التدين ولغة الاختلاف

 

ورد في حديث معتبر عن أمير المؤمنين   قال: قال رسول الله : «إِنَّ اللهَ حَرَّمَ الْجَنَّةَ عَلَى كُلِّ فَحَّاشٍ بَذِيٍ»[1] .

في الزمن الماضي، كان الاهتمام بالمعرفة والثقافة ضمن مساحة محدودة في المجتمع؛ لسيادة الأمية وقلة المتعلمين، ولأنّ وسائل المعرفة لم تكن متاحة ولا متداولة، وأغلب الناس كانوا منشغلين بحياتهم المعيشية، حيث لا فائض وقت أو جهد لديهم يصرفونه في الثقافة والمعرفة.

أما في هذا الزمن فقد حصلت تطورات إيجابية، اتسعت بسببها رقعة المهتمين بأمور المعرفة والفكر، أصبح معظم الناس متعلمين، كما أنّ أدوات المعرفة أصبحت متوفرة بيد الناس، الكتاب، الصحافة، وسائل الإعلام، مواقع التواصل الاجتماعي، كلها وسائل متوفرة، وحتى الهاتف الجوال الذي بيد الإنسان، بإمكانه أن يتصل بكلّ مواقع الفكر والمعرفة في العالم، هكذا أصبحت الأدوات متوفرة في أيدي الناس.

من جهة أخرى، أصبحت حياة الناس منظمة، صار العمل له وقت معيّن، وأصبح عند الناس فائض من الوقت والجهد، يمكن أن يصرفوه في أمور المعرفة والثقافة، لذلك فالمهتمون بالمجال الثقافي أصبحوا شريحة واسعة في المجتمع.

في الماضي كان في كلّ منطقة شيخ أو خطيب هو مصدر المعرفة الدينية للمجتمع، ومعظم الناس كانوا أميين، ولم تكن وسائل المعرفة متوفرة، ولم يكن هناك هذا الاهتمام الثقافي الواسع، أما الآن فقد تغيّر الحال، وهو تغيّر إيجابي، وبناءً على ذلك أصبح الناس يُكوّنون آراءهم، ويجدون خيارات متعددة من الآراء والأفكار.

هذا كلّه يخلق أجواء من الاهتمام الثقافي والمعرفي، وينتج ـ بشكل طبيعي ـ تعدّدًا واختلافًا في الآراء، أصبح للشاب مجال أن يكوّن له رأيًا، وأتيحت الفرصة للمرأة أن تعبّر عن رأيها في المواقع الإلكترونية وسواها.  

بل إنّ العلماء تعددت مشاربهم وتوجهاتهم، وتطورت آراؤهم، وضاقت الفاصلة بين العلماء وبين   عامة الناس، وفي بعض الحالات لعلك تجد شابًّا يبحث موضوعًا دينيًّا ويكون ملمًّا به أكثر من عالم ديني. 

ذات مرة كنّا في مجلس أحد العلماء، وكان هناك نقاش حول موضوع فقهي، وشارك في النقاش شباب لم يدرسوا دراسة دينية في الحوزة، لكنهم كانوا يناقشون الموضوع بشكل علمي، نقاش مطّلع باحث، ترى الشاب منهم يستدلّ بقواعد أصولية ونصوص شرعية ويستشهد بآراء العلماء!

حين تختلف الآراء

هنا حيث تتعدد الآراء والتوجهات، تكون حالة الاختلاف والتباين في الآراء حالة طبيعية، لكن ما نحتاجه هو ضبط لغة الاختلاف، حتى تبقى في إطارها العلمي والأخلاقي، ولا تنزلق نحو التهريج والسباب والشتيمة، وتبادل الاتهامات، كما يحصل في بعض الأحيان مع الأسف الشديد!!

أن تعبّر عن رأيك هذا أمر مشروع، بل أمر مطلوب، ولكن عبّر عن رأيك بالأسلوب الصحيح المناسب، وليس بلغة السب والشتم والتجريح وإسقاط شخصيات الآخرين.

البعض من الناس ـ سواء في الوسط الديني أو عامة الشباب ـ يُستدرجون إلى لغة الشتم والسباب، وهي لغة مبغوضةٌ عند الله سبحانه وتعالى كما ورد عن علي : «إِنَّ اللهَ حَرَّمَ الْجَنَّةَ عَلَى كُلِّ فَحَّاشٍ بَذِيٍ»، أي يقول الفحش وهو الكلام الرديء القبيح الذي يتجاوز به على الآخرين. والبذاءة هي السّفه من القول.

وتجد حتى في مواسمنا الدينية التي يفترض فيها أن تكون مدرسة في الأخلاق والالتزام بالقيم، هناك من يريد تحويل هذه المواسم وكأنّها مواعيد للتهريج والخلافات، ففي كلّ عام في موسم عاشوراء أو قبله نكون على موعد مع إثارة الاختلافات حول الشعائر الحسينية، ويحصل تبادل اتهامات بين المختلفين!!

إنه لا مانع أن يكون هناك نقاش وتعدد آراء، لكن التجريح والاتهام في الدين والتخوين والتسقيط لا يتناسب مع حرمة المناسبة ولا يتناسب مع أخلاق الإنسان المؤمن!

ويحصل ذلك أيضًا في مناسبة وفاة الصديقة الزهراء ، بسبب الاختلاف حول بعض التفاصيل في مصيبة الزهراء ، وهي أمور تاريخية خاضعة للبحث، لكن تجد من يطلق عبارة (عدوّ الزهراء) على أخيه المؤمن؛ لأنه اختلف معه في قضية تاريخية جزئية!

هذه اللغة تخالف الدين، وتسبب الفتن والمشاكل الكبيرة، وتحدث انقسامات في المجتمع.

الدفاع عن الزهراء بما يغضبها

هؤلاء الأعزّاء الذين يظهرون الغيرة على الدين من منطلق الدفاع عن العقيدة، والدفاع عن الزهراء !

لكن، هل الدفاع عن العقيدة يكون بالأساليب التي تغضب الله وتغضب الزهراء؟!

هل تقبل الزهراء هذه التفرقة لشيعتها، وإثارة الشحناء والبغضاء بين محبيها، من أجل الكلام على قضية تفصيلية حول مصيبتها؟!

ألا يراجع هؤلاء الأعزّة الذين يتراشقون بالاتهامات والتجريح، النصوص الدينية والتعاليم الشرعية التي تنهى عن الفحش والسب والشتم؟!

هناك نصوص شرعية ثابتة تحرّم الفحش في القول، كما قال المرجع الراحل السيد الخوئي رحمه الله:

(لا خلاف بين المسلمين بل بين العقلاء في مبغوضيته ـ أي الفحش ـ وحرمته، وقد ورد في الروايات المتواترة أنّ البذاء والفحش على المؤمن حرام)[2] .    

وتحت باب (اللاعنف في القول) يرى السيد الشيرازي رحمه الله أنّ (العديد من الروايات أخذت تؤكد على مسألة اللين في القول، وعدم التهجّم على الآخرين عبر اللسان سواء أكان من خلال السباب والفحش أم بغيرهما من أساليب العنف باللسان)[3] .

وروي عن أبي عبدالله   قال: قال رسول الله : «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَبْعَدِكُمْ مِنِّي شَبَهاً؟ قَالُوا: بَلى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ : الْفَاحِشُ الْمُتَفَحِّشُ الْبَذِيءُ»[4] .

المتفحش هو الذي يتفنّن في الفحش، يتخيّر الجمل والعبارات القاسية التي يجرح بها مشاعر الآخرين، خاصة مع توفر مواقع التواصل الاجتماعي.

قال المجلسي في شرحه لهذا الحديث في مرآة العقول: (الفحش القول السيئ والكلام الرديء والتفحش كذلك مع زيادة تكلف وتصنع، والبذاء الفحش في القول)[5] .

وعن الإمام الصادق : «إنَّ الفُحشَ وَالبَذاءَ وَالسَّلاطَةَ مِنَ النِّفاقِ»[6] .

وعنه عن رسول الله : «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُحِبُّ الْفَاحِشَ وَلَا الْمُتَفَحِّشَ»[7] .

وعن أبي بصير عن الإمام الباقر   قال: قال رسول الله : «سِبابُ المؤمِنِ فُسوقٌ»[8] .

فمن الغريب حقًّا أن تجد بعض من ينتمون إلى الوسط الديني وبحجة الدفاع عن قضايا دينية يختلفون فيها مع إخوانهم ينزلقون إلى هذا المنزلق الخطير!!

التعزير عقوبة رادعة

إنّ عقاب هذا النوع من الذنوب لا يقتصر على العقاب الأخروي فقط، ففي الشريعة عقوبات فعلية على من يمارس هذا الأسلوب، حيث يعاقب من قبل الحاكم الشرعي، والفقهاء يبحثون في كتاب الحدود والتعزيرات نوعين من العقوبات:

الحد المعيّن.

التعزير، وهي العقوبة التي يقررها الحاكم الشرعي، وليست محددة شرعًا، لكن الحاكم أو القاضي يحدد العقوبة، سجنًا أو جلدًا أو غرامةً أو تشهيرًا أو نفيًا. 

ويبحث الفقهاء قذف الآخرين وسبّهم وشتمهم، وأنه يوجب التعزير، فالحاكم الشرعي يجلب هذا الشخص ويعزّره. 

في صحيحة عبد الرحمن ابن أبي عبدالله قال: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ   عَنْ رَجُلٍ سَبَّ رَجُلاً بِغَيْرِ قَذْفٍ يُعَرِّضُ بِهِ: هَلْ يُجْلَدُ؟ قَالَ: «عَلَيْهِ تَعْزِيرٌ»[9] .

وفي معتبرة إسحاق بن عمار عن أبي جعفر الباقر : «إنّ عليًّا كان يعزّر في الهجاء»[10] .   

وفي الجعفريات بسنده عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن علي : «مَنْ قَالَ لِأَخِيهِ المُسْلِمِ يَا فَاجِرُ، أَوْ يَا كَافِرُ، أَوْ يَا خَبِيثُ، أَوْ يَا فَاسِقُ، أَوْ يَا مُنَافِقُ، أَوْ يَا حِمَارُ، فَاضْرِبُوهُ تِسْعَةً وَثَلَاثِينَ سَوْطاً»[11] ، فلا يجوز للإنسان أن يجرح ويخوض في أعراض الناس لأنهم اختلفوا معه في رأي أو في مسألة!

فهناك حساب في الآخرة، وعقوبة في الدنيا، بل يبحث الفقهاء مسألة: من سبّ مجموعة من الناس، هل يجلد كما قال الإمام علي   تسعة وثلاثين جلدة مرة واحدة؟ أو يتعدد جلده بعددهم؟

فمثلًا إذا سبّ عشرين، أو مئة، أو مئتين، كيف يُعزّر؟

هناك رأيان[12] :

الأول: إذا جاء الجماعة واشتكوا مجتمعين فإنه يُعزّر مرة واحدة فقط. 

ولكن إذا جاء كلّ واحد بمفرده وقدم الشكوى عزّر بعددهم.

الثاني: يكون عليه التعزير عن كلّ واحد منهم سواء شكوا مجموعًا أو منفردين.

وهذا ما رجحه بعض العلماء، قال ابن ادريس الحلي: (والأولى عندي أن يُعزّر لكلّ واحد منهم فإنه قد آلمه)[13] .

ترشيد لغة الاختلاف

علينا أن نقف أمام هذه الظاهرة، وأن نبذل جهدًا لترشيد لغة الاختلاف، وإدانة أسلوب التجريح والتسقيط في الوسط الديني.

لا يصح أبدًا أن يكون هناك تبادل للسباب والشتيمة، وتسقيط الشخصيات!

رموز في المجتمع وعلماء وشخصيات ينال منهم لأنّ عندهم رأيًا!!

في المقابل هل يرضى من ينال من هذه الشخصيات أن يتعرّض الآخرون للشخصيات التي يحترمها؟!

ليس صحيحًا أن تكون ساحتنا الدينية ميدانًا لهذه اللغة الهابطة، وعلينا أن نسعى جميعًا ـ كلّ واحدٍ في حدود قدراته ـ لرفض هذه اللغة.

إذا سمعت أو قرأت لأحدٍ يمارس هذا النوع من التعامل عليك أن تعترض عليه بالأسلوب المناسب، فلا يصح أن تسود هذه اللغة الهابطة في مجتمع المتدينين، وفي المواسم الدينية، وفي نقاش القضايا الدينية التي يجب أن يتربى الإنسان من خلالها على القيم والأخلاق، فالتديّن ليس مجرد طقوس عبادية، بل يجب أن ينعكس على سيرة الإنسان وسلوكه وتعامله مع الآخرين.

وقد ورد في الحديث الشريف عنه : أنه قال: «المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ»[14] ، فإذا كان يجرح الناس بيده أو بلسانه فليس له إسلام حقيقي صادق. 

نسأل الله تعالى أن يوفّقنا للالتزام بمكارم الأخلاق.

* خطبة الجمعة بتاريخ 23 جمادي الأولى 1439هـ الموافق 9 فبراير 2018م.
[1]  الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص323، ح3.
[2]  السيد الخوئي: مصباح الفقاهة، ج1، ص702.
[3]  السيد محمد الشيرازي: اللاعنف في الإسلام، ص149.
[4]  الكافي، ج2، ص291، حديث 9.
[5]  العلامة المجلسي: مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج10، ص 79.
[6]  الحر العاملي: وسائل الشيعية، ج11، ص327، حديث 3.
[7]  المستدرك على الصحيحين، كِتَابُ الْفِتَنِ وَالْمَلَاحِمِ، حديث رقم 8710.
[8]  الكافي، ج2، ص360، حديث 2.
[9]  الكافي، ج7، ص240، حديث 3.
[10]  وسائل الشيعة، ج18، ص453، حديث 6.
[11]  المحدث النوري: مستدرك الوسائل، ج18، ص103، ح3.
[12]  يحيى الطائي، التعزير في الفقه الاسلامي، ص160.
[13]  ابن ادريس الحلي: كتاب السرائر، ج3، ص535.
[14]  صحيح البخاري، كتاب الإيمان، حديث 10.