الأخلاق بين الوعظ والتقنين

 

﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ[سورة الحديد، الآية: 25].

إحدى أهم غاياتِ بعثة الأنبياء وإنزال الشرائع السماوية، هي إقامة العدل بين الناس، وسيادة القيم الأخلاقية، كما يقول الله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ، والقسط هو العدل، ويمكن أن يكون المعنى كلّ القيم الأخلاقية التي تحفظ الحقوق بين الناس، وتُوجب تكامل الإنسان، وقد اكتملت منظومة هذه القيم على يد خاتم الأنبياء محمد ، حيث روي عنه أنه قال: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاقِ»[1] .

والسؤال هنا: كيف يمكن أن تسود القيم الأخلاقية في المجتمع الإنساني؟ كيف يسود العدل والقسط بين الناس، مع وجود نزعة الأنانية في أعماق نفس الإنسان؟! 

هذه النزعة غالباً ما تدفع الإنسان للتجاوز على حقوق الآخرين، والسعي للهيمنة عليهم، والانقياد للأهواء والشهوات، مع وجود هذه النزعة القوية في نفس الإنسان كيف يمكن أن يسود العدل ويقوم القسط بين الناس؟

يمكننا أن نستنتج من الآية الكريمة أنّ هناك ثلاثة مسارات، يجب أن تتكامل لإنجاز هدف سيادة العدل والقيم الأخلاقية.

المسار الأول: تهذيب النفوس

وذلك عبر إثارة نوازع الخير في نفس الإنسان، وتقويتها على نوازع الشر، فهناك صراع قائم بين نوازع الخير ونوازع الشر، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا، ويقول في آية أخرى: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ، وفي سورة الشمس يقول تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا.

الأنبياء والرسالات السماوية تأتي لتقوي نوازع الخير، وتضعف نوازع الشر في داخل الإنسان وذلك بإحياء ضميره، وإيقاظ وجدانه، وإشعاره بالرقابة الإلهية عليه، وتذكيره بالمصير الأخروي، وهذا ما تطلق عليه الآيات القرآنية عنوان الوعظ والتزكية، كما في قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ[سورة الجمعة، الاية: 2].

والتزكية في حقيقتها إضعاف نوازع الشر، وتهذيب نفس الإنسان، وتغليب نوازع الخير في داخل نفسه، كما يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ[سورة يونس، الاية: 57] فالتعاليم والتوجيهات الدينية هي نوع من الموعظة التي تقدم للإنسان،  وفي هذا السياق تأتي الآيات لتذكر الإنسان  بمصيره الأخروي، كقوله تعالى: ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ  صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا[سورة الكهف، الآية: 49] عبر هذا الطريق هناك رهان على تهذيب نفس الإنسان،  وإعداده للالتزام بالقيم، وللموعظة دور كبير في تهذيب النفس وإصلاح السلوك، لذلك ورد عن أمير المؤمنين علي أنه قال: «أَحْيِ قَلْبَكَ بِالْمَوْعِظَةِ»[2] ، «المَواعِظُ حَيـاةُ القُلُوبِ»[3] ، «بِالمَواعِظِ تَنْجَلِى الغَفْلَةُ»[4] .

ومن أهم أهداف البرامج الدينية كتلاوة القرآن، وقراءة الأدعية، والاستماع إلى خطب الجمعة، أن يعرّض الإنسان نفسه للموعظة، حتى تكون نوازع الخير في نفسه أقوى من نوازع الشر. 

المسار الثاني: التبني الاجتماعي للقيم الأخلاقية

بأن تكون البيئة الاجتماعية حاضنة أخلاقية.

المسألة ليست حالة فردية، فالإنسان يعيش ضمن مجتمع، وإذا تبنّى المجتمع القيم الأخلاقية، فإنّ ذلك يهيّئ لسيادتها، ولقيام العدل بين الناس، حيث لا بُدّ أن يتهيأ الناس لإقامة العدل. فالآية الكريمة تقول: ﴿لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ، أي إنّ الناس هم أنفسهم يقومون بالعدل، وليس يفرض عليهم من خارجهم.

كيف يقوم الناس بالعدل؟

كيف تكون الحالة الاجتماعية باتجاه سيادة العدل؟

أن يتربى الناس على القيم الأخلاقية، بدءًا من المنزل والأسرة، مرورًا بمناهج التعليم والمدرسة، وانتهاءً بالأجواء العامة السائدة في المجتمع، بحيث تكون الثقافة الأخلاقية منتشرة في المجتمع، ويكون المجتمع بيئة حاضنة للقيم الأخلاقية، لهذا من الضروري قيام المؤسسات التي تبشر بالقيم الأخلاقية، كما نحن بحاجة إلى مؤسسات صحية، ومؤسسات عمرانية مختلفة، كذلك نحن بحاجة إلى مؤسسات تتبنى نشر قيم الأخلاق في المجتمع.

نحن نجد في المجتمعات المتقدمة مؤسسات للدفاع عن حرية الرأي، ومؤسسات لحماية البيئة، وللتوعية الصحية والمرورية، هذه المؤسسات ضرورية حتى يصبح المجتمع بيئة حاضنة مهيأة لتطبيق القيم الأخلاقية، فلا يكفي أنّ المؤمن كفرد يلتزم بهذه القيم، وإنّما عليه أن يتحمل مسؤولية التبشير بها أيضًا، ومن هنا جاءت فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقول تعالى: ﴿وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ.

ويقول تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ.

هذه المسؤولية تدفع الناس من أجل أن يتعاونوا وأن تتضافر جهودهم كي تسود القيم الأخلاقية في المجتمع.

المسار الثالث: التقنين والردع

لا بُدّ من وجود قانون يحكم، وعقوبات تردع من تسول له نفسه التجاوز على النظام والقانون، وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة، فبعد أن تتحدث عن إرسال الرسل ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ، تتحدث عن الحديد وبأسه الشديد: ﴿وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ في إشارة إلى قوة الردع.

إنّ وجود الكتاب والنبي والشريعة وحدها لا تكفي، لا بُدّ من وجود قوة رادعة؛ لأنّ هناك في المجتمع البشري من تشتد عنده نزعة الأنانية والعدوان، فلا بُدّ أن يواجه، حتى لو كان المعتدون والمنحرفون قلة في المجتمع، لكن القلة إذا سُكت عنها تتمدد وتتوسع، فلا بُدّ من وجود عقوبة ردع لمن يخالف القانون.

نحن نرى مظاهر الانضباط في المجتمعات الأخرى، من يسافر إلى البلدان الغربية يرى حالة الانضباط الكبير عند الناس، في حركة المرور، والنظافة، والتقيد بالنظام، واحترام الحقوق.

ومن أهم أسباب هذا الانضباط الذي نجده في المجتمعات الأخرى وجود القوانين الفاعلة، والعقوبات الرادعة، فلو ترك أولئك الناس دون قوانين وردع، لما كان وضعهم أفضل من وضعنا.

نحن في مجتمعاتنا الإسلامية نعاني من ضعف وفراغ في مجال التقنين، لدينا قيم أخلاقية، ونمتلك وسائل وعظ وإرشاد، لكن لا توجد إلى جانبها قوانين رادعة تضبط السلوكيات المخالفة.

ومن الأمثلة المعاشة في حياة الناس نظام المرور، والقضايا التي ترتبط بالبيئة، أو ترتبط بالذوق العام في المجتمع، قد نسمع خطبًا وأحاديث حولها، لكن لا يوجد عندنا تقنينات كافية!! 

لقد ناقش مجلس الشورى في بلادنا وضع أنظمة لحماية الذوق العام، وهذا يحتاج إلى وقت حتى تسنّ تلك القوانين والأنظمة.

إنّ إلقاء سائق السيارة لمخلفات المأكولات، أو رمي أعقاب السجائر، أو علب المشروبات في الشارع أمر مخالف للذوق العام، وكذلك تشويه المرافق والأماكن العامة، لكن هذه النظرة من المجتمع لا تكفي لتغيير سلوك المخالفين، ولا بُدّ من وجود عقوبات رادعة، فالقوانين الرادعة هي التي تجعل الناس في البلدان المتقدمة يلتزمون بحماية الذوق العام.

بالطبع إلى جانب القوانين هناك عوامل أخرى لا نغفلها، لكن القانون الرادع له دور أساس في حماية الذوق العام والنظافة العامة.

ومثال آخر فيما يرتبط بالتعامل الأسري، في المجتمعات المتقدمة توجد قوانين شديدة حول العنف الأسري، فالأب ليس حرًّا أن يزجر ولده أو يضربه، هناك عقوبات وروادع، وكذلك التعامل والعلاقة بين الزوجين، هناك تقنينات تضبط العلاقة وتحفظ الحقوق، أما في مجتمعاتنا لا تزال حالة التقنين لمثل هذه الأمور ضعيفة، وإذا سنّت قوانين لا تكون مفعّلة!

وفي موضوع التحرش الجنسي لدينا كمتدينين توجيهات كثيرة حول النظرة المحرمة، والاعتداء على الأعراض، توجد آيات وروايات وأحاديث كثيرة، لكن ليس لدينا تقنين رادع للتجاوز على الأعراض، بينما في المجتمعات الأخرى فإنّ القوانين التي ترتبط بالتحرش الجنسي هي من أشدّ القوانين، وهذا ما نحتاج إليه في مجتمعاتنا، وكذلك الحال فيما يرتبط بالتحريض على الكراهية وإثارة العنصرية بسبب تنوع ديني أو عرقي. 

التأخير في التقنين

مضت فترة طويلة في المملكة ومجلس الشورى يناقش مشروع نظام حول تجريم التحريض على الكراهية، لكن الأعضاء المحترمين في مجلس الشورى لم يقروا القانون والمشروع، وهكذا في كثير من البلدان الإسلامية!

بينما في البلدان المتقدمة هناك قوانين فاعلة على هذا الصعيد، فالتقنين موضوع مهم من أجل حماية القيم والمبادئ والحقوق الخاصة والعامة.

ونجد كيف أنّ البعض يستفيد من مواقع التواصل الاجتماعي ليسبّ ويُشهّر بمن يشاء؛ لأنه بعد لم توضع قوانين رادعة، وما وضع منها لم يُفَعَّل، والناس ليست لهم جرأة في استخدام مثل هذه القوانين، كلّ هذه الأمثلة تدلّ على أهمية هذا البعد.

في رواية صحيحة عن داوود بن فرقد عن الإمام الصادق ، يقول: «إِنَّ اللَّهَ قَد جَعَلَ لِكُلِّ شَيءٍ حَدًّا، وَجَعَلَ لِمَن تَعَدَّى ذَلِكَ الحَدَّ حَدًّا»[5] ، ويقول الله تعالى: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ[سورة البقرة، الآية: 229] ومن يتعدّى حدود الله، هل يترك؟!

يجب أن يعاقب ويردع، وفي الشرع مخالفات لها حدود معينة، أما بقية المخالفات فهي تقع ضمن مصطلح فقهي وهو (التعزير) أي إنّ الحكومة الشرعية في كلّ مجتمع تضع عقوبات رادعة للمخالفات التي ترتبط بالذوق، أو بمخالفة النظام، أو الاعتداء على حقوق الناس، وخاصة في مثل هذه العصور ومثل هذه الأزمنة.

فلا بُدّ أن تتكامل هذه المسارات الثلاثة: 

تهذيب النفوس عبر الوعظ والإرشاد 

البيئة الاجتماعية الحاضنة للقيم الأخلاقية.

التقنين والردع.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإيّاكم من الواعظين المتعظين وأن يوفقنا للالتزام بمكارم الأخلاق.

* خطبة الجمعة بتاريخ 16 جمادي الأولى 1439هـ الموافق 2 فبراير 2018م.
[1]  الشيخ الألباني، سلسلة الأحاديث الصحيحة، ج1 ص112، حديث 45.
[2]  نهج البلاغة: الكتاب 31.
[3]  غرر الحكم ودرر الكلم، ص65، حكمة رقم: 2041.
[4]  المصدر السابق، ص166، حكمة رقم: 118.
[5]  الشيخ الكليني، الكافي، ج7 ص 176، ح 11.