السيد حسن العوامي.. وصناعة الأنداد

الشيخ حسن الصفار *

 

اشعر بسعادة بالغة وأنا أرى هذا الحشد الكبير من العلماء والأكاديميين والأدباء والمثقفين والوجهاء ورجال الأعمال وسائر أبناء المجتمع من مختلف الشرائح رجالاً ونساءً شيوخا وشبابا، وقد اجتمعوا لتكريم شخصية اجتماعية وطنية لا تزال بين ظهرانينا، وهو الأستاذ الكبير السيد حسن العوامي أمدّ الله في عمره ومتعه بالصحة والعافية. حيث تعودنا أن نحتفي بالشخصيات بعد غيابها.

ولأن المحتفى به شخصية متعددة الأبعاد، فلن يتمكن أي متحدث أن يتناول تجربته في مختلف أبعادها، وخاصة مع محدودية الوقت.

لكن المأمول أن يتجلى أكبر قدْر ممكن من جوانب شخصية المحتفى به عبر تنوع الأبعاد التي يتناولها المتحدثون في هذا الحفل البهيج.

وسأركز في حديثي على نقطتين أرجو أن يكون فيهما ما يفيد المجتمع في حركته ومسيرته وليس مجرد الإشادة والتبجيل بالمحتفى به.

الأولى: بين صناعة الندّية وإحكام السقوف

نجد في المجتمعات لونين من مسلكيات الشخصيات المتميزة، سواء كان تميزها في المجال العلمي او الأدبي أو الاقتصادي أو الاجتماعي. مسلكية تشجع المنافسة، وتحفيز الندّية، وهي تعنـي بذل التجربة، ونقل الخبرة، وتذليل العقبات أمام الطامحين، ومؤازرتهم للسير في طريق التميّز، حتى لا يكون التميز حكرا على فرد أو أفراد، بل يكون فضاءً مفتوحا أمام أبناء المجتمع.

وضمن هذه المسلكية يكون المتميز سعيدا ومرتاحاً لظهور أنداد ومنافسين، وربما يدفعه ذلك للمزيد من التطوير لقدراته، ليبقى في موقع الريادة والتميز في وسط متميزين، وهذا هو الفخر أن تكون متقدما على متقدمين، وليس على خاملين وساكنين.

على قاعدة المثل الشعبي: اعور على العميان باشا.

أما المسلكية الثانية فهي سعي المتميز أن يكون سقفا محكما لا يخترقه أحد، فلا يقبل بوجود أنداد، ولا يعترف بمنافسين، بل يزعجه ويغضبه وجود من يطمح لمشاكلته في دوره وكفاءته، ويسعى لمنع مثل هذا الاختراق، بعرقلة طريق الطامحين، وتثبيط عزائمهم، وترصد اخطائهم وثغراتهم.

على القاعدة المتداولة في المجتمعات المتخلفة: عدو المرء من يعمل عمله.

وهنا الرسالة والدرس في شخصية المحتفى به فهو من رواد المسلك الأول، حيث كان يشجع على طلب العلم الديني والأكاديمي، ويحفز على تحصيل المعرفة والإنتاج الثقافي، ويدعم النشاط الاجتماعي، وفي مجال الوجاهة والظهور الاجتماعي، يبحث عن الطامحين في كل مدينة وقرية في المنطقة ليشجعهم على التصدي والبروز، حتى لا تكون الوجاهة حكرا على منطقة أو عائلة أو فئة بعينها.

وأتحدث هنا عن تجربة شخصية لمستها في علاقتي مع السيد حسن العوامي، كما لاحظتها في تعامله مع آخرين.

فحين بدأت الخطابة سنة 1969م، كان يلحّ علي أن أذهب لطلب العلم، وحين ذهبت الى النجف الأشرف، سنة 1971م حيث كان يقيم هناك آنذاك أبدى استعداده لدعمي ومساعدتي فيما أحتاج، وشجعنـي على دراسة الفكر الدينـي الحديث من خلال كتابي فلسفتنا واقتصادنا للشهيد الصدر (1935 – 1980م)، وعدم الاكتفاء بالدراسة الحوزوية التقليدية، كما كان يشجعنـي على الانفتاح على جميع العلماء في الحوزة العلمية، وعدم التأثر بالصراعات البينية ومقاطعة هذا المرجع أو ذاك.

وحين طبعت أول كتاب لي بعنوان: (ولكل أمة رسول)[1]  سنة 1974م واطلع عليه، بعث لي رسالة، وكنت وقتها في سلطنة عمان، فيها الكثير من الإشادة والاعجاب بالكتاب، والحث على الاستمرار في الكتابة والتأليف، وقدم فيها بعض الملاحظات اللغوية والأدبية.

وأتذكر مما كتبه في تلك الرسالة عتبه على طلبة العلوم الدينية في القطيف آنذاك، لماذا لم يكتب أحد منهم أو يطبع كتابًا، ولماذا وقف قطار التأليف والنشر في محطة الجيل السابق كالشيخ فرج العمران والشيخ منصور البيات والشيخ علي المرهون؟

وهكذا حينما خضت غمار العمل الوطنـي، كان دائم التواصل معي للتشجيع وابداء الملاحظات والنصح. حتى يوم كنت في الخارج مع ما كان يكتنف التواصل من صعوبات.

وطالما جمعتنا جلسات تشاور، ولقاءات مع كبار المسؤولين وعدد من الشخصيات الدينية والوطنية، ولا زلت أذكر تفاصيل جميلة عن مشاركته معي في أحد اللقاءات مع مفتي المملكة الراحل الشيخ عبدالعزيز بن باز، وكذلك في لقاء آخر مع الرئيس الأسبق لمجلس القضاء الأعلى الشيخ صالح اللحيدان حيث كان طرحه في منتهى الإيجابية والتفاعل.

ولا يمكنني الاسترسال كثيرا في هذا المجال فالذكريات كثيرة. عسى أن تتاح الفرصة لتسجيلها.

وهناك آخرون من أبناء جيلي والجيل اللاحق، لمسوا من السيد حسن العوامي هذا التواصل الأبوي المشجع على صناعة الانداد والرافض لإحكام السقوف.

الثانية: احترام الآراء والخيارات

بعض الشخصيات الاجتماعية تتحرك ضمن السائد والمألوف، فآراؤها ومواقفها وخياراتها جزء من الواقع القائم، وحركتها تقليدية لا جديد فيها.

وفي الغالب لا تواجه هذه الشخصيات مشكلة على الصعيد الاجتماعي، لكن الشخصيات التي تكون لها اجتهادات وآراء ومواقف فيها شيء من التجديد والتطوير والاختلاف عما هو سائد ومألوف، فإنها قد تتعرض لكثير من الضغوطات والمشكلات.

وحيث تختلف المجتمعات في التعامل مع هذه الظاهرة، فالمجتمعات التقليدية الراكدة، تريد أن يكون الناس فيها نسخا مكررة، لا يختلفون في أفكارهم، ولا يتفاوتون في آرائهم ومواقفهم، يعيشون ضمن صندوق لا يسمحون لأحد أن يفكر خارجه.

أما المجتمعات الحديثة والمتقدمة فهي تشجع على الابداع والتطوير والتجديد، وتحترم حرية الرأي والخيار.

مما يتيح المجال لبلورة الآراء وانضاجها، وتحديث الأساليب والوسائل.

كما يقول الإمام علي : «اِضرِبُوا بعضَ الرأيِ ببعضٍ يَتَوَلَّدْ مِنهُ الصَّوابُ»[2] .

ويقول أيضا : «إمخَضوا الرأيَ مَخضَ السِّقاءِ يُنتِجْ سَديدَ الآراءِ»[3] .

ولا يعنـي ذلك قبول أي رأي جديد، بل استقباله بالمناقشة والحوار، كما يقول تعالى: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ. [سورة الزمر، الآيتان: 17-18]

إن ذوي الرأي في المجتمعات التقليدية يعيشون معاناة كبيرة، قد تشل حركتهم الفكرية المعرفية، وتسبب حرمان المجتمع من طروحات وخيارات قد تكون ريادية منقذة

وقد عاش السيد العوامي شيئا من المعاناة في بعض مراحل حياته الاجتماعية، فكان يحدثنا أن أناسا ما كانوا يسلمون عليه، بل ولا يردون عليه السلام، وكانوا يعاتبون الخطيب الذي يقرأ في مجلسهم أيام ذلك الاختلاف.

لكنه تجاوز كل ما حصل ولم يختزن في قلبه احقادا ولا اضغانا، وهكذا ينبغي أن لا يتوقف الانسان عند خلاف حصل له في وقت ما مع هذه الشخصية أو تلك.

إننا بحاجة لتكريس ثقافة احترام الرأي الآخر في داخلنا، واحترام خيارات الأشخاص في أفكارهم ومواقفهم، واحترام شخصيات المجتمع وكفاءاته ورموزه، من حقنا ان نختلف مع هذا الرمز أو ذاك، وان لا نتفق مع هذه الجهة أو تلك، لكن لا يصح اتهام الناس في دينهم، ولا انتهاك حرماتهم واعراضهم، ولا التحريض على كراهيتهم ومحاصرتهم، لأننا نختلف معهم

وحتى من نراه قد أخطأ، علينا أن نساعده على تجاوز الخطأ، لا أن ندفعه الى الهاوية.

وأذكر هنا رواية جميلة عن الامام جعفر الصادق أنه قال لعبد العزيز القراطيسي: «فَلا تُسْقِطْ مَنْ هُوَ دُونَكَ ؛ فَيُسْقِطَكَ مَنْ هُوَ فَوْقَكَ ، وَإِذَا رَأَيْتَ مَنْ هُوَ أَسْفَلُ مِنْكَ بِدَرَجَةٍ ، فَارْفَعْهُ إِلَيْكَ بِرِفْقٍ ، وَلَا تَحْمِلَنَّ عَلَيْهِ مَا لَا يُطِيقُ ؛ فَتَكْسِرَهُ ؛ فَإِنَّ مَنْ كَسَرَ مُؤْمِنا فَعَلَيْهِ جَبْرُهُ»[4] .

إن البعض يبدو وكأنه يتربص بالآخرين عثراتهم، وينتظر سقطاتهم، وهذا ما ينهى عنه الدين والخلق القويم.

فقد ورد عن رسول الله في اكثر من حديث أنه قال: «أقِيلوا الكِرامَ عَثَراتِهِم »[5] .

وجاء في نص آخر عن علي : «أقِيلوا ذَوي المُروءاتِ عَثَراتِهِم»[6] .

ومن خلال حفل تكريم السيد العوامي يجب أن نوجه رسالة احترام وتكريم لكل شخصية اجتماعية، ولكل رمز وطنـي، وكل صاحب كفاءة وعطاء في خدمة الدين والمعرفة والمجتمع.

حفظ الله مجتمعنا وبلادنا من كل مكروه

ووفق الله العاملين المخلصين في ولاء دينهم ووطنهم

وشكرا لمنتدى الثلاثاء الثقافي في القطيف على هذه المبادرة الرائعة، وعلى الجهود المتواصلة التي يبذلها في خدمة الثقافة والمجتمع

وشكرا لجميع الاخوة والاخوات اطال الله في عمر استاذنا الجليل السيد حسن العوامي وامده بالصحة والعافية. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

تكريم السيد حسن العوامي

 

* كلمة سماحة الشيخ حسن الصفار في حفل تكريم السيد حسن العوامي، الذي اقامه منتدى الثلاثاء الثقافي في صالة شهاب الملكية بتاريخ الثلاثاء 5 ربيع الأول 1440هـ الموافق 13 نوفمبر 2018.
* نشر المقال في مجلة إبداعات، العدد 3، صفر 1412هـ - خريف 2020، ص264.
* نشر في كتاب (السيد حسن العوامي عطاءُ للوطن، ط1، 2019م) بعنوان: العوامي: شخصية متعددة الأبعاد، ص39.
[1]  الطبعة الأولى: 1394هـ ـ1974م، منشورات مكتبة الإمام الصّادق، الكويت.
[2]  غرر الحكم ودرر الكلم، ص 88، حكمة: 61.
[3]  غرر الحكم ودرر الكلم، ص 89، حكمة: 99.
[4]  الخصال للصدوق: 448.
[5]  أخرجه أحمد في المسند 6: 181
[6]  نهج البلاغة : الحكمة 20.