ممارسات الوصاية الفكرية

نشرت « صحيفة الأيام البحرينية » يوم الأربعاء 1 جمادى الأولى 1426هـ الموافق 8 يونيو 2005م في عددها الصادر رقم 5933 مقالاً لسماحة الشيخ حسن الصفار بعنوان : « ممارسات الوصاية الفكرية » وفيما يلي نص المقال:

 

 

 

ممارسات الوصاية الفكرية

 

 


تمييزاً‮ ‬للإنسان عن بقية المخلوقات،‮ ‬وتفضيلاً‮ ‬له عليهم،‮ ‬وهب الله له عقلاً‮ ‬يمتلك به قدرة التفكير وصنع الرأي،‮ ‬ومنحه إرادة‮ ‬يتمكن بها من اتخاذ القرار وحرية الاختيار‮.‬
‮ ‬وبذلك أصبح أهلاً‮ ‬للتكليف والخطاب الإلهي،‮ ‬وكان مؤهلاً‮ ‬للثواب عند الطاعة،‮ ‬مستحقاً‮ ‬للعقاب على المعصية،‮ ‬وبعقله وإرادته‮ ‬يستطيع الإنسان القيام بمهمة عمارة الأرض وتسخير إمكانيات الحياة،‮ ‬واستثمار خيرات الكون‮.‬
‮ ‬هكذا شاءت حكمة الله تعالى أن‮ ‬يكون الإنسان مفكراً‮ ‬مريداً‮ ‬له حرية القرار والاختيار،‮ ‬لكن بعض الإرادات الشريرة في‮ ‬عالم الإنسان نفسه،‮ ‬ومن وسط أبناء جنسه،‮ ‬تحاول حرمانه من هذه الميزة العظيمة التي‮ ‬منحها الله تعالى إياه‮.‬

‮ ‬حيث‮ ‬يسعى بعض الأفراد والفئات لممارسة الهيمنة والتسلط على من حولهم من البشر،‮ ‬ويصادرون حريتهم في‮ ‬التفكير وحقهم في‮ ‬الاختيار‮.‬
‮ ‬لقد عانى الإنسان ولازال‮ ‬يعاني‮ ‬من نوعين من محاولات الاستعباد والتسلط‮. ‬استعباد لجسمه‮ ‬يقيّد حركته ونشاطه،‮ ‬وتسلط على فكره‮ ‬يصادر حرية رأيه،‮ ‬وحقه في‮ ‬التعبير عنه‮.‬
‮ ‬وإذا كانت مظاهر الاستعباد المادي‮ ‬قد تقلصت،‮ ‬فإن ممارسات الوصاية الفكرية لا تزال واسعة النطاق،‮ ‬خاصة في‮ ‬مجتمعاتنا العربية والإسلامية‮.‬
‮ ‬وتعني‮ ‬الوصاية الفكرية‮: ‬أن جهة ما تعطي‮ ‬لنفسها الحق في‮ ‬تحديد ساحة التفكير أمام الناس،‮ ‬وتسعى لإلزامهم بآرائها وأفكارها عن طريق الفرض والهيمنة‮.‬
ومن أبرز مظاهر الوصاية الفكرية ما‮ ‬يلي‮:‬
‮١. ‬فرض الرأي‮ ‬على الآخرين بالقوة،‮ ‬ومصادرة حريتهم في‮ ‬الاختيار‮.‬
‮٢. ‬النيل من الحقوق المادية والمعنوية للآخرين بسبب اختياراتهم الفكرية‮.‬
‮٣. ‬الاحتقار وسوء التعامل مع ذوي‮ ‬الرأي‮ ‬الآخر‮.‬
لماذا الوصاية الفكرية؟
إذا كان الله تعالى قد منح الإنسان عقلاً‮ ‬ليفكر به،‮ ‬وإرادة ليقرر ويختار،‮ ‬وليتحمل مسؤولية قراره واختياره،‮ ‬فلماذا‮ ‬يحاول البعض حرمان الآخرين من استخدام هذه المنحة الإلهية واستثمارها،‮ ‬فيمارسون الوصاية على عقول الآخرين وإراداتهم،‮ ‬فهم‮ ‬يفكرون نيابة عن الناس،‮ ‬وعلى الناس أن‮ ‬يقبلوا آراءهم‮. ‬ومن تجرأ على المخالفة،‮ ‬ومارس حرية التفكير وحق الاختيار لما اقتنع به من رأي،‮ ‬فله منهم الويل والأذى‮!! ‬حيث‮ ‬يستخدمون ضد المتمردين على هيمنتهم الفكرية،‮ ‬كل وسائل الضغط والتنكيل المادية والمعنوية‮.‬
‮ ‬إن الدافع الحقيقي‮ ‬لهؤلاء في‮ ‬ممارسة الوصاية الفكرية،‮ ‬هو في‮ ‬الغالب دافع مصلحي،‮ ‬بهدف تحقيق الهيمنة على الآخرين،‮ ‬واستتباعهم للذات‮.‬
‮ ‬لكنهم‮ ‬يتحدثون عن دافع آخر‮ ‬يبررون به ممارستهم للوصاية الفكرية،‮ ‬وهو دافع الإخلاص للحق الذي‮ ‬يعتقدونه في‮ ‬رأيهم،‮ ‬والرغبة في‮ ‬نشر الحق وهداية الآخرين إليه‮.‬
‮ ‬وإذا ما تأملنا هذا الادعاء،‮ ‬وناقشنا هذا التبرير على ضوء العقل والشرع،‮ ‬فسنجده إدعاءً‮ ‬زائفاً،‮ ‬وتبريراً‮ ‬خاطئا‮.‬
‮ ‬ذلك أن ادعاءهم أحقية رأيهم‮ ‬يقابله ادعاء مماثل من الآخرين،‮ ‬فكل صاحب دين أو مذهب أو رأي،‮ ‬يرى أحقية مسلكه،‮ ‬فهل‮ ‬يقبلون محاولة الآخرين لفرض رأيهم عليهم؟
‮ ‬إن اعتقاد الإنسان بصوابية رأيه،‮ ‬وإخلاصه لذلك الرأي،‮ ‬ورغبته في‮ ‬إتباع الآخرين له،‮ ‬كل ذلك أمر مشروع،‮ ‬ولكن ليس عبر الفرض والوصاية،‮ ‬وإنما عن طريق إقناع الآخرين بذلك الرأي،‮ ‬ومن‮ ‬يرفض الاقتناع فهو حر في‮ ‬اختياره محقاً‮ ‬كان أو مبطلاً،‮ ‬وليس من العقل والمنطق إجباره‮.‬
‮ ‬ولأن الساحة الدينية عادة ما تبتلى بوجود فئات وجهات تمارس الوصاية الفكرية،‮ ‬وتسعى لفرض آرائها،‮ ‬باعتبار ذلك وظيفة دينية،‮ ‬وتكليفاً‮ ‬شرعياً،‮ ‬كان لا بد من مناقشة هذه الممارسة على ضوء تعاليم الدين ومفاهيمه‮.‬
‮ ‬فهل‮ ‬يشرّع الدين لممارسة الوصاية الفكرية بمعنى فرض الرأي‮ ‬بالقوة،‮ ‬والنيل من حقوق المخالفين،‮ ‬وسوء التعامل معهم؟
‮ ‬إن القراءة الواعية لآيات القرآن الكريم،‮ ‬ونصوص السنة والسيرة النبوية الشريفة،‮ ‬وأقوال وسيرة أئمة أهل البيت‮ (‬ع)‬،‮ ‬تكشف عن منظومة من المفاهيم والتعاليم الدينية تؤكد على حرية الإنسان وحقه في‮ ‬الاختيار،‮ ‬وأنه‮ ‬يتحمل مسؤولية قراره واختياره أمام الله تعالى،‮ ‬وترفض الاستعباد والوصاية الفكرية على الناس‮.‬
الخالق لم‮ ‬يفرض الإيمان به
لتقرير حرية الإنسان وتأصيل وجودها،‮ ‬تؤكد كثير من آيات القرآن الكريم،‮ ‬أن الله تعالى لم‮ ‬يشأ أن‮ ‬يفرض الإيمان به على خلقه بالإجبار والقوة،‮ ‬بل أودعهم عقولاً‮ ‬تقودهم نحوه وفطرة ترشدهم إليه،‮ ‬وبعث لهم أنبياء‮ ‬يدعونهم إلى الإيمان به،‮ ‬ثم ترك للناس حرية الاختيار في‮ ‬هذه الحياة‮.‬
‮ ‬يقول تعالى‮: ﴿وَقُلِ‮ ‬الحق مِن ربكُمْ‮ ‬فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ‮.‬
‮ ‬ويقول تعالى‮: ﴿إِنا هَدَيْنَاهُ‮ ‬السبِيلَ‮ ‬إِما شَاكِرًا وَإِما كَفُورًا‮.‬
وتشير آيات أخرى في‮ ‬القرآن الكريم إلى أن الله تعالى جعل فرص الحياة متساوية بين المؤمنين والكافرين،‮ ‬يقول تعالى‮:﴿كُلا نمِد هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ‮ ‬عَطَاء رَبكَ‮ ‬وَمَا كَانَ‮ ‬عَطَاء رَبكَ‮ ‬مَحْظُورًا‮.‬
وإذا كان الله تعالى لم‮ ‬يفرض على عباده الإيمان به قسراً،‮ ‬لتكون الحياة دار اختيار واختبار،‮ ‬كما شاءت حكمته،‮ ‬فكيف‮ ‬يحق لأحد أن‮ ‬يمارس فرض الإيمان على الناس باسم الله ونيابة عنه؟
إنه تعالى لا‮ ‬يريد الإيمان به عن طريق القوة والقسر،‮ ‬لأنه حينئذٍ‮ ‬لن‮ ‬يكون إيماناً‮ ‬حقيقياً،‮ ‬ولو أراد الله تعالى إخضاع الإنسان للإيمان قسراً‮ ‬لكان ذلك ميسوراً‮ ‬عليه‮. ‬يقول تعالى‮: ﴿وَلَوْ‮ ‬شَاء رَبكَ‮ ‬لآمَنَ‮ ‬مَن فِي‮ ‬الأَرْضِ‮ ‬كُلهُمْ‮ ‬جَمِيعًا أَفَأَنتَ‮ ‬تُكْرِهُ‮ ‬الناسَ‮ ‬حَتى‮ ‬يَكُونُواْ‮ ‬مُؤْمِنِينَ.‬
وبضرس قاطع ورفض صريح‮ ‬يقول تعالى‮: ﴿لاَ‮ ‬إِكْرَاهَ‮ ‬فِي‮ ‬الدينِ،‮ ‬وقد ورد في‮ ‬سبب نزول هذه الآية أنها نزلت في‮ ‬رجل من الأنصار من بني‮ ‬سالم بن عوف‮ ‬يقال له‮: ‬الحصين،‮ ‬كان له ابنان نصرانيان،‮ ‬وكان هو رجلاً‮ ‬مسلماً‮ ‬فقال للنبي‮ (‬ص‮): ‬ألا أستكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية؟ فأنزل الله فيه ذلك‮.‬

 

 

 

الأربعاء 1 جمادى الأولى 1426هـ الموافق 8 يونيو 2005م في عددها الصادر رقم 5933