فرض الرأي‮ ‬على الآخرين‮ ‬غير مشروع

نشرت صحيفة الأيام البحرينية يوم الجمعة 10 جمادى الأولى 1426هت الموافق 17 يونيو 2005م في عددها الصادر رقم 5943 مقالاً لسماحة الشيخ حسن الصفار بعنوان : «فرض الرأي‮ ‬على الآخرين‮ ‬غير مشروع» وفيما يلي نص المقال:

 

 

«فرض الرأي‮ ‬على الآخرين‮ ‬غير مشروع»

 


لو كان الاعتقاد بحقانية الرأي،‮ ‬والإخلاص للفكرة،‮ ‬مبرراً‮ ‬مقبولاً‮ ‬للفرض على الآخرين،‮ ‬وممارسة الوصاية الفكرية،‮ ‬لما حظر الله تعالى ذلك على رسله وأنبيائه‭. ‬فهم‮ ‬يحملون رسالة الله للناس،‮ ‬وهي‮ ‬حق لا ريب فيه،‮ ‬ولا‮ ‬يمكن أن‮ ‬يزايد عليهم أحد في‮ ‬الإخلاص للحق والاجتهاد في‮ ‬نصرته،‮ ‬ولكن الله تعالى لم‮ ‬يأذن لهم بفرض دعوتهم على الناس قسراً،‮ ‬ولم‮ ‬يسمح لأحد من أنبيائه ورسله أن‮ ‬يمارس الوصاية والهيمنة على اتجاهات الناس واختياراتهم‭.‬
حيث‮ ‬ينص القرآن الكريم على أن وظيفة رسل الله تنحصر في‮ ‬حدود إبلاغ‮ ‬الرسالة،‮ ‬لا فرضها بالقوة،‮ ‬يقول تعالى‮:﴿فَهَلْ‮ ‬عَلَى الرسُلِ‮ ‬إِلا الْبَلاغُ‮ ‬الْمُبِينُ‮.‬
وحين‮ ‬يرفض الناس دعوة الحق،‮ ‬فإن الرسول‮ ‬يتركهم وشأنهم،‮ ‬وليس مكلفاً‮ ‬بإجبارهم أو الضغط عليهم،‮ ‬يقول تعالى‮:﴿وَقُل للذِينَ‮ ‬أُوْتُواْ‮ ‬الْكِتَابَ‮ ‬وَالأُميينَ‮ ‬أَأَسْلَمْتُمْ‮ ‬فَإِنْ‮ ‬أَسْلَمُواْ‮ ‬فَقَدِ‮ ‬اهْتَدَواْ‮ ‬وإِن تَوَلوْاْ‮ ‬فَإِنمَا عَلَيْكَ‮ ‬الْبَلاَغُ‮ ‬وَاللّهُ‮ ‬بَصِيرٌ‮ ‬بِالْعِبَادِ‮.‬
وقد تكررت هذه العبارة في‮ ‬آيات القرآن الكريم ثلاث عشرة مرة،‮ ‬كقوله تعالى‮:﴿ فَإِن تَوَليْتُمْ‮ ‬فَاعْلَمُواْ‮ ‬أَنمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ‮ ‬الْمُبِينُ‮،‮ ‬وقوله تعالى‮:﴿وَمَا عَلَى الرسُولِ‮ ‬إِلا الْبَلاغُ‮ ‬الْمُبِينُ‮.‬
وتنص آيات أخرى في‮ ‬القرآن الكريم على أنه لا‮ ‬يحق للنبي‮ ‬أن‮ ‬يمارس أي‮ ‬وصاية أو هيمنة على أفكار الناس وآرائهم،‮ ‬يقول تعالى‮:﴿فَذَكرْ‮ ‬إِنمَا أَنتَ‮ ‬مُذَكرٌ‮ ‬لسْتَ‮ ‬عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ‮.‬
والخطاب لرسول الله محمد‮ ‬أفضل الأنبياء والرسل،‮ ‬والذي‮ ‬بعثه الله تعالى بأكمل الأديان وخاتمها،‮ ‬بأن وظيفته الإلهية هي‮ ‬الدعوة والتذكير،‮ ‬وليس له حق السيطرة والهيمنة على من لا‮ ‬يقبل دعوته‮.‬
وفي‮ ‬مورد آخر‮ ‬يخاطب الله تعالى نبيه محمداً‮ ‬والذي‮ ‬كان‮ ‬يؤلمه رفض المشركين لدعوته واتهاماتهم الباطلة له،‮ ‬يقول تعالى‮:‬﴿نَحْنُ‮ ‬أَعْلَمُ‮ ‬بِمَا‮ ‬يَقُولُونَ‮ ‬وَمَا أَنتَ‮ ‬عَلَيْهِم بِجَبارٍ‮ ‬فَذَكرْ‮ ‬بِالْقُرْآنِ‮ ‬مَن‮ ‬يَخَافُ‮ ‬وَعِيدِ‮.‬
فالنبي‮ ‬ليس جباراً‮ ‬يمارس الهيمنة والفرض على الناس‮.‬
وهو ليس مكلفاً‮ ‬بالوصاية والرقابة عليهم‮ ‬يقول تعالى‮:﴿‬وَمَن تَوَلى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ‮ ‬عَلَيْهِمْ‮ ‬حَفِيظًا.‬
وإذا كان الأنبياء المرسلون من قبل الله تعالى،‮ ‬وهم‮ ‬يحملون الحق الذي‮ ‬لا ريب فيه،‮ ‬لا‮ ‬يجوز لهم ممارسة الفرض والوصاية على أفكار الناس،‮ ‬ترى هل‮ ‬يحق لأي‮ ‬جهة أخرى اقتراف هذه الممارسة باسم الربّ‮ ‬وباسم الدين؟
من‮ ‬يحاسب الناس؟
ليس هناك جهة مخولة بمحاسبة الناس على أديانهم ومعتقداتهم في‮ ‬الدنيا،‮ ‬فحساب الخلق على الله تعالى‮ ‬يوم القيام‮.‬
ففي‮ ‬الآيات الأخيرة من سورة الغاشية،‮ ‬وبعد حصر مهمة الرسول في‮ ‬التذكير،‮ ‬وأنه لا‮ ‬يحق له الهيمنة والسيطرة على الناس‮﴿فَذَكرْ‮ ‬إِنمَا أَنتَ‮ ‬مُذَكرٌ‮ ‬لسْتَ‮ ‬عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ‮‬،‮ ‬يقول تعالى‮:﴿إِلا مَن تَوَلى وَكَفَرَ‮ ‬فَيُعَذبُهُ‮ ‬اللهُ‮ ‬الْعَذَابَ‮ ‬الأَكْبَرَ‮ ‬إِن إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ‮ ‬ثُم إِن عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ‮.‬
ورغم أن بعض المفسرين اعتبر الاستثناء‮ ﴿‬إِلا مَن تَوَلى وَكَفَرَ‮ ‬ متصلاً‮ ‬بما قبله،‮ ‬فيكون المعنى‮ ‬لسْتَ‮ ‬عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ‮ ‬إِلا مَن تَوَلى وَكَفَرَ‮ ‬أن لك السيطرة على من تولى وكفر بمجاهدته ومقاتلته،‮ ‬لكن الرأي‮ ‬الذي‮ ‬يتبناه مفسرون آخرون هو أن الاستثناء منفصل،‮ ‬لا ربط له بما قبله بل بما بعده‭. ‬وهذا الرأي‮ ‬هو ما‮ ‬يتناسب مع سياق هذه الآيات،‮ ‬ومفاد الآيات الأخرى‭.‬
وكما تقرر في‮ ‬أبحاث المحققين والباحثين في‮ ‬السيرة النبوية الشريفة،‮ ‬فإن حروب رسول الله‮ ‬كانت دفاعية،‮ ‬ولم تكن لفرض الإسلام على الآخرين بقوة السيف،‮ ‬ولذلك كان‮ ‬يقبل منهم الجزية والبقاء على أديانهم في‮ ‬ظل الحكم الإسلامي‮. ‬وتؤكد آيات أخرى في‮ ‬القرآن الكريم على أن الله تعالى وحده هو الذي‮ ‬يتولى حساب العباد على أديانهم ومعتقداتهم،‮ ‬وليس الأنبياء ولا أي‮ ‬أحد آخر منها قوله تعالى‮:﴿‬فَإِنمَا عَلَيْكَ‮ ‬الْبَلاَغُ‮ ‬وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ‮،‮ ‬وقوله تعالى‮: ﴿وَمَن‮ ‬يَدْعُ‮ ‬مَعَ‮ ‬اللهِ‮ ‬إِلَهًا آخَرَ‮ ‬لا بُرْهَانَ‮ ‬لَهُ‮ ‬بِهِ‮ ‬فَإِنمَا حِسَابُهُ‮ ‬عِندَ‮ ‬رَبهِ‮.‬
وفي‮ ‬سياق آخر،‮ ‬حين تتحدث آيات من القرآن الكريم عن تعدد الديانات واختلاف المعتقدات بين بني‮ ‬البشر،‮ ‬فإنها تحيل مهمة الحسم والفصل النهائي‮ ‬بين أتباع الديانات إلى خالق البشر‮ ‬يوم القيامة،‮ ‬وكأن مفهوم هذه الآيات‭: ‬أن الحياة الدنيا هي‮ ‬دار تعايش وتعامل بين بني‮ ‬البشر على اختلاف أديانهم وآرائهم،‮ ‬وليس من حق أحد منهم أن‮ ‬ينهي‮ ‬ويلغي‮ ‬وجود الآخر،‮ ‬فذلك من اختصاص الخالق وحده‮.‬
يقول تعالى‮:﴿إِن الذِينَ‮ ‬آمَنُوا وَالذِينَ‮ ‬هَادُوا وَالصابِئِينَ‮ ‬وَالنصَارَى وَالْمَجُوسَ‮ ‬وَالذِينَ‮ ‬أَشْرَكُوا إِن اللهَ‮ ‬يَفْصِلُ‮ ‬بَيْنَهُمْ‮ ‬يَوْمَ‮ ‬الْقِيَامَةِ‮ ‬إِن اللهَ‮ ‬عَلَى كُل شَيْءٍ‮ ‬شَهِيدٌ‮.‬
فهل هناك رؤية أجلى من هذه الرؤية؟ وهل هناك موقف تجاه حرية الاختيار العقدي‮ ‬في‮ ‬الدنيا أوضح من هذا الموقف؟
وجاء التأكيد على هذه الحقيقة في‮ ‬موارد أخرى كقوله تعالى‮:﴿‬إِن رَبكَ‮ ‬هُوَ‮ ‬يَفْصِلُ‮ ‬بَيْنَهُمْ‮ ‬يَوْمَ‮ ‬الْقِيَامَةِ‮ ‬فِيمَا كَانُوا فِيهِ‮ ‬يَخْتَلِفُونَ. ‬وضمير هو في‮ ‬قوله‮ ﴿هُوَ‮ ‬يَفْصِلُ‮ ‬ضمير فصل،‮ ‬لقصر الفصل عليه تعالى دون‮ ‬غيره‮.‬
وتعالج آيات أخرى في‮ ‬القرآن الكريم موضوع النزاعات الدينية بدعوة الناس إلى تجاوزها وتجميدها،‮ ‬حتى لا تكون سبباً‮ ‬للاحتراب والنزاع،‮ ‬وأن الله تعالى سيقضي‮ ‬في‮ ‬هذه الاختلافات‮ ‬يوم القيامة،‮ ‬وسيعلم الجميع حكمه وقضاءه في‮ ‬خلافاتهم الدينية‭.‬
يقول تعالى‮:﴿لِكُل جَعَلْنَا مِنكُمْ‮ ‬شِرْعَةً‮ ‬وَمِنْهَاجًا وَلَوْ‮ ‬شَاء اللّهُ‮ ‬لَجَعَلَكُمْ‮ ‬أُمةً‮ ‬وَاحِدَةً‮ ‬وَلَكِن ليَبْلُوَكُمْ‮ ‬فِي‮ ‬مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ‮ ‬إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ‮ ‬جَمِيعًا فَيُنَبئُكُم بِمَا كُنتُمْ‮ ‬فِيهِ‮ ‬تَخْتَلِفُونَ‮.‬
جاء في‮ ‬تفسير الميزان للسيد الطباطبائي‮: ‬فاستبقوا الخيرات وهي‮ ‬الأحكام والتكاليف،‮ ‬ولا تنشغلوا بأمر هذه الاختلافات التي‮ ‬بينكم وبين‮ ‬غيركم فإن مرجعكم جميعا إلى ربكم تعالى فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون،‮ ‬ويحكم بينكم حكماً‮ ‬فصلاً،‮ ‬ويقضي‮ ‬قضاءً‮ ‬عدلا‮. ‬وقد ورد ذات التعبير في‮ ‬الآية ‮٤٦١ ‬من سورة الأنعام‮:﴿‬ثُم إِلَى رَبكُم مرْجِعُكُمْ‮ ‬فَيُنَبئُكُم بِمَا كُنتُمْ‮ ‬فِيهِ‮ ‬تَخْتَلِفُونَ‮.‬

 

 

الجمعة 10 جمادى الأولى 1426هت الموافق 17 يونيو 2005م في عددها الصادر رقم 5943