ولاية عليّ عقيدة وسلوك
تمثل واقعة غدير خم مفصلًا مهمًّا في التاريخ الإسلامي، لجهة تحديد المرجعية الدينية بعد رسول الله. وقد ورد حديث الغدير من عدة طرق، وعن عشرات من الصحابة والتابعين. ومن ذلك ما أورده الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، عن أبي الطفيل عن زيد بن أرقم قال لما رجع النبي من حجة الوداع ونزل غدير خم، أمر بدوحات فقممن، ثم قال: «كأني دعيت فأجبت، وإني تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر كتاب الله وعترتي أهل بيتي فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، ثم قال: إنّ الله مولاي وأنا وليّ كلّ مؤمن، ثم أخذ بيد عليّ بن أبي طالب فقال: من كنت مولاه فهذا وليّه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه»[1].
وحديث الغدير بحدّ ذاته لا يحتاج إلى مزيد مناقشة من حيث صحة السند، حيث اعتبره العلماء المسلمون من شتى المذاهب ـ إلّا من شذّ منهم ـ من الأحاديث الصحيحة سندًا، بل هو من أصحّ الأحاديث. لذلك نريد في هذا المقام أن نتناول بعض أبعاد حديث الغدير، من زوايا أخرى.
المرجعية الدينية للأمة
إنّ هناك ثلاثة أبعاد يمكن تناولها حول واقعة الغدير.
يتمحور البعد الأول، في اعتبار الغرض الأساس من واقعة الغدير هو تشخيص المرجعية للأمة في أخذ معالم الدين. إذ من الصحيح أنّ بين يدي الأمة كتاب الله، لكنه يحتاج في بعض آياته، إلى تفسير دقيق، وتنزيل على المصاديق الخارجية، ناهيك عن الأحداث المستجدة التي يحتاج أن يتعرف المسلمون رأي الشّرع فيها. فمن هي الجهة التي تقوم مقام النبي، بعد أن كانت الأمة ترجع إليه إبان حياته، لفهم معالم دينها؟. من هنا نجد العديد من الأحاديث تتناول حديثه بشأن المرحلة التي تعقب وفاته، ومن ذلك قوله في حديث الغدير: «كأني دعيت فأجبت»، وتلك إشارة صريحة منه إلى مرحلة الفراغ الذي يلي وفاته، وإلى من يملأ هذا الفراغ، ويحدّد ذلك بأمرين؛ الكتاب والعترة، في قوله: «وإني تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر كتاب الله وعترتي أهل بيتي»، حيث يمثل القرآن الكريم الخريطة والمنهج النظري للشريعة والدين، فيما يمثل أهل البيت الجهة المعنية بتنزيل هذا المنهج وتطبيقه على الواقع.
إنّ حديث الغدير يتناول المسألة العلمية والسلوكية لدى أهل بيت النبي. إذ يمثل أهل البيت المرجعية للأمة في فهم الشريعة، بما يتجاوز جميع أهل زمانهم. هنا قد تأتي مسألة دور الصحابة الذين عاصروا النبي، ونقلوا حديثه، سيّما وقد منحتهم صحبتهم مستوى من القدرة على فهم آيات القرآن الكريم، ومعرفة كثير من الأحكام التي تحتاجها الأمة، لكنهم مع ذلك يبقون بشرًا، تختلف أنظارهم، وتتفاوت آراؤهم، وتتعارض اجتهاداتهم، تمامًا كما يجري ذلك على صعيد العلماء والفقهاء، غير أنّ هذا لا يعني ألّا نستفيد من الصحابة ومما رووه وما نقلوه من الأحاديث. لكن المناط فيما إذا ما حدث اختلاف في رأي، أو فهم لقضية، بين أصحاب رسول الله فهل هناك جهة يكون لها القول الفصل في تحديد رأي الدين؟ انطلاقًا من حجية حديث الغدير، وحديث الثقلين، والكثير من الأحاديث الأخرى، نعتقد أنّ أهل البيت يتبؤون هذا المقام، فهم المرجعية الأساس للأمة، ولهم الكلمة الفصل في أحكام الدين.
من ناحية أخرى، يثبت الواقع التاريخي أنّ أهل البيت وفي طليعتهم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب كانوا هم الأعمق معرفة بمعالم الدين، وبالشريعة بمختلف جوانبها وأبعادها. وفي هذا السياق يورد الباحث الإسلامي الدكتور ظافر القاسمي، أستاذ العربية والعلوم الإسلامية في الجامعة اللبنانية ما نصّه: «أمّا عليّ بن أبي طالب فكان أقضى الصحابة، ـ أي أوضحهم وأثبتهم وأصحهم قضاءً، ـ والظاهر أنه كان يُستشار، ولا يستشير، ومن يدري؟ فإنّ ورع الإمام ربما دعاه لأن يسأل وأن يستشير، ولكن لم تروِ لنا الكتب حادثة استشار فيها عليّ أحدًا من الصحابة»[2] ، فقد كان الصحابة يحتاجون إلى علمه ويرجعون إليه، أما هو فلم يسجل التاريخ أنه رجع ولو مرة واحدة إلى أحد من الصحابة في مسألة من المسائل، مما يدلّ على اكتفائه وسعة علمه قياسًا على سائر الصحابة.
وقد أورد النسائي في خصائصه، عن عليّ أنه قال: «بعثني رسول الله إلى اليمن وأنا شابّ، حديث السنّ، فقلت: يا رسول الله، تبعثني إلى قوم يكون بينهم أحداث، وأنا شابّ حديث السنّ، فقال: إنّ الله سيهدي قلبك ويثبت لسانك، قال عليّ: ما شككت بعدها في قضاء بين اثنين»[3] .
وجاء في كتاب المناقب لابن المغازلي عن أمّ سلمة أنها قالت: «كان جبرئيل يملي على رسول الله ورسول الله يملي على علي»[4] .
وعن عليّ أنه قال: «كنت أدخل على رسول الله صلى الله عليه وآله كلّ يوم دخلة وكلّ ليلة دخلة، ... فما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله آية من القرآن إلّا أقرأنيها وأملاها علّي، فكتبتها بخطي وعلّمني تأويلها وتفسيرها وناسخها ومنسوخها، ومحكمها ومتشابهها، وخاصّها وعامّها، ودعا الله أن يعطيني فهمها، وحفظها، فما نسيت آية من كتاب الله ولا علمًا أملاه عليّ وكتبته، منذ دعا الله لي بما دعا، وما ترك شيئًا علّمه الله من حلال ولا حرام، ولا أمر ولا نهي كان أو يكون، ولا كتاب منزل على أحدٍ قبله من طاعة أو معصية، إلّا علّمنيه وحفظته، فلم أنسَ حرفًا واحدًا، ثم وضع يده على صدري ودعا الله لي أن يملأ قلبي علمًا وفهمًا وحكمًا ونورًا، فقلت: يا نبي الله، بأبي أنت وأمي، منذ دعوت الله لي بما دعوت لم أنسَ شيئًا، ولم يفتني شيء لم أكتبه، أفتتخوف عليَّ النسيان فيما بعد؟ فقال: لا، لست أتخوف عليك النسيان والجهل»[5] . من هنا، نحن بإزاء شخصية عظيمة تمتلك المعرفة الشاملة والعمق الكبير في فهم الدين، لذلك نصّ عليها النبي باعتبارها المرجعية للأمة من بعده.
القيادة السّياسية
أما البعد الثاني من حديث الغدير فهو بعد القيادة السّياسية، أي الإمامة والخلافة. حيث نعتقد أنّ حديث الغدير، ونصوصًا أخرى، تحمل في طيّاتها دلالة على أنّ رسول الله قد نصّ على الولي على أمور الأمة من بعده، وأنّ عليّ بن أبي طالب هو الإمام وهو الخليفة بنصّ رسول الله، هذا ما نراه ونعتقده. غير أنّ سائر المسلمين لهم رأي آخر، فهم يرون أنّ واقعة الغدير لا تعدو عن كونها تبيانًا لفضل عليّ، وتوجيهًا للأمة إلى محبته، أما مسألة الإمامة والخلافة السياسية، فلا يرون أنّ هذا النص يثبتها، وبقي هذا الأمر مورد نقاش طويل.
وقد اعتبر علماء الشيعة مسألة الولاية، بمعنى الخلافة والقيادة السياسية، مسألة نظرية هي محلّ بحث ونقاش، وذلك على قاعدة تقسيمهم للمسائل الدينية إلى قسمين؛ فهناك الضروريات وهناك المسائل النظرية. وتشمل الضروريات المسائل الواضحة التي لا مجال فيها للنقاش والجدل عند الأمة، من قبيل مسألة وجود الله سبحانه وتعالى، ووحدانيته وحتمية المعاد، ووجوب الصلاة والصيام، فكلّها مسائل ضرورية من حيث الوجوب ولا مجال للأخذ والردّ فيها. في المقابل هناك مسائل نظرية في الدين لا تتسم بهذه الدرجة من الوضوح، إلى الحدّ الذي يعصمها من النقاش والجدل. وتبعًا لذلك يعتبر علماء الشيعة مسألة القيادة السّياسية لعليّ ضمن المسائل النظرية، فمن لم يثبت عنده هذا الفهم السّائد عند الشيعة لمسألة الإمامة فلا يخرجه ذلك من الدين؛ لأنه لم ينكر ضروريًّا من ضرورات الدين. وذلك بخلاف ما إذا ثبتت لديه مسألة الإمامة ثم أنكرها على نحو يعدّ مكذّبًا لرسول الله، فهناك بحث آخر.
قال السّيد الخوئي في كتاب التنقيح: «لأنّ الضروري من الولاية إنّما هي الولاية بمعنى الحبّ والولاء، وهم غير منكرين لها بهذا المعنى، بل قد يظهرون حبّهم لأهل البيت، وأمّا الولاية بمعنى الخلافة، فهي ليست بضرورية بوجه، وإنما هي مسألة نظرية، وقد فسّروها بمعنى الحبّ والولاء، ولو تقليداً لآبائهم وعلمائهم، وإنكارهم للولاية بمعنى الخلافة مستند إلى الشبهة كما عرفت، وقد أسلفنا أنّ إنكار الضروري إنما يستتبع الكفر والنجاسة فيما إذا كان مستلزمًا لتكذيب النبي كما إذا كان عالماً بأنّ ما ينكره مما ثبت من الدين بالضرورة، وهذا لم يتحقّق في حقّ أهل الخلاف، لعدم ثبوت الخلافة عندهم بالضرورة لأهل البيت، نعم، الولاية بمعنى الخلافة من ضروريات المذهب لا من ضروريات الدين»[6] .
الاتباع والاقتداء
ويتمثل البعد الثالث من حديث الغدير، في الإشارة إلى النموذج والقدوة المتجسّدة في عليّ. حيث يمثل القدوة التي يجب التأسّي والاقتداء بها، وهذا هو المعنى الذي ينبغي التمسك به في مناسبة ذكرى الغدير.
إنّ قضية الغدير ليست مجرّد مسألة اعتقادية، إذْ من المفروغ منه اعتقادنا بالنصّ على ولاية أمير المؤمنين، غير أنّ المسألة تكمن في مدى انعكاس هذه العقيدة في حياتنا، ذلك الانعكاس المتمثل في طاعة عليّ والاقتداء بسيرته وسيرة أهل بيته، وهذا كلّه ما يجب التركيز عليه.
من هنا نفهم سلسلة الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت التي تؤكّد هذا المعنى للتشيّع، فقد ورد عن الإمام الباقر أنه قال: «ما شيعتنا إلّا من اتّقى الله وأطاعه»[7] ، وجاء عن الإمام الصادق أنه قال: «لا تذهبن بكم المذاهب، فوالله لا تنال ولايتنا إلّا بالورع والاجتهاد في الدنيا، ومواساة الإخوان في الله، وليس من شيعتنا من يظلم الناس»[8] ، وعنه أنه قال: «ليس من شيعتنا من قال بلسانه وخالفنا في أعمالنا وآثارنا»[9] ، وقال: «إنّما أنا إمام من أطاعني»[10] ، وروي عن أمير المؤمنين أنه قال: «شيعتنا ... بركة على من جاوروا، سلم لمن خالطوا»[11] . وبذلك تتجلى الولاية لعليّ في سلوكنا وأفعالنا.