مآلات التشاؤم واليأس

 
﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ[سورة البقرة، الآية: 268].
 
تتراوح على نفس الإنسان في مختلف الظروف والأوضاع نوعان من التصورات والإيحاءات:
 
النوع الأول: التصورات والإيحاءات الإيجابية، التي تعمر نفسه بالتفاؤل والأمل تجاه المستقبل، فإذا كان يعيش في خير ونعمة تفاءل بأنّ هذه النعمة ستتسع وتزداد بإذن الله، وإذا كان يواجه ضائقة أو محنة، يتفاءل بأنها ستزول وتنتهي وسيتجاوزها.
 
النوع الثاني: التصورات السلبية، التي تملأ نفس الإنسان بالتشاؤم والقلق، والخوف من المستقبل، فإذا مرت عليه محنة أو صعوبة، سواء كانت محنة صحية أو اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية، يتصور وكأنّ هذه المحنة قدرٌ حتمي لا يزول، وستبقى ملازمة له طوال حياته، وبالتالي سيكون أكثر قلقًا وخوفًا.
 
والغريب أنّ الإنسان المتشائم حتى وإن كان يعيش في خير ونعمة، إلّا أنه يخشى زوالها، فيعيش حالة الخوف والقلق من فقدانها.
 
هذان نوعان من التصورات والإيحاءات، تصورات إيجابية متفائلة، وتصورات سلبية متشائمة.
 

آثار وانعكاسات

 
لكلٍّ من هاتين الحالتين آثار وانعكاسات على واقع حياة الإنسان، يمكن رصدها في المظاهر التالية:
 

أولًا: على الصّعيد النفسي

 
التفاؤل والأمل يعطي الإنسان راحة نفسية، حتى لو كان يعيش صعوبة صحية، أو اقتصادية، أو اجتماعية، تفاؤله يخفف عنه وطأة الصعوبة، بينما إذا كان متشائمًا يعيش المشكلة مضاعفة، صعوبة خارجية واقعية، وأزمة نفسية داخلية، وكما قال الشاعر:
 
رَوِّح النفس بالسّلو لديها
لا تكن جالب الهموم إليها
وإذا مسَّك الزمان بضرٍّ
لا تكن أنت و الزمان عليها
 
أي المشكلة ذاتها، والحالة النفسية.
 
التشاؤم يُتعب الإنسان نفسيًّا، بينما التفاؤل يخفف عنه وطأة المشكلة التي تمرّ عليه.
 

ثانيًا: على المستوى الذهني والفكري

 
الإنسان المتفائل يستكشف الفرص، ويفكر بالتطوير والتقدم، لكن المتشائم يسيطر عليه اليأس، حتى وإن كانت الفرصة أمامه، إلّا أنه يعيش التشاؤم، فيحدث نفسه حديثًا سلبيًّا!!، فتجول بعض العبارات في ذهنه، مثل: (لا يفيد.. ، لا يكون..، غير مجدٍ!!).
 
المتفائل ذهنه يلمح الفرص ويستكشف الآفاق، بينما المتشائم يحجب الفرص، هي أمامه لكنه لا يلمحها ولا يفكر فيها، وعندما يُقدّم لبعض المتشائمين حلٌّ لمشكلته، أو تُطرح عليه بعض الأساليب لتخطيها نراه يرفض تلك الحلول والأساليب المطروحة بقوله: (لن يفيد..، لا جدوى من ذلك) من دون علم أو بيان فهو مبرمج على الرفض! 
 
بعض الأحيان هنالك طريقة أو وسيلة، لكنّ احتمال نجاحها ضعيف، ربما (1% ) إلّا أنه قد يتحقق من هذا الاحتمال الضعيف الحلّ والوسيلة المنشودة.
 
فقد ورد عن علي : «كُنْ لِمَا لَا تَرْجُو أَرْجَى مِنْكَ لِمَا تَرْجُو»[1] .
 

ثالثًا: على المستوى العملي

 
الإنسان المتفائل عادة ما يكون مبادرًا وحيويًّا نشطًا، بينما المتشائم يسيطر عليه الكسل، ويعيش الكآبة، فيصاب بشلل الإرادة، وتكون فاعليته متوقفة، فالتفاؤل ينفع الإنسان في سلوكه وحياته العملية، بينما التشاؤم يجمّد حركة الإنسان وسعيه.
 

رابعًا: تعامل الإنسان مع المحيط حوله

 
المتفائل تكون أخلاقه طرية، يرتاح مع الذين من حوله، ويرتاحون من تعامله، أما المتشائم يُتعب من حوله بسبب سوء أخلاقه وكلامه وتصوراته؛ لأنّ نفس الإنسان وما تحمله من انطباعات وتصورات تنعكس على تعامله مع الناس.
 
لكلّ هذه الأمور فإنّ حالة التفاؤل مهمة جدًّا، ومفيدة لنفس الإنسان، مهما كانت الصعوبات والظروف.
 

روافد الأمل والتفاؤل

 
هل التفاؤل مجرد حالة خيالية مثالية حتى يسلّي الشخص نفسه؟
 
أم أنّ لها رصيدًا من الواقع؟
 
حين نتأمل ونتفكر، نرى أنّ حالة التفاؤل ليست مجرّد حالة خيالية أو مثالية، من أجل مساعدة الإنسان على تحمل الواقع الذي يعيشه، وإنما هنالك روافد واقعية لحالة الأمل والتفاؤل، ومن روافدها:
 

أولاً: التحدّيات تصقل الشخصية

 
الحياة بطبيعتها فيها صعوبات، بل إنّ الصعوبات هي الممر والطريق لصقل إرادة الإنسان وتفجير كفاءاته.
 
لذلك قالوا (إنّ الحاجة أم الاختراع).
 
الإنسان عبر التحدّيات يفجّر طاقته وكفاءته، إذا مرّت عليك صعوبة لا تتشاءم، بل تفاءل؛ لأنّ هذه الصعوبة ما هي إلّا معبر وطريق، ما هي إلّا وسيلة لكي تلتفت إلى بعض نقاط قوتك وكفاءاتك وقدراتك، وهذا أمر واقعي، كم من المفكرين والعظماء دفعته الإعاقة إلى التحدّي فأصبح مبدعًا، عدد من العلماء والشخصيات الشهيرة في الماضي والتاريخ المعاصر انطلقوا من تحدّيهم لإعاقاتهم، أشخاص عاشوا معاناة السجن وحصلوا على شهادات عليا، والبعض أتقن عدة لغات، وآخر يكتب تفسيرًا كاملًا للقرآن الكريم، أو يؤلف كتبًا علمية.
 
إذًا الصعوبات لا تعني أنّ الحياة توقفت، بل قد تكون الصعوبات نوافذ لتطوير الحياة، وممرات للتقدم والإنجاز، وكما قيل عليك تحويل المحنة إلى منحة وإلى فرصة للاستفادة منها.
 

ثانيًا: التغير من طبيعة الحياة

 
يرى الإنسان أنّ الحياة متغيرة، فلا شيء يدوم على حاله، الأحوال والأوضاع تتغيّر، وبالتالي إذا كنت في مشكلة أو صعوبة، فلا توحي لنفسك بأنها قدر حتمي دائم غير زائل، كم من مريض تمتع فيما بعد بالصحة والعافية، نعم هنالك حالات آلت للأسوأ، ولكن من قال إنّ الحالة التي تواجهها ستؤول للأسوأ؟! لعلّها تؤول للأحسن وإن قلّ هذا الاحتمال، كم شخص مرّ بصعوبة اقتصادية، وبعدها تيسّرت أموره، وانفتحت أمامه الآفاق، وصار بخير؟، وهكذا في مختلف المجالات.
 
إذا كان الأمر كذلك، فلماذا التشاؤم؟ ولماذا الشعور بالإحباط؟!!
 
يجب أن نتعامل مع المشكلة في حدودها، بعض الناس إذا واجهته مشكلة تسودّ الدنيا وتظلم في عينه، مع العلم أنّها مشكلة محدودة!
 
كان هنالك شابٌّ نشط في دراسته تخرج من الثانوية وتقدم للجامعة، فلم يحصل على التخصص الذي يريده، فاسودّت الدنيا في عينه، على الرغم من وجود الفرص الأخرى التي أتيحت له، إلّا أنّ حياته تأزّمت؛ لأنه لم يتقبل تلك الفرص المتاحة، على خلاف أصدقائه الذين تقبلوا الفرص المتاحة، وبعد مرور وقت استطاعوا أن يحصلوا على التخصصات التي يحلمون بها.
 

ثالثًا: الإيمان بالله تعالى

 
الإيمان بالله تعالى ينبغي أن يُلهم الإنسان الأمل؛ لأنّ المؤمن يثق بالله وبالقضاء والقدر، ويتوكل على الله، يقول تعالى: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ.
 
هذه الحالة الإيمانية تنفع الإنسان في مواجهة الصعوبات والتحديات، بعض الناس قد يظنّ أنّ الإيمان هو مجرد حالة عبادية، أن يصلي ويصوم، ولكن الله بيّن أهمية الإيمان لتعزيز الحالة النفسية الايجابية في الإنسان حيث قال تعالى: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ.
 
إذا لم يتحول الإيمان إلى حالة اطمئنان في نفس الإنسان، ووعي بالحياة، وثقة بالله سبحانه، وأصبح مجرد أداء روتيني للعبادات، فهذا يعني أنّ الإيمان لم يتمكن في القلب، بل هو إيمان سطحي، غير حقيقي!!
 
وكم في القرآن الكريم من آيات كريمة تحثّ على التحلي بالأمل والتفاؤل؟!
 
يقول تعالى: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا أيّها الإنسان لا تتصور أنّ هذا العسر الذي يواجهك، وأنّ هذه الصعوبة التي تقابلك، هي قدر حتمي مستمر دائم، بل قد يكون لفترة مؤقتة يعقبها اليسر.
 

منهجان متقابلان

 
هناك منهجان:
 
منهج شيطاني يدفع الإنسان إلى التشاؤم، ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ يعطي تصورًا سلبيًّا للإنسان، أنْ تمسّك بمالك؛ لأنك إنْ بذلت وصرفت ستكون فقيرًا محتاجًا، الجاه الذي تملكه قد يذهب منك، هكذا تأتي الوساوس على هيئة تصورات شيطانية، توحي للإنسان بالقلق والخوف المبالغ فيه من المستقبل.
 
ومنهج رحماني يدفع إلى التفاؤل ﴿وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ، أي إنّ الإمكانات أمامك ستكون أكثر وأوسع.
 
بالطبع، إنّ حالة التفاؤل والأمل، لا تعني عدم أخذ التحديات بعين الاعتبار، أو عدم تقدير احتمالات الخطر، فالإنسان بطبعه عاقل يفكر بالتحديات المحتملة، والأخطار التي يمكن أن تواجهه، لكن التفكير في الأخطار والتحديات ينبغي أن يكون بنفس مطمئنة واثقة، وبفاعلية وحيوية، ولمواجهة الأخطار لا نحتاج إلى قلق نفسي، بل إلى الوقاية منها والاستعداد لمواجهتها.
 

الأجواء الاجتماعية

 
علينا أن نتحلّى بالإيجابية والأمل، والتفاؤل في حياتنا الفردية، وفي حياتنا الاجتماعية، بعض الناس إذا لاحظوا بعض المشاكل والانحرافات في المجتمع قالوا: قد أصبحنا في آخر الزمان، انتهى الزمان، لا يوجد غير الجور والظلم، ولا يوجد غير الانحراف!!
 
في الحديث أنّ رسول الله قال: «إذا قال الرجل: هلك الناس فهو أهلكهم»[2] .
 
هذا الذي ينظر للناس نظرة سوداوية هو المتأزم نفسيًّا، وليس الناس هلكوا كما زعم.
 
فلا بُدّ أن نتحلّى بالإيجابية، ونحيط أبناءنا وشبابنا بأجواء الأمل والإيجابية.
 
في بعض الأحيان تبثّ الكتابات، وأحاديث المجالس نوعًا من الإيحاء أمام الشاب بأنّ دراسته في خطر، ومستقبله الوظيفي في خطر، ولن يجد سكنًا ولا فرصًا للحياة الكريمة، ترتسم أمامه مجموعة من التأزمات، عندما نحيطه بأجواء كهذه، كيف نريد منه أن يكون حيويًّا؟!
 
أو أن يصبح فاعلًا؟!
 
علينا أن نتحلى بالإيجابية والأمل وأن نوفر هذه الأجواء لأبنائنا وشبابنا.
 
ولا يعني أن نتجاهل المشاكل، ولكن ينبغي أن نضعها في حجمها الطبيعي، ليس المطلوب أن نتجاهل الأخطار والتحديات، ولكن أن نواجهها بثقة وعمل، وهذا لا يتحقق بنشر نفسية التذمّر والتضجّر.
 
البعض عندما تلتقيهم يفتحون لك قائمة من السلبيات، لا يحفظ إلّا سجل الوفيات، لا ينتبه إلى المواليد، ولا يلتفت إلى من يتزوج، فهو يبحث عن قائمة المرضى، وأصحاب الخسائر، فالحالة السلبية تبحث عن الشواهد السلبية.
 
بينما الحالة الإيجابية تقوم على التوازن وتغليب حالة التفاؤل، ورد عن النبي : «الأملُ رَحمةٌ لاُِمّتي، ولَوْلا الأملُ ما أرْضَعَتْ والِدَةٌ وَلَدَها، ولا غَرَسَ غارِسٌ شَجَرًا»[3] .
 
وورد عن أمير المؤمنين : «أعظم البلاء انقطاع الرجاء»[4] .
 
أهم مشكلة عند الإنسان أن يعيش حالة إحباط؛ لأنه ليس لديه رجاء ولا يوجد لديه أمل.
 
ولنا من ثورة عاشوراء دروس وعبر، فعلينا أن نستلهم من الإمام الحسين ومن أهل بيته روح الأمل.
 
سار إلى كربلاء وهو يعلم أنه سيقتل، لكنه يكتب رسالة إلى بني هاشم:
 
«من لحق بي منكم استشهد، ومن لم يلحق بي لم يدرك الفتح»، الذي يأتي مع الإمام الحسين يستشهد، لكن من لم يلحق يفوته (الفتح)!
 
نظرة تستشرف المستقبل وتتفاءل بالنتائج.
 
العقيلة زينب أيام دخولها إلى الكوفة، يسألها ابن زياد:
 
كيف رأيت صنع الله بأخيك وأهل بيتك؟ فتجيبه قائلةً: «والله ما رأيت إلّا جميلًا»، مع أنها تعيش عناء الأسر وآلام الفاجعة.
 
هنا تكمن النفسية والروح الإيجابية التي يجب أن يتحلّى بها الإنسان المؤمن.
* خطبة الجمعة بتاريخ 15 محرم 1439هـ الموافق 6 أكتوبر 2017م.
[1]  الشيخ الكليني، الكافي، ج5، ص83، حديث 3.
[2]  صحيح مسلم، بَابُ النَّهْيِ عَنْ قَوْلِ هَلَكَ النَّاسُ، حديث رقم 4884.
[3]  العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج77، ص175.
[4]  غرر الحكم ودرر الكلم، ص111، حكمة 243.