العمل التطوعي بين التحفيز والتثبيط

 

﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[سورة التوبة، الآية: 79].

تتنافس المجتمعات الإنسانية في الإقبال على العمل التطوعي الخيري، الذي يخدم المصلحة العامة في مرافقها المختلفة، ويستهدف مناطق الضعف في المجتمع.

ففي معظم المجتمعات في بلاد العالم هناك من يتطوع لمساعدة الفقراء، وإغاثة المحتاجين، وحماية البيئة، ودعم المرضى، ونشر التوعية بقضايا الحياة والقيم الإنسانية.

وبعض المؤسسات التطوعية تعمل على المستوى العالمي، ولا يقتصر نشاطها على بلد أو عرق أو أمة أو طائفة، وأصبح المجتمع الدولي يحتضن هذا المسار من العمل الإنساني، حيث ترعاه الأمم المتحدة عبر مؤسساتها التخصصية، هناك مؤسسات ترعى العمل الأهلي التطوعي، وقد أتاحت الأمم المتحدة للمنظمات الأهلية، ومؤسسات المجتمع المدني، ضمن مواصفات معينة الانضواء تحت مظلتها، وأصبحت كلّ دولة من دول العالم لها قوانين وأنظمة تنظم العمل الخيري التطوعي، وتنظم مؤسسات المجتمع المدني.

بالطبع هناك تفاوت بين الحكومات في قوانينها تجاه العمل الأهلي، بين دول تعتمد المرونة، لكي تفتح المجال أمام مختلف الأنشطة الأهلية، وهناك تشجيع وامتيازات لمن يشارك في العمل الخيري التطوعي، وبين دول أخرى لديها تحفّظ على النشاط الأهلي ومؤسسات المجتمع المدني، وفي قوانينها نوع من التشدد والتحديد لنشاط العمل الخيري الأهلي، وينعكس هذا الأمر على مستوى العمل الخيري، فكلما كانت أنظمة الدولة أكثر مرونة  كان نشاط المؤسسات التطوعية أكثر اتساعًا، كما أنّ مدى تجاوب المجتمع مع النشاط الخيري التطوعي عامل مؤثر بشكل كبير، والمجتمعات متفاوتة في هذا المجال. 

ويبدو أنّ مجتمعاتنا المحلية تحتاج إلى رفع درجة تفاعلها مع النشاط الخيري، حيث ما تزال الجمعيات والمؤسسات الخيرية تشكو من ضعف إقبال الناس عليها، سواء من ناحية الموارد البشرية العاملة، أو لجهة التفاعل العام الإعلامي والاجتماعي، أو لجهة الدعم المالي!

هناك شكوى واضحة من الجهات الخيرية في مجتمعاتنا، وإذا ما قارنا تفاعل الناس مع العمل الخيري التطوعي في مجتمعاتنا المتدينة، قياسًا بالمجتمعات الغربية التي نصنّفها بـ (المجتمعات المادية) فسنجد أنّ تفاعل تلك المجتمعات مع النشاط الخيري الإنساني ـ في كثير من الأحيان ـ أفضل من تفاعل مجتمعاتنا، وهذا يتضح من خلال التقارير والإحصائيات.

كندا مثالاً

أظهرت دراسة حديثة أنّ عدد الجمعيات التطوعية في كندا يبلغ 161 ألف جمعية، يعمل فيها مليونا موظف، يساندهم 12مليون متطوع، من أصل عدد سكان كندا البالغ 34 مليون نسمة، أي إنّ أكثر من 35% من سكان كندا متطوعون في أعمال خيرية متنوعة، فيما تصل النسبة إلى أكثر من 41% كعاملين ومتطوعين في القطاع الخيري والإغاثي والإنساني، والتنصيري أيضًا، ويبلغ تمويل الأعمال الخيرية في كندا 112 مليار دولار[1] . هذا في مجتمع نعتبره مجتمعًا ماديًّا. 

بينما عندنا في المملكة مجتمع متديّن، يقرأ القرآن ليل نهار، وهناك إذاعات خاصة للقرآن الكريم، وتوجيهات دينية دائمة من خلال خطب الجمعة وغيرها، لكن عدد المتطوعين هو 24500 متطوعًا، حسب إحصائية وزارة العمل والشؤون الاجتماعية[2] .

وذلك من عدد المواطنين الذي يزيد على 20 مليون تقريبًا[3] .

حينما نقارن النسبة نجدها بعيدة جدًّا!!

وهنا يأتي السؤال: ما سبب ضعف الإقبال في مجتمعاتنا على العمل الخيري التطوعي؟!

لماذا هو أقلّ من المجتمعات الأخرى، وأقلّ من مستوى الحاجة؟!

لو قارنا بين العمل الديني والعمل التطوعي، لوجدنا إقبال الناس في مجتمعاتنا على الأعمال الدينية العبادية والشعائرية في مجاله التطوعي أكبر بكثير من إقبالهم على الأعمال الخيرية الإنسانية، وهو أمر واضح، من خلال إحصاء المؤسسات الدينية كالمساجد والحسينيات، فِي مقابل المؤسسات الخيرية الاجتماعية الإنسانية، تجد الفرق شاسعًا، ففي كلّ مدينة وقرية عدد كبير من المساجد والحسينيات، في مقابل ذلك هناك عدد ضئيل من الجمعيات الخيرية الإنسانية.

الأوقاف شاهد آخر

تشير بعض الإحصائيات إلى أنّ 75% من الأوقاف في الأحساء والقطيف والبحرين هي لأغراض دينية، كالمساجد والحسينيات والمآتم، و25% للأغراض الأخرى، وهي إحصائيات منشورة!!

ما الذي يجعل الإنسان يقبل على الوقف لعمل ديني ولا يندفع للوقف من أجل عمل إنساني؟! وقد لاحظت أنّ أغلب من يأتيني لعمل وقف أو كتابة وصية، يركزون على الأوقاف الدينية، وإذا حاولنا إقناع البعض أن يجعل الوقف للفقراء أو المرضى، أو للأيتام أو لذوي الاحتياجات الخاصة نجهد في إقناعه، وفِي الغالب لا يقتنع!!

لا شك أنّ الوقف للإمام الحسين أو للمسجد فيه فضل وثواب كبير، لكن الثواب لسدّ حاجة الفقراء والمساكين قد يكون في بعض الأحيان أكثر وأعظم.

إنّ تشخيص حاجة المجتمع له دور كبير في توجيه الأوقاف والأعمال الخيرية، وما نراه اليوم من توفر المساجد والحسينيات، وقلة المؤسسات الخيرية الإنسانية، يجعلنا نؤكد على توجيه الأنظار إلى الحاجات الملحة في المجتمع.

إنّ عدم ترتيب الأولويات يكشف عن طبيعة ثقافة الناس وفهمهم للعمل الديني، وهو ما يحتاج إلى إعادة نظر.

قبل بضع سنوات توفي أحد المؤمنين وترك نوعين من الأوقاف: النوع الأول للعمل الخيري ودخلها السنوي في حدود ستين إلى سبعين ألف ريال، والنوع الثاني للأعمال الدينية ودخلها ستمئة إلى سبعمئة ألف ريال، ونلاحظ هنا كم هو الفارق في النسبة ؟!

بالطبع هو يريد عمل الخير والثواب، وقد استقرّ في نفسه وفهمه أنّ الثواب في القضايا الدينية أكثر، وذلك لأننا لم نثقف الناس ونوجههم للعمل الخيري الإنساني، وأنه من صلب القضايا الدينية، كما ورد في الحديث عن رسول الله : «خَصلَتانِ لَيسَ فَوقَهُما مِنَ البِرِّ شَيءٌ: الإِيمانُ بِاللّهِ، وَالنَّفعُ لِعِبادِ اللّهِ»[4] .

وهكذا نجد أنّ الأولويات غير واضحة، ولك أن تجرب دعوة الناس إلى بناء مسجد، ستجد التفاعل كبيرًا، فالكلّ يريد أن يساهم معك، لكنك لو دعوتهم إلى إنشاء مكتبة عامة، أو متحف وطني، أو مؤسسة لذوي الاحتياجات الخاصة، أو دارٍ للمسنين والعجزة، ستجد التفاعل أقلّ!!

 بالطبع لا نريد التقليل من أهمية المجالات الدينية، لكن نريد أن نرفع من الاهتمام بالجانب الإنساني، فهو لا يقلّ أهمية عنها، إن لم يكن في بعض الأحيان أكثر ضرورة وإلحاحًا، كما هو مفاد النصوص الدينية.

أثر الحفاوة الاجتماعية

ومن العوامل المؤثرة في هذا المجال حفاوة الناس بمن يتبنّى ويتولى أمر المسجد أو الحسينية، فالمكانة الاجتماعية التي يحصل عليها صاحب المسجد أعلى بكثير من مسؤول في جمعية، أو نادٍ رياضي، أو مؤسسة بيئية، وفِي بعض الأحيان يكون تعاطي المجتمع مع النشاط التطوعي الخيري سلبيًّا، يترصد الأخطاء والثغرات، وهي مشكلة كبيرة!

صحيح أنّ النقد مطلوب لتطوير العمل الخيري في الجمعيات والأندية واللجان الاجتماعية المختلفة، لكن المطلوب هو النقد الإيجابي البناء، وليس النقد السلبي، الذي يصل إلى مستوى التثبيط، وَهَذَا ما تعالجه الآية الكريمة، يقول تعالى: ﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ.

(الْمُطَّوِّعِ) أصله المتطوع فأدغمت التاء في الطاء، أي المداوم على التطوع بأن يعمل ما لا يجب عليه، وتعني بذل الجهد والطاقة، وقد يكون المقصود من ذلك الذين يبذلون جهدهم لعدم وجود المال لديهم.

واللمز: هو الطعن وتتبع المعايب والنواقص.

هناك من يبحث عن نواقص عمل المتطوعين لخدمة المجتمع، يتتبع ثغرات وعيوب عملهم!

ومن يعمل قد يخطئ.

إذا كان النقد بقصد التطوير وسدّ الثغرات، فهو نقد إيجابي، وله أسلوبه ولغته وطريقته، لكن الآية تنتقد اللمز، وهو ما يتم عادة في الخفاء، وليس بشكل واضح ﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ إنّهم متطوعون يقومون بعمل إنساني في مجتمعهم، لماذا تغمز قناتهم وتترصد معايبهم وأخطاءهم؟!

تتحدث الآية الكريمة عن اللمز باعتباره صفة من صفات النفاق، فالإنسان غير الصادق مع ربه ومجتمعه يقوم بهذا الدور، ثم تشرح الآية حال أولئك المتطوعين فتقول: ﴿وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ شخص يعمل في الجمعية أو النادي الرياضي أو المؤسسة الخيرية بمقدار جهده وطاقته، فيواجهه البعض بالنقد اللاذع، وقد يصل إلى مستوى السخرية، كما تقول الآية ﴿فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ وهنا يأتي الرد من الله تعالى بعبارة نادرة في القرآن الكريم حيث يقول تعالى: ﴿سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. والمتأمل في الآية الكريمة يلحظ مدى اهتمام الله تعالى بحماية من يتطوع في العمل الخيري الاجتماعي، بحيث إنّ من يسخر من هؤلاء ويتلمّس عيوبهم، كأنه سخر من الله ومن الدين، وفي مقابل ذلك يأتي التهديد الإلهي ﴿سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ هذه الآية تريد تحصين العمل التطوعي من حالة التثبيط، وانعدام الثقة به في المجتمع، إنّ الآية الكريمة تذكر حالتين: حالة (اللمز) وحالة (السخرية)، واللمز هو الطعن وتتبع العيوب، بينما السخرية هي الاستخفاف والاحتقار.

التشكيك والاستخفاف بالعمل التطوعي

وهكذا هو موقف بعض الناس تجاه العاملين في المجال التطوعي:

إما اللمز والتشكيك في النيّات، فيقولون: إنّ هذا الرجل لديه غرض شخصي، يريد أن يتزعم ويبرز نفسه!

والحالة الثانية هي الاستخفاف، حيث يقولون: ما قيمة هذا العمل، وما تأثيره؟!!

المفسرون ينقلون في سبب نزول هذه الآية أنّ النبي محمدًا حثّ الناس على الصدقات وعلى التطوع، فجاء بعض أثرياء الصحابة وقدموا مبالغ كبيرة، وجاء بعض الصحابة الفقراء فقدم صاعًا من التمر، وبعضهم نصف صاع. ولم يسلم الطرفان من تشكيك المناوئين وسخريتهم، فمن أعطى كثيرًا شككوا في نيته، ومن أعطى قليلًا سخروا من عطائه!!

كما روى البخاري عن أبي مسعود، قال: (لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الصَّدَقَةِ، كُنَّا نُحَامِلُ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بِشَيْءٍ كَثِيرٍ، فَقَالُوا: مُرَائِي، وَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بِصَاعٍ، فَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ صَاعِ هَذَا، فَنَزَلَتْ: ﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطَّوِّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ الآيَةَ)[5] .

هذا يكشف حال الناس السلبيين الذين يترصّدون العيوب والأخطاء.

علينا أن نحمي العمل التطوعي، وأن نحصّنه من التثبيط، ولا يعني ذلك التوقف عن النقد الإيجابي، كما أنّ على العاملين في المجال الخيري الصمود والثبات، وعدم الانهزام أمام أساليب التثبيط والسخرية، فيحرمون أنفسهم من المشاركة في العمل التطوعي الخيري.

ساهم بمقدار ما تستطيع ولو بريال واحد، ولو بساعة في اليوم أو الأسبوع.

فقد ورد عن أمير المؤمنين علي أنه قال: «لَا تَسْتَحِ مِنْ إِعْطَاءِ الْقَلِيلِ، فَإِنَّ الْحِرْمَانَ أَقَلُّ مِنْه»[6] . 

إذا دار الأمر بين أن تتبرع بمبلغ قليل أو ألّا تتبرع، فإنّ التبرع بالقليل أفضل. 

علينا أن نهتم بالمساهمة والمشاركة بما نستطيع ﴿وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ أي بما تملك من قدرة، من حيث الوقت والجهد والجاه. 

وعلينا أن نحترم أيّ جهدٍ يصرف في سبيل خدمة المجتمع، وفي سبيل مساعدة المحتاجين.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإيّاكم لعمل الخير وأن يتقبل منّا القليل وأن يمنحنا لطفه ورحمته وفضله.

اللهم وفّق جميع العاملين والباذلين ومن يخدمون مجتمعهم، اللهم زِد في ثوابهم وأجرهم وكثّر من أمثالهم ووفقنا للمشاركة معهم.

* خطبة الجمعة بتاريخ 2 جمادي الأولى 1439هـ الموافق 19 يناير 2018م.
[1]  «متخصصون: 70% من الطلاب العرب بمعزل عن الأعمال التطوعية في الإجازات»، جريدة الشرق الأوسط، 29 يوليو 2012م.
[2]  «العمل»: 200 فرصة بمسمى «مدير تطوع»»، صحيفة عكاظ، 19 مارس 2017م.
[3]  «الإحصاء»: ارتفاع عدد سكان المملكة إلى 32.6 مليون نسمة.. 37% منهم أجانب»، صحيفة الرياض 26/5/2017م.
[4]  تحف العقول: ص 35.
[5]  صحيح البخاري، كتاب الزكاة، باب: اتقوا النار ولو بشق تمرة والقليل من الصدقة، حديث رقم 1360.
[6]  نهج البلاغة، حكمة: 67.