارسة عباداتهم والاحتفال بأعيادهم، سيّما وقد استضافتهم البلاد وفتحت لهم أبواب العمل وبعضهم من أبناء هذه البلدان؟

في مقابل ذلك، لنا أن نلقي نظرة على الأوضاع الإيجابية للمسلمين في البلاد المسيحية، على نحوٍ درجت أعلى المؤسسات السياسية والبرلمانية الغربية على تقديم التهاني بالأعياد الإسلامية للجاليات المسلمة في بلادهم، وحول العالم، كما راحت بعض البلدان المسيحية تعطي عطلة رسمية للعاملين المسلمين في أعيادهم، فإذا كانت البلاد المسيحية تمنح المسلمين كامل حرياتهم الدينية، فإنّ من اللازم أن تعامل البلاد الإسلامية المسيحيين في بلادها معاملة المثل، بأن تمنحهم كامل الحقّ في ممارسة حرياتهم الدينية. ولنا في رسول الله أسوة حسنة في تعامله مع مسيحيي الحبشة، الذين وفدوا عليه في المدينة المنورة، وقد قال فيهم: ".. وإني أحبّ أن أكافئهم".

لذلك، لا وجه لأن يمنع المسيحيون في بلاد المسلمين من أن يعبّروا عن ذواتهم، وأن يمارسوا عباداتهم بحرية. إنّ من الصحيح أن لنا كمسلمين أعيادنا ومناسباتنا، ولسنا بوارد الاحتفال بالمناسبات الدينية للأمم الأخرى، ولكن ما ربط ذلك بمنعهم من الاحتفال بأعيادهم ومناسباتهم الخاصة بهم؟ والأنكى من ذلك، ما نجده من فتاوى تمنع المسلمين من مجرّد تهنئة المسيحيين وأتباع الديانات الأخرى بمناسباتهم الدينية والاجتماعية، حتى لو كانت التهنئة موجهة لعاملة منزلية نصرانية، أو سائق مسيحي! إنّ التعامل مع الآخرين على هذا النحو من الجفاء، هو أبعد ما يكون عن الحالة الإنسانية، ومردّ ذلك التفسير السيئ لآيات وأحكام الجهاد في الإسلام، ما يؤدي بدوره إلى صناعة أرضية غير متسامحة مع أتباع الديانات الأخرى.

نحن مطالبون أن نعيد النظر في تراثنا الديني، لجهة التعامل مع سائر البشر من الديانات الأخرى. كما أنّ على المسلمين الموجودين في الغرب على نحو خاصّ، القيام بمبادرات خلّاقة لتحسين صورة الإسلام، وسمعة الأمة، التي لطختها الممارسات الإرهابية، على أن يجري ذلك على نحو منهجي منظم، لا أن يأتي نتيجة ردود فعل على حدث هنا، أو إساءة للإسلام هناك، سيمّا وأنّ الجماعات المتطرفة آلت على نفسها إفساد العلاقة بين شعوب الأمتين الإسلامية والمسيحية، إمّا لجهلٍ وحماقة، أو لأنها مدفوعة من جهات مغرضة.

الجمعة 14 ربيع الأول 1437هـ الموافق 26 ديسمبر 2015م
[1] السيرة الحلبية، ج٢، ص٧٥٨.
[2] البداية والنهاية، ج٣، ص٨٥.
[3] مسند أحمد بن حنبل، ج١، ص٢٠٢.
[4] بحار الأنوار، ج٢٢، ص٢٧٦.
[5] السيرة الحلبية، ج٣، ص٢٣٥.
[6] علي بن يونس العاملي النباطي البياضي، الصراط المستقيم إلى مستحقّي التقديم، ج3، المكتبة المرتضوية، ص13، باب 12.