الشيخ الصفار.. منهجه الاصلاحي ومقاومة الخوف من التجديد
ولد الشيخ حسن بن موسى بن الشيخ رضي الصفار سنة 1377هـ الموافق 1958م في مدينة القطيف من المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية . وفي مراحله العمرية الأولى تعلم القرآن الحكيم ضمن الكتاتيب الأهلية ودرس الابتدائية والمتوسطة في مدينة القطيف . وبعدها هاجر إلى مدينة النجف لطلب العلم والدراسة في حوزتها المعروفة . وكان ذلك في عام 1391هـ الموافق 1971م ، ثم انتقل إلى الحوزة العلمية في مدينة قم بإيران سنة 1393هـ الموافق 1973م ، ثم التحق بمدرسة الرسول الأعظم في الكويت سنة 1394هـ الموافق 1974م ، وتلقى علومه ومعارفه الدينية عند مجموعة من العلماء والفقهاء أبرزهم المرجع الديني السيد محمد الحسيني الشيرازي والمرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي .
وتقديرا لكفاءته العلمية وأنشطته الدينية والثقافية والدعوية المختلفة ، منحه عدد من كبار المرجعيات الدينية إجازات وشهادات للرواية والتصدي للمهام والشؤون الدينية والثقافية المختلفة . ومن أبرز هؤلاء المعاصرين المرجع الديني السيد علي السيستاني .
ويتميز الشيخ الصفار بخطاباته الدينية الجريئة والمتميزة . وقد مارس الخطابة الدينية من عام 1388هـ الموافق 1968م وعمرة إحدى عشر سنة ، واستضافته العديد من المحافل الدينية والثقافية والاجتماعية لإحياء المناسبات الدينية والمشاركة في المواسم الثقافية في القطيف والأحساء والبحرين والكويت وسلطة عمان وقطر ودبي ودمشق وقم وطهران . ولديه مئات المحاضرات الدينية المسجلة والمبثوثة في بعض وسائل الإعلام المختلفة .
ومنذ استقراره في مدينة القطيف في عام 1994م ، بعد هجرة دامت عقد ونصف من الزمن ، انشغل فيها الشيخ الصفار بأنشطة ثقافية واجتماعية وسياسية ، تحول مجلسه العامر إلى منبر لإلقاء الدروس والمحاضرات والاجتماعات الثقافية والاجتماعية والوطنية .
ولا زال الشيخ يواصل دوره الديني والاجتماعي والثقافي والوطني ، وينشط على أكثر من صعيد ، وذلك من أجل زيادة الوعي الديني في المجتمع ، وترقيته ثقافيا وسياسيا ، وتنشيط مؤسسات المجتمع المدني ، والمطالبة بحقوق مجتمعه عبر الحوار والتواصل مع الجهات الرسمية العليا في المملكة .
- مؤلفاته وكتبه :
لعلنا لا نجانب الصواب حين القول : أن الشيخ حسن الصفار كأحد أعلام الإصلاح الديني في منطقة الخليج وشبه الجزيرة العربية ، توسل بوسائل عديدة من أجل التعريف بأفكاره الإصلاحية ، وزيادة وعي الناس الديني والثقافي والسياسي .
ومن هذه الوسائل وسيلة التأليف والكتابة . إذ أن الشيخ ومنذ انطلاقته الدينية والإصلاحية الأولى ، وهو يلقي المحاضرات ، ويؤلف الكتب ، ويشارك في الندوات والملتقيات الثقافية والاجتماعية . ولذلك لديه عشرات الكتب والأبحاث ، التي تعكس رؤيته وموقفه من مختلف التطورات والتحولات . وبعض هذه المؤلفات ترجم إلى لغات أخرى ، ومن أبرز مؤلفاته الأسماء التالية :
1- التعددية والحرية في الإسلام - بحث حول حرية المعتقد وتعدد المذاهب .
2- التسامح وثقافة الاختلاف : رؤى في بناء المجتمع وتنمية العلاقات .
3- الشيخ علي البلادي القديحي : دراسة في شخصيته وتاريخه .
4- فقه الأسرة : بحوث في الفقه المقارن والاجتماع .
5- الحوار والانفتاح على الآخر .
6- شخصية المرأة بين رؤية الإسلام وواقع المسلمين .
7- أحاديث في الدين والثقافة والاجتماع ( سبعة مجلدات ).
8- التنوع والتعايش : بحث في تأصيل الوحدة الاجتماعية والوطنية .
9- الخطاب الإسلامي وحقوق الإنسان .
10- السلفيون والشيعة نحو علاقة أفضل .
11- المذهب والوطن : مكاشفات وحوارات صريحة .
12- السلم الاجتماعي مقوماته وحمايته .
13- السياسة النبوية ودولة اللاعنف .
14- علماء الدين .. قراءة في الأدوار والمهام .
15- العمل والفاعلية طريق التقدم .
16- الآحادية الفكرية في الساحة الدينية .
وغيرها من الكتب والمؤلفات ، إضافة إلى مكتبة صوتية متكاملة ، حيث تحوي المحاضرات الدينية كدروس تفسير القرآن ، والثقافية والسياسية .
إضافة إلى مشاركته الدائمة في المنتديات والندوات والمؤتمرات ، وكتابة الأبحاث ونشرها في بعض المجلات كمجلة الكلمة ومجلة الواحة ومجلة البصائر ومجلة الحج والعمرة ومجلة المنهاج ومجلة رسالة التقريب . ونشر بعض المقالات الأسبوعية في بعض الصحف كصحيفة اليوم السعودية وجريدة الوطن الكويتية وجريدة الأيام البحرينية.
إضافة إلى التزامه بصلاة وخطبة الجمعة في مدينة القطيف .
- منهجه الإصلاحي :
1-التصدي لشؤون المجتمع والأمة . فالشيخ الصفار ومنذ انطلاقته الدينية في عقد السبعينات ، وهو يتصدى عبر وسائل عديدة لشؤون مجتمعه ووطنه وأمته . حتى أضحى بفعل هذا التصدي ، أحد زعماء المجتمع الذي يشار إليه بالبنان ، فهو يلقي المحاضرات والتوجيهات الإسلامية ، ويتدخل لعلاج بعض المشكلات والأزمات الاجتماعية ، ويساهم في مساعدة الفقراء والمحتاجين ، ويرعى ويدعم العاملين لأجل مجتمعهم وأمتهم ، ويلتقي المسئولين ورجال السياسة ليطالب بحقوق الناس وضرورة إنصافهم في شؤون الحياة المختلفة ، ويفتح قلبه وعقله وينسج العلاقات الوطنية والإسلامية من أجل ما ينفع حاضر المسلمين ومستقبلهم .
فصور التصدي الذي يمارسه الشيخ الصفار متعددة ومتنوعة ، إلا أن أجلى وأظهر صورة لعملية التصدي هي بناءه ورعايته لحركة إسلامية مستنيرة ، تنشط على أكثر من صعيد ، وتطالب بإصلاح الأوضاع السياسية والاجتماعية في المملكة وبالخصوص فيما يرتبط ووضع الشيعة في المملكة العربية السعودية .
2- التواصل والانفتاح مع النخب الدينية والثقافية ، وتجاوز كل العناوين التي تحبس الإنسان ضمن أطر ضيقة .
فالشيخ الصفار ومن خلال ممارساته ومبادراته ، هو أحد أعلام الانفتاح والتواصل سواء في الدائرة الإسلامية أو الدائرة الوطنية . فهو أحد المطالبين والمبادرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية ، كما أنه في ذات الوقت أحد المطالبين والمبادرين لنسج علاقات سوية بين جميع مكونات المجتمع والوطن .
إضافة إلى سعيه المتواصل للانفتاح والتواصل مع مختلف القوى والفعاليات الدينية والثقافية والاجتماعية في المجتمع المحلي . فهو طاقة متحركة باتجاه الانفتاح والتواصل . ويعمل عبر كتاباته ومحاضراته لتأصيل هذا الخيار ، وتفكيك كل العوامل المضادة إليه .
لذلك فهو يقول في أحد كتبه " في الواقع كل التراث الإسلامي سواء كانت المصادر عند الشيعة أو عند السنة تحتاج إلى تنقية وغربلة ، وبعضها يحتاج إلى التوثق من صحته وصدوره ، وبعضها يحتاج إلى إعادة النظر في فهمنا للنص حتى على تقدير صحة النص فكيف نفهمه . فكل التراث سواء كان ما عند السنة وما عند الشيعة يحتاج لبحث ، لكن اللافت للنظر أننا نهرب من النقد الذاتي وكل واحد يوجه نقده للآخر وليس لذاته . فالشيعي ينتقد ما في تراث أهل السنة ، لكنه لا يتحلى بالجرأة لكي ينقد تراثه هو ، والسني أيضا ينقد ما في تراث الشيعة ولا يتحلى بالجرأة لينقد ما عنده هو من تراث أيضا ويعيد النظر فيه ، وفي الحقيقة كل تراثنا السني والشيعي بحاجة إلى إعادة نظر " .
3-بناء ورعاية ومساعدة المؤسسات الاجتماعية والثقافية . حيث أنه لا يمكن لأي فرد بوحده مهما أوتي من طاقات وقدرات متميزة ، أن يفي بحاجات ومتطلبات المجتمع أو مشروع الإصلاح الديني والثقافي . وإنما هو بحاجة إلى مشاركة جميع فئات ومؤسسات المجتمع في هذا المشروع . لهذا فإن الشيخ الصفار ووفق رؤيته الإصلاحية ، فإنه يعتني بالتواصل والرعاية للعديد من الأنشطة والمؤسسات الدينية والاجتماعية والثقافية ، فيعمل على تشجيعها ودعمها وتذليل العقبات من أمامها ، وفتح آفاق جديدة لها . ويوظف في سبيل ذلك كل علاقاته ومعارفه واحترامه في المجتمع ، من أجل تقوية هذه المؤسسات ، ومدها بأسباب القوة والاستمرار .
4-التعاون ونسج علاقات التضامن مع مختلف القوى والفعاليات . فالمجتمع بكل فئاته وشرائحه ، يزخر بالعديد من الكفاءات والطاقات . والرؤية الإصلاحية للشيخ الصفار ، تقتضي تشجيع الجميع للتعاون مع بعضهم البعض ، والقيام ببعض الأعمال المشتركة ، وإنجاز تفاهم عميق بين مختلف الأطراف والأطياف. وهو دائما من الباذلين جهدا ، في سبيل خلق تفاهم عميق بين مختلف المكونات والتعبيرات.
5-رعاية واحتضان مجموعة من الطاقات والكفاءات التي تشترك وإياه في هم الإصلاح والتغيير . فهو لا يعمل وحده ، وإنما يعمل على إشراك آخرين معه في العمل .
ويقوم في سبيل إنجاح تجربة الشراكة ، بالكثير من الجهود ، لتذليل بعض المشكلات ، وضبط بعض التوترات ، وإدارة بعض التباينات .
فالمنهج الإصلاحي للشيخ الصفار ، يتجه عبر هذه الأعمال والمناشط لتعميق خيار الإصلاح والتغيير في المجتمع ، ولتوسيع دائرة المطالبين بالإصلاح ، والساعين نحو نيله وتجسيد حقائقه في الواقع الخارجي .
- من أفكاره :
1- الإنسان أساس التنمية :
" الإنسان هو أساس التنمية ، ومحور النهوض والتغيير ، فلا تحدث تنمية حقيقية إلا من خلال إنسان فاعل ، ولا يتحقق تقدم إلا عبر مجتمع ناهض ، وأوطاننا ومجتمعاتنا لن تتجاوز تخلفها إلا إذا قرر أبناؤها استخدام قدراتهم وطاقاتهم في العمل والبناء ، وهل ينقص إنساننا شيء . إنه لا يقل ذكاء وفطنة عن أبناء المجتمعات الأخرى ، وليست مواهبه واستعداداته أضعف من الآخرين ، لكن ما يحتاج إليه إنساننا هو إرادة العمل . وإرادة العمل تعني نفض غبار الكسل والخمول ، ورفض منطق التبرير والتواكل ، وتحدي المشاكل والصعوبات ، وتحمل المشقة والعناء . وإرادة العمل إذا ما تفجرت وأشرقت في نفس الإنسان ، انعكست أشعتها وآثارها على مختلف جوانب حياته ، فبها يتفتق ذهنه عن الخطط والمشاريع ، وينتج عقله الآراء والأفكار ، وتنشط حواسه وأعضاؤه للحركة والأداء " .
2- الحرية في الساحة الدينية :
" ليس من الخطأ أن يقتنع الإنسان برأي ، أو ينتمي إلى مدرسة ، أو يؤمن بقيادة ، أو يثق بمرجعية ، كما أنه من حقه أن يعبر عن رأيه ، وأن ينتصر لتوجهه ، وأن يبشر بأفكاره ، لكن الخطأ هو احتكار هذا الحق لنفسه وإنكاره ذلك على الآخرين . إننا في ساحتنا الدينية بحاجة إلى الاعتراف بحق الاختلاف ، وتعزيز حرية الرأي ، ونشر ثقافة التسامح وقبول الآخر . ويجب أن نرفع الصوت عاليا ضد الإرهاب والقمع الفكري ، ومحاولات الهيمنة ، وفرض الوصاية على عقول الناس وأفكارهم ، باسم العقيدة والدين " .
3- تنمية روح التعاون في المجتمع والأمة :
" إننا بحاجة إلى ثقافة تدعو إلى التعاون ، وتبشر به في جميع الأوساط والميادين ، ويجب أن نفضح العوائق الفكرية والنفسية التي تعرقل مسيرة التعاون ، وتوقف حركتها ، وخاصة ما ينسب منها إلى الدين ، لأنها تعني تحميل الدين مسؤولية التخلف ، وأنه العائق أمام إرادة التعاون . ولكي تسود منهجية التعاون في مجتمعاتنا ، ينبغي أن تنطلق المبادرات التعاونية على مختلف الأصعدة ، لتتراكم التجارب ، وتتوفر النماذج المشجعة . إن على كل من يؤلمه واقع العلاقات المتردية داخل الأمة ، ويتطلع إلى سيادة روح التعاون والعمل الجمعي ، أن يبادر بشخصه ومن موقعه ، وبما يمثل من دور ، لمد يد التعاون والانفتاح على الآخرين ، لتحويل التطلع إلى واقع ، والفكرة إلى عمل . إن على المرجع الديني الذي يدعو إلى التعاون أن يخطو باتجاه التعاون مع سائر المرجعيات الدينية . والمفكر الذي ينظر للوحدة عليه أن يطرح مشروع عمل يشترك فيه مع المفكرين الآخرين . والسياسي الذي يندد بحالة التشرذم والخلافات ، عليه أن يقدم نفسه نموذجا للتعاون مع الآخرين . ورجل الأعمال الذي تبهره ضخامة الشركات الأجنبية عليه أن يسعى لإقناع أمثاله باندماج مؤسساتهم الاقتصادية , وهكذا العاملون في المجال الاجتماعي والعلمي وسائر المجالات " .
- الصفار .. ومقاومة الخوف من التجديد:
دائما المجتمعات الساكنة والجامدة ،تخاف من التغيير والتجديد . وهذا الخوف يتحول بفعل عمق الجمود والتكلس إلى رهاب . أي إلى مرض مجتمعي يحول دون أن ينفتح المجتمع على آفاق التغيير والتجديد وموجباتهما .
وفي هذا السياق تبرز المفارقة الصارخة ،التي تعيشها المجتمعات الجامدة . فهي تعيش التخلف والجمود والسكون على كل الأصعدة ،وتعتمد على غيرها من الأمم والمجتمعات في كل شيء ،وترضى بكل متواليات هذا الواقع السيئ . وفي ذات الوقت تخاف التغيير ،وترفض التجديد ،وتقبل العيش في ظل هذا الواقع السيئ ..
ولعلنا لا نبالغ حين القول : أن الخوف من التغيير والرهاب من التجديد ،ليس خاصا بمجتمع دون آخر ، وإنما هي من خصائص المجتمعات المتخلفة والجامدة ،بصرف النظر عن أيدلوجيتها وبيئتها .. فكل المجتمعات الجامدة تخاف من التغيير ،وكل الأمم المتخلفة تخشى من التجديد لمستوى الرهاب .
من هنا فإن لحظة الانطلاق الحقيقية في هذه المجتمعات ،تتشكل حينما تتجاوز هذه المجتمعات حالة الخوف والرهاب من التغيير والتجديد . فحينما يكسر المجتمع قيد الخوف من التغيير والتجديد ،حينذاك يبدأ المجتمع الحياة الحقيقية ،التي تمكنه من اجتراح فرادته وتجربته . أما المجتمعات التي لا تتمكن لأي سبب من الأسباب من تجاوز حالة الرهاب والموقف المرَضي من التجديد ،فإنه سيستمر في التقهقر والتراجع على جميع الأصعدة والمستويات .. والفئات والشرائح التي لها مصلحة في استمرار التقهقر والجمود ،ستستثمر هذه الحالة المرَضية وتبني عليها الكثير من المواقف والإجراءات ،والتي تعمق حالة التخلف وتزيد حالة الخوف المرَضي من كل آفاق ومتطلبات التغيير والتجديد .
وينقل في هذا الصدد عن التاريخ الصيني القديم ،أنه في ظل سلالة هان (25 _ 220 ق.م ) صدر مرسوم إمبراطوري ينص على أنه لا يجوز لأي متأدب أن يطرق ،بصورة شفهية أو خطية ،أي موضوع لم يعينه له أستاذه . فليس يحق لكائن من كان أن يتخطى ميراث معلمه .وكل من تسول له نفسه أن يتعدى الحدود المرسومة يغدو مبتدعا .
وهكذا تأسس رهاب البدعة الذي شل قدرة المثقفين الصينيين على التفكير كما على التخيل . فلكأن عقولهم قد حبست في أكياس من البلاستيك حتى لا يتسرب إليها أي جديد .
فالنزوع القهري إلى رفض التغيير والخوف من التجديد ،هو حالة مرضية ،تزيد من انحطاط المجتمعات ، وتبقيها تحت ضغط الجمود والتخلف . ولا تقدم لهذه المجتمعات إلا بإنهاء حالة الرهاب من التغيير والتجديد ..ونحن هنا لا نقول أن التجديد في المجتمعات بلا صعوبات وبلا مشاكل ،ولكننا نود القول : أن مشاكل المجتمعات من فعل التغيير والتجديد أهون بكثير من استمرار حالة التخلف والجمود .. وإن المجتمعات لم تتقدم إلا حينما انخفض منسوب الخوف من التغيير والتجديد إلى حدوده الدنيا . بدون ذلك ستبقى مقولات التقدم والتجديد والتغيير ، مقولات جامدة ومنفصلة عن الحياة الاجتماعية . وهذا ما يفسر لنا حالة بعض المجتمعات العربية والإسلامية على هذا الصعيد . فهي مجتمعات مليئة في الإطار النظري بمقولات التقدم والحرية والتجديد ، إلا أن واقعها الفعلي ،أي واقع النخب وأغلب الشرائح والفئات الاجتماعية ،تتوجس خيفة من هذه المقولات ،وتنسج علاقة مرضية مع مقتضيات التقدم والحرية والتجديد .فتجد الإنسان يصرخ ليل نهار باسم التغيير والتجديد ،إلا أنه في ذات الوقت يقف موقفا سلبيا من كل الوقائع الاجتماعية والثقافية والسياسية التي تنسجم ومقولة التغيير والتجديد، فتتضخم لديه الخصوصيات إلى درجة إلغاء مقولة التجديد .. فهو باسم الثوابت يحارب المتغيرات ،وباسم الخصوصية يحارب التجديد ،وبعنوان عدم التماهي مع الآخر الحضاري يقف ضد كل نزعات التغيير والتجديد .فهو على الصعيد النظري ،جزء من مشروع الحل ،إلا أنه على الصعيد الواقعي ،جزء من المشكلة والمأزق . وكل ذلك بفعل رهاب التجديد والتغيير.وهي عناوين ومقولات لا يكفي التبجح بها ،وإنما من الضروري الالتزام النفسي والعقلي والسلوكي بمقتضياتهما ومتطلباتهما .وهنا حجر الزاوية في مشروعات التجديد في كل الأمم والمجتمعات .
لهذا من الضروري لأي إنسان ومجتمع ،أن ينسج علاقات جدلية ونقدية مع مقولاته وشعاراته ،حتى لا تتحول هذه المقولات والشعارات إلى أقانيم مقدسة ،تحارب التجديد في العمق والجوهر ،وهي تتبناه في المظهر .
ويبدو من خلال التجارب الإنسانية المديدة ،أن المجتمعات تتمايز على هذا الصعيد في هذه المسألة .. فكل المجتمعات تصدح بضرورة التطوير والتجديد والتغيير ،إلا أن هناك مجتمعات تخاف حقيقة من التجديد ،لذلك فهي على الصعيد الواقعي تحارب كل ممارسة تجديدية.فالتمايز يكون بين المجتمعات ،بين مجتمعات ترفع شعار التجديد وتلتزم بكل مقتضياته ومتطلباته . ومجتمعات ترفع شعار التجديد دون الالتزام بكل المتطلبات . ولعل من أهم الأسباب لهذا التمايز بين القول والممارسة هو في الخوف من التجديد والرهاب من التغيير . صحيح أن هذه المجتمعات ترفع شعار التجديد ،إلا أنها على الصعيد النفسي والثقافي تخاف من المقتضيات والمتطلبات . فهي مع التجديد الذي لا يتعدى أن يكون شعارا فحسب ، أما التجديد الذي يتحول إلى مشروع عمل وبرامج عملية متكاملة ،فهي ترفضه وتخاف منه . وأي مجتمع لا يتحرر من رهاب التجديد ،فإنه لن يتمكن على المستوى الواقعي من الاستفادة من فرص الحياة ومكاسب الحضارة الحديثة .
ولكي تتحرر مجتمعاتنا من رهاب التجديد والتغيير ،من الضروري التأكيد على النقاط التالية :
1-إن التجديد والتغيير في المجتمعات الإنسانية ،لا يحتاج فقط إلى توفر الشروط المعرفية والثقافية والسياسية ،وإنما من الضروري أن يضاف إلى هذه الشروط ، شرط الاستعداد النفسي والعملي لدفع ثمن ومتطلبات التجديد في الفضاء الاجتماعي . وبدون توفر هذا الشرط ،لن تتمكن المجتمعات من ولوج مضمار التجديد . لأن التجديد بحاجة إلى جهد إنساني متواصل ، واستعداد نفسي مستديم لإنتاج فعل التجديد والتغيير في الواقع الاجتماعي . والاستعداد النفسي الذي نقصده في هذا السياق ،ليس ادعاءا يدعى ،وإنما هو ممارسة سلوكية ،تحتضن وتستوعب كل شروط التجديد ،وتعمل على تمثل وتجسيد متطلباته في الذات والواقع العام .
فطريق التجديد في مجتمعاتنا ،ليس معبدا أو سهلا ،وأمامه العديد من الصعوبات والمآزق ، وبدون الاستعداد النفسي والعملي لدفع ثمن التجديد والتغيير ، لن تتمكن مجتمعاتنا من القبض على حقيقة التجديد والتغيير . فالمطلوب دائما وأبدا ومن أجل الاستيعاب الدائم لمكاسب العصر والحضارة الحديثة ،هو توفر الجهد الإنساني الموازي لطموحاتنا وتطلعاتنا.وبدون ذلك ستصبح دعوات التجديد في أي حقل من حقول الحياة وكأنها حرثا في البحر .فعليه فإن التجديد في المجتمعات الإنسانية ، يتطلب وجود مجددين ،يجسدون قيم ومبادئ التجديد ،ويعملوا من أجل بناء حقائق ووقائع في الحياة الاجتماعية منسجمة وقضايا التجديد ومتطلباته .
2-إن قانون التغيير والتجديد في المجتمعات الإنسانية ، لا يعتمد على قانون المفاجأة أو الصدفة ،وإنما على التراكم . فالتجديد يتطلب دائما ممارسة تراكمية ،بحيث تزداد وتتعمق عناصر التجديد في الواقع الاجتماعي . ولهذا ومن هذا المنطلق فنحن مع كل خطوة أو مبادرة صغيرة أو كبيرة ، تعمق خيار التجديد وتراكم من عناصره في الفضاء الاجتماعي. وفي المحصلة النهائية فإن التجديد هو ناتج نهائي لمجموع الخطوات والمبادرات والممارسات الايجابية في المجتمع .
ويشير إلى هذه الحقيقة المفكر العربي (جورج طرابيشي ) في كتابه (هرطقات عن الديمقراطية والعلمانية والحداثة والممانعة العربية ) بقوله : والواقع أن قانون الترابط بين حركة الإصلاح الديني والتقدم الثقافي دلل على فاعلية نموذجية في الدول الصغيرة الحجم في المقام الأول . وتلك هي حالة السويد التي كانت أول بلد في العالم يطور برنامجا شاملا لمحو الأمية . فانطلاقا من فكرة لوثر البسيطة القائلة إن جميع المسيحيين بلا استثناء كهنة ،وبما أن الكاهن هو بالتعريف في تصور بشر ما قبل الحداثة من يعرف القراءة ،بات واجبا على البشر ،كي يكونوا كهنة أي محض مسيحيين ،أن يتعلموا القراءة . وعلى العكس من الكنيسة الكاثوليكية التي عارضت وصول العامة إلى النصوص المقدسة ، شجعت الكنائس البروتستانتية أهالي المدن والأرياف على السواء على تعلم القراءة .ومنذ مطلع القرن السابع عشر أطلقت كنيسة السويد اللوثرية ،بمساندة من الدولة ،حملات واسعة النطاق لمحو الأمية . وفي أقل من قرن ،كان ثمانون في المئة من السكان ،في ذلك البلد القروي ،قد أضحوا من المتعلمين .وما إن أطل القرن الثامن عشر حتى كان تعميم التعليم في السويد قد أضحى ظاهرة جماهيرية ناجزة ،وهذا بدون وجود شبكة موازية من المدارس والأجهزة التربوية .
من خلال هذه التجربة نرى أهمية أن تترجم دعوات التجديد والتغيير إلى خطط وبرامج ومبادرات ،حتى يتسنى للمجتمع اكتشاف بركات ومنافع التجديد على المستويين الخاص والعام .
وجماع القول :أن التجديد في مجتمعاتنا ضرورة قصوى . ولكن هذا لا يعني أن طريق التجديد سالكا ومعبدا وبدون مشاكل ،بل على العكس من ذلك حيث أن طريق التجديد والتغيير مليء بالأشواك والصعاب .والشرط الضروري الذي يوفر لنا إمكانية تجاوز كل هذه العقبات وإبراز منافع التجديد والتغيير هو إنهاء حالة الرهاب والخوف من التجديد .
والشيخ الصفار من أبرز المصلحين المعاصرين ، الذي عمل عبر محاضراته وخطاباته ومؤلفاته ، ومواقفه الفكرية والسياسية ، على كسر حاجز الخوف عند المجتمع ، ودفعهم نحو المشاركة وتحمل المسؤولية ، بعيدا عن الجمود أو الرهاب من الجديد . وقد ألف كتابا في نهاية عقد الثمانينات الميلادية ، أطلق عليه عنوان ( كيف نقهر الخوف ) أراد أن يقول من خلال نص الكتاب ، أن المجتمع الذي ينشد التقدم والتغلب على مشاكله وأزماته السياسية والاقتصادية والحضارية ، فإنه لن يتمكن من ذلك ، إلا بقهر الخوف وتجاوز كل موجباته وتفكيك كل عوامله وأسبابه .
فالتقدم الحضاري للمجتمعات ، لا يمكن أن يتحقق إلا بإنهاء حالة الخوف بكل أشكالها ومستوياتها . لذلك نجد أن الشيخ الصفار يعبر في أحد نصوصه الموسوم بـ ( الآحادية الفكرية في الساحة الدينية ) ، بأن التجديد هو قضيته الجوهرية والدائمة . إذ يقول " التجديد في الفكر الإسلامي حالة حصلت في الساحة الإسلامية عند كل المذاهب . فالإسلام كإسلام لا يتغير ، لكن فهم المسلمين للإسلام في بعض الحقب والظروف قد يتخلف عن مسايرة التطور الفكري والاجتماعي ، وتتراكم عليه مجموعة من الأفكار والتصورات التي تعبر عن فهم متخلف من قبل بعض المسلمين ، ولكنهم ينسبونها إلى الإسلام ، لكن يحتاج الفكر الإسلامي ، بل والإنساني بشكل عام بين فترة وأخرى إلى نوع من الانتفاضة أو الهزة أو إلى إزالة ما تراكم عليه من غبار ، ودفعه لمسايرة التطور الذي يحدث في حياة المجتمع وحياة البشر ، وهذه الحالة توجد في مختلف المدارس الفكرية والدينية وعلى الصعيد الإسلامي ، وكل المذاهب الإسلامية أيضا في الحالة الإيجابية تعيش مثل هذه الحالة ( حالة التجديد) " .
ويضيف في نفس الكتاب " إنني أعد هذه القضية منطلق نشاطي وتحركي ، فقد نشأت في بيئة دينية محافظة ، ورأيت أقراني من الشباب معرضين عن الدين وعن الحالة الدينية ، وهناك من استقطبته الاتجاهات المادية الوافدة ، فانضموا إلى الأحزاب اليسارية من شيوعية وبعثية وقومية مختلفة كانت موجودة آنذاك ، وهناك من عاشوا حياة اللامبالاة ، فلا يهتمون بالجانب الديني ولا بالجانب الاجتماعي ، ويمارسون التدين ممارسة تقليدية عادية ، في حين تخلى البعض حتى عن هذه الممارسة وهم كثيرون .
وفي مثل هذه الأجواء بدأت أفكر أنه لا يمكن أن يكون الخلل في الدين ذاته ، كما لا يمكن أن تتهم هؤلاء الشباب بأن لديهم خبثا أو مرضا أو انحرافا طبيعيا ذاتيا ، فليست المشكلة في الدين ، ولا في الناس ولا في الشباب ، إنما المشكلة فيما يعرض من الدين ، وفي طريقة عرض الدين .
لذلك بدأت أتوجه إلى التجديد في طرح الدين ، والتجديد في فهم الناس للدين . وبدأت بنفسي أولا فحاولت أن أتعرف إلى حقيقة الدين ، وهل الدين هو نفسه السائد عند آبائنا وأمهاتنا وفي الأجواء التي نراها أمامنا ؟ أو أن هناك شيئا أعمق وأصدق وأقرب إلى حقيقة الدين ؟ " .
ولا يمكن أن يتم تجاوز حالة الرهاب من التجديد أو القبض على حقائق الإصلاح والتجديد إلا بالنقاط التالية :
1-تأصيل قيم الحرية والتعددية في المجتمعات العربية والإسلامية ، وذلك ليس من أجل تشريع الفوضى والانقسام في جسم الأمة ، وإنما من أجل تحقيق الوحدة والتعايش بين جميع المكونات والتعبيرات على قاعدة الحرية والاحترام والمتبادل والتعايش الحضاري .
ويقول الشيخ الصفار في هذا السياق في كتابه الموسوم بـ ( التنوع والتعايش – بحث في تأصيل الوحدة الاجتماعية والوطنية ) ، " إن أول خطوة تضعنا على طريق التنمية والتقدم ، هي امتلاك إرادة التعايش والقدرة على تحقيقه . فإذا ما اعترف بعضنا ببعض ، واحترم كل واحد منا الآخر ، وأقر بشراكته ودوره ، حينئذ يمكننا العمل معا لتجاوز حالة التخلف العميق والانطلاق نحو أفق الحضارة الواسع . إن المسافة بيننا وبين ركب الحضارة والتقدم بعيدة شاسعة ، ونحتاج إلى بذل أقصى الجهود ، وتفعيل كل الطاقات والقدرات ، حتى نقطع شوطا من ذلك الطريق الطويل . والتنمية تحد صارخ ، حتى للأقطار التي تنعم بالسلام والاستقرار ، كما أن هناك سباقا عالميا محموما بين الدول الصناعية والمتقدمة نفسها ، كما هو واضع اليوم بين أمريكا واليابان .
إننا لو تحركنا ومشينا بالسرعة نفسها التي يمشي بها الآخرون ، لما استطعنا اللحاق بهم ، لوجود مسافة كبيرة فاصلة ، فمن يقطع أمامك ألف كلم ويسير بسرعة 120 كلم في الساعة ، لن تدركه أبدا إذا مشيت أنت بالسرعة نفسها ، بل لا بد لك من مضاعفة السرعة ، لعلك تعوض ما فاتك من المسافة التي قطعها أمامك .
بيد أن واقع التنافر والاحتراب الداخلي يعوق أي محاولة للنهوض والإقلاع ، فشعوبنا كسائر المجتمعات البشرية ، تتنوع ضمنها الاتجاهات ، وتتعدد الانتماءات ، دينيا وقوميا وسياسيا ، لكن مشكلتنا أن كل اتجاه أو انتماء يعيش القلق من الآخرين في محيطه ، حيث تسود أجواءنا حالة من الشك والارتياب تجاه بعضنا البعض ، وهو ما يدفع كل طرف للحذر من الآخر ، والاستعداد لمواجهته ، والعمل على إضعافه ، فيحول بيننا وبين التعاون الجاد المخلص ، بل ويوجه طاقاتنا نحو الهدم بدل البناء .
إن أذهاننا وأفكارنا مشغولة بمعاركنا الداخلية ، وإن الجزء الأكبر من إمكانياتنا تستنزفه تلك المعارك " .
ويضيف " إن جروح الاحتراب الداخلي لا تزال تنزف من جسم أمتنا الإسلامية في أكثر من مكان ، وبدرجات متفاوتة . وذلك يؤكد ضرورة التوافق على مبدأ التعايش ، والقبول بالآخر ومشاركته ، بدلا من التفكير في إلغائه أو تجاهله أو تهميشه " . ومفهوم التعايش الذي يبلور الشيخ الصفار معالمه وحدوده ، لا يساوي التنازل عن الثوابت أو الميوعة في الالتزام بالمبادئ والقيم وإنما يعني " أن يعترف كل طرف للآخر بحقه في التمسك بقناعاته ومعتقداته ، وممارسة شعائره الدينية ، والعمل وفق اجتهاداته المذهبية ، ويتعامل الجميع كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات ، متعاونين لتحقيق المصلحة العامة ومواجهة الأخطار المشتركة " .
2-رفض كل أشكال الوصاية الفكرية وتأصيل حرية الرأي والاختيار . فالله سبحانه وتعالى لم يشرع لأحد أن ينزع حرية أحد ، أو يضطهده بسبب قناعاته وأفكاره . فالناس سواسية ولهم كامل الحق والأهلية للتعبير عن ذواتهم وأفكارهم .
ويوضح الشيخ الصفار رؤيته حول رفض الوصاية الفكرية بقوله :" لقد عانى الإنسان ولا زال يعاني من نوعين من محاولات الاستعباد والتسلط : استعباد لجسمه يقيد حركته ونشاطه ، وتسلط على فكره يصادر حرية رأيه ، وحقه في التعبير عنه .
وإذا كانت مظاهر الاستعباد المادي قد تقلصت ، فإن ممارسات الوصاية الفكرية لا تزال واسعة النطاق ، خاصة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية .
وتعني الوصاية الفكرية : أن جهة ما تعطي لنفسها الحق في تحديد ساحة التفكير أمام الناس ، وتسعى لإلزامهم بآرائها وأفكارها عن طريق الفرض والهيمنة .
ومن أبرز مظاهر الوصاية الفكرية ما يلي :
1- فرض الرأي على الآخرين بالقوة ، ومصادرة حريتهم في الاختيار .
2- النيل من الحقوق المادية والمعنوية للآخرين بسبب اختياراتهم الفكرية .
3- الاحتقار وسوء التعامل مع ذوي الرأي الآخر " .
ويضيف " إن اعتقاد الإنسان بصواب رأيه ، وإخلاصه لذلك الرأي ، ورغبته في اتباع الآخرين له ، كل ذلك أمر مشروع ، ولكن ليس عبر الفرض والوصاية ، وإنما عن طريق إقناع الآخرين بذلك الرأي ، ومن يرفض الاقتناع فهو حر في اختياره محقا كان أو مبطلا ، وليس من العقل والمنطق إجباره " .
و " إن الطريق المشروع والنهج الصحيح لنشر أي فكرة ومبدأ ، هو عرضها بأحسن بيان ، والدعوة إليها بالمنطق والبرهان ، والجدال عنها بأفضل أساليب التخاطب مع العقول والنفوس ، وذلك هو النهج الإلهي الذي قرره القرآن الكريم ، يقول تعالى : [ ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ] . كذلك فإن مواجهة الأفكار الباطلة ، والآراء الخاطئة ، يكون بنقدها ومناقشتها ، وتسليط الأضواء على مكامن انحرافها ، ونقاط ضعفها " .
3-تأصيل قيم الانفتاح والتواصل بين جميع المكونات والتعبيرات . ويقدم الشيخ الصفار مجموعة من المقترحات في هذا السياق . إذ يقول " إن ساحة الأمة ، وبخاصة في هذا العصر الذي تشتد فيه التحديات ، وتتسم أجواؤه بالانفتاح المعرفي ، بحاجة إلى مبادرات جريئة لكسر حالة الجمود والقطيعة على الصعيد العقدي معرفيا ، وتوفير فرص التواصل العلمي ، وعرض الآراء والأفكار بموضوعية وإنصاف ، ويمكن أن تكون المقترحات التالية سبيلا للتواصل :
1- إنشاء كلية لدراسة العقائد وعلم الكلام المقارن على نسق دراسة علم الفقه المقارن .
2-تشكيل مؤسسة علمية إسلامية ، تهتم بالدراسات والبحوث العقدية ، بمشاركة علماء ومفكرين يمثلون مختلف المدارس الكلامية في الأمة ، على غرار مجمع الفقه الإسلامي . ونتمنى تكرار التجربة الرائدة لمجمع الفقه الإسلامي التي سبقت الإشارة إليها : من تكليف ممثلي كل مذهب بتقديم رأي مذهبهم على صعيد القواعد الأصولية والفقهية ، نتمنى حصول مثل ذلك على الصعيد العقدي أيضا ، بأن يقدم العلماء من كل مذهب آراءهم العقدية والكلامية بأسلوب علمي موثق ، ليكون ذلك هو المصدر والمرجع المعتمد لدى الآخرين عنهم .
3-إصدار مجلة متخصصة ببحوث علم الكلام والدراسات العقدية ، تنفتح على مختلف التوجهات ، بنشر كتاباتها العلمية ، وإجراء الحوارات مع شخصياتهم المعرفية .
4-عقد مؤتمرات تخصصية تناقش قضايا العقيدة وعلم الكلام ، تشارك فيها مختلف المدارس ، ويبحث كل مؤتمر قضية محددة ، مثلا : مسألة العصمة ، أو القضاء والقدر ، أو أسماء الله وصفاته ، أو الإمامة . وكذلك بحث المسائل الجديدة في علم الكلام كالتعددية الدينية ، والعلاقة بين الدين والعلم ، والهرمنوتيك أو تفسير النصوص " .
4-تجذير قيم النقد والمحاسبة في المجتمعات العربية والإسلامية ، وينبغي أن لا نخاف من ممارسة النقد لذواتنا وتاريخها ، ولا بد من الابتعاد عن كل الحالات النرجسية التي ترفض مساءلة الذات أو مراقبة أدائها في أي حقل من حقول الحياة .
ويعبر الشيخ الصفار عن هذه الحقيقة بقوله " إننا بحاجة إلى شجاعة أدبية وجرأة موضوعية لتشخيص مواقع الخطأ ، كما نشيد بمواقع القوة ونفخر بها في تاريخنا المجيد . ولا يعني ذلك أن نستغرق في مشاكل التاريخ الماضي ، ولا أن ننشغل بالخلاف حول أحداثها ، ولا أن نمعن في جلد الذات ، ولكن تقديس الذات وتبرئتها وتمجيد كل ما سلف وسبق هو حالة سلبية خاطئة .
إننا نفصل بين واقع الاستبداد في تاريخ الأمة وطبيعة تعاليم الإسلام وإنسانية قيمه وتشريعاته ، كما ندرك أن أعلام الأمة الصالحين من الفقهاء والمفكرين كانوا مخالفين لمسيرة الظلم بل كانوا ضحايا لها في غالب الأحيان ، لذلك فإننا لا ندين كل تاريخ الأمة وإنما ندين ما يستحق الإدانة ، قصرت مساحته أو غلبت . والتقديس المطلق والتنزيه التبريري العاطفي هو نوع مرفوض من خداع الذات ".