اختلاق الأعذار

 

﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ[سورة التوبة، الآية: 65].

حين يقوم الإنسان بعملٍ غيرِ حَسن، أو يَتَفوّهُ بكلام غيرِ سَليم، فإنّ لفعله وقوله آثاراً وانعكاسات، فكلّ فعل يقوم به، وكلّ كلمة يتفوه بها، لا تذهب هباءً دون نتيجة وتأثير، لكن الإنسان ـ في كثير من الأحيان ـ لا يتوقع ردود الأفعال تجاه ما يقوم به من تصرف، فإذا وجدَ نفسه وجهاً لوجه أمام الآثار والنتائج يصاب بالاضطراب والارتباك؛ لأنه كان يتصور أنّ الأمور تمرّ دون حساب!

لكن الواقع يقول غير ذلك، فلكلّ فعل وقول نتائجه الطبيعية، والنتائج والآثار تارة تكون عاجلة، وأخرى تكون آجلة، وأحيانًا تكون واضحة أمام الإنسان بينما قد لا ينتبه لها في أحيان أخرى.

توقع نتائج الأعمال

والسؤال: لماذا يقوم الإنسان بأعمال دون أن يتوقع نتائجها أو يتصور آثارها؟!

إنّ ذلك ينتج عن ضعف الشعور بالجدية والمسؤولية، والنظر إلى الأمور بلا مبالاة واهتمام، بينما الدين يربي الإنسان على التعامل بجدية ومسؤولية، ويذكّر الإنسان ويفهّمه أنّ كلّ قول من أقواله وكلّ عمل من أعماله كبيرًا كان أو صغيرًا لا يغُفل، بل يُرصد ويُحسب، ويحاسب عليه، يقول الله تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [سورة الزلزلة، الآيتان: 7-8].

وعلى المؤمن أن يأخذ هذه الحقيقة بعين الاعتبار، فليس هناك تصرف دون انعكاس وأثر، والقرآن الكريم يتحدث عن الآخرة ويصف حال المجرمين وهم ينظرون إلى صحائف أعمالهم، يقول الله تعالى: ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا[سورة الكهف، الآية: 49].

هكذا يربّي الدين الإنسان على عدم الاستهانة بأيّ قول أو عمل، يقول الله تعالى: ﴿إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ[سورة ق ، الآية:17-18].

لكنّ الإنسان يغفل، وتغيب عنه هذه الحقيقة، وفي بعض الأحيان يتوقع نتائج عمله وآثار تصرفاته، لكنه يتساهل، بل إنّ البعض تبلغه النصيحة ويصله التحذير ممن حوله، لكنه يتساهل بالنتائج!

وذلك بسبب حالة الحماس التي يعيشها، أو غمرة الاندفاع التي يكون فيها، أو تحت ضغط الشهوة والرغبة، فلا يتحكم في رغباته وانفعالاته، حتى إذا وقع في المحذور، ووجد نفسه أمام نتائج عمله وآثار تصرفاته، حينئذ يتحرك اللوم في داخله، يحاسب نفسه: لماذا قلت هذا الكلام؟!، لماذا قمت بهذا العمل؟!

وهي النفس اللوامة، يقول الله تعالى: ﴿وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ هذا من داخل نفسه، وخارجيًّا يتعرض إلى عقوبة المجتمع أو السلطة، فيجد نفسه وقد تلبس بانعكاسات عمله!

التبرير بعدم القصد

هنا يحاول أن يبرر عمله، يسعى لاختلاق الأعذار، من أجل أن يخدع نفسه، ويضلل الآخرين، يقول الله تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ [سورة التوبة، الآية: 65].

هذه الآية الكريمة تتناول لونًا من ألوان التبرير التي يلجأ إليها الإنسان لتمرير أخطائه، وهو (عدم القصد) يقول: لم أكن أقصد، إنما كنت أمزح وأتسلى!!

لكن هل ينفعه هذا التبرير؟!

بالطبع لا ينفع ذلك!

أولًا: لأنه يعرف من داخل نفسه أنه أخطأ، وهو يقصد الخطأ، ويدرك الحقيقة، كما تقول الآية الكريمة ﴿بَلِ الإنسان عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ لكنه كان متساهلًا، فداخليًّا المعالجة النفسية لن تنفعه، بل سيبقى يلوم نفسه.

ثانيًا: إنّ الله سبحانه مطلع على النيات، كما يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ، ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ، ﴿إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ، ﴿وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ.

ثالثًا: لا يستطيع الإنسان استغفال كلّ الناس دائمًا.

الآية الكريمة: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ تتحدث عن جماعة من المنافقين في عهد رسول الله كانوا يقولون كلامًا سيئًا، يثبط عزائم الناس، خاصة في الحروب والغزوات.

ورد في السيرة «بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَبَيْنَ يَدَيْهِ نَاسٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، إِذْ قَالُوا: يَرْجُو هَذَا الرَّجُلُ أَنْ يَفْتَحَ قُصُورَ الشَّامِ وَحُصُونَهَا! هَيْهَاتَ لَهُ ذَلِكَ، فَأَطْلَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ: «احْبِسُوا عَلَيَّ الرَّكْبَ» فَأَتَاهُمْ فَقَالَ: «قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟» فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ»[1] .

والخوض: هو الدخول في الماء مشيًا دون سباحة، واستعير لما فيه كلفة وعَنَت.

واللعب: في الأصل حركة الطفل للتسلية، ولذلك قالوا إنه مشتق من اللعاب، وهو ريق الصبي السائل.

الآية الكريمة تريد أن تقدم لنا درسًا، وكأنّها تخاطب الإنسان: لا تخدع نفسك وتبرّر تصرفاتك بأنه مزاح، فذلك لا يحميك من نتائج أفعالك السيئة.

نماذج من الإساءات اللفظية

في واقعنا الاجتماعي يمكننا أن نرصد بعض النماذج على ضوء الدرس المستوحى من الآية الكريمة:

النموذج الأول: تناول القضايا الدينية والاجتماعية تناولًا غير مسؤول، عبر أساليب السخرية الاستهزاء والاستفزاز.

بالطبع إنّ اختلاف الرأي وارد مقبول، سواء حول موضوع ديني أو اجتماعي أو سياسي، وللإنسان حقّ التعبير عن رأيه، لكن استخدام أسلوب الاستفزاز والسخرية واللعب بمشاعر الآخرين وكرامتهم وأحاسيسهم أمر مرفوض.

البعض يستهين بهذا الأمر، ويتناول القضايا الدينية والاجتماعية بأسلوب الاستهزاء والسخرية، فإذا وقع تحت طائلة المحاسبة، يسعى للتنصل، بقول (لم أقصد الإساءة)، والحقيقة أنّ كلّ كلمة تؤدي معنى، يفهمه الناس ويأخذ تأثيره في المجتمع، وأغلب من يتحدثون بأسلوب الاستهزاء قاصدون ذلك، لكن الإنسان ـ غالبًا ـ يتهرّب من نتائج عمله!

لا يصح للإنسان أن يناول قضايا خطيرة بأسلوب هازئ استفزازي ﴿قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ.

من مشاكلنا اليوم في الساحة الثقافية الدينية أسلوب التعبير عن الرأي أو مخالفة الرأي الآخر، من يعتبر نفسه محافظًا مدافعًا عن الدين والتشيع يطرح رأيه بأسلوب متشنج، ومن يعتبر نفسه إصلاحيًّا ناقدًا يستخدم أسلوبًا مستفزًّا، وهذا ما يخلق أجواء سلبية، تؤدي إلى نتائج خطيرة على الفرد والمجتمع.

من يريد أن يوجه ويصلح المجتمع، ويصحح الثقافة السائدة عليه أن يراعي أسلوب الطرح، ويتخيّر أرقى العبارات المهذبة، سواء في عرض الفكرة أو نقد المختلفين معه في الرأي.

النموذج الثاني: تناول سمعة الناس وأعراضهم.

أتاحت مواقع التواصل الاجتماعي للإنسان أن يعرض أفكاره، ويعبّر عن رأيه في مختلف القضايا والأحداث، لكن البعض ـ مع شديد الأسف ـ استغلّ ذلك في الإساءة والتشهير بالآخرين!!

في كثير من الأحيان تمرّ مثل هذه الإساءات دون حساب، وهي عند الله مرصودة، لكن بعض المستهترين بسمعة الناس وأعراضهم يتمادى في سلوكه، حتى إذا ما وقع تحت طائلة المحاسبة، سعى للتنصل والتخلص من تبعات تصرفه، بمختلف المبررات، فيقول: (لم أكن أقصد الإساءة)، أو (كنت مازحًا)!!

وهي مبررات غير مناسبة، لا تنفع صاحبها عند المحاسبة.

معظم دول العالم اليوم لديها قوانين وأنظمة للجرائم الإلكترونية، فمن يشهر بالآخرين ويسيء إلى سمعتهم ويسبب لهم الضرر، إذا رفعت ضده شكوى وثبت عليه الجرم، يتعرض للعقوبة، سواء بالسجن أو الغرامة المالية.

الغالب في مجتمعاتنا أنّ صاحب الحقّ يتجاوز عن حقه، فلا تأخذ مثل هذه الاساءات طريقها إلى الشكوى والقضاء، وفي حالات محدودة حينما ترفع الشكوى، ويرى المعتدي أنّ المسألة جادة ويتوقع العقوبة، يبحث عمّن ينقذه من ورطته التي أوقع نفسه فيها!!

لماذا توقع نفسك في هذا الخطاء؟!

لماذا تشهر بأعراض الناس، وتشوه سمعتهم؟!

النموذج الثالث: الاسترسال العاطفي الذي يجرّ إلى الرذيلة.

كثيرًا ما تبدأ المحادثات بين الجنسين بحالة التسلية وقضاء وقت الفراغ، ثم ما تلبث أن تتطور، لذلك يقول القرآن الكريم: ﴿لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ، وهي سياسة وأسلوب (الخطوة خطوة)، الخطوة الأولى هي التسلية، ثم تصل إلى التعلق القلبي، وهكذا يستمتع كلٌّ من الشاب والشابة بحالة التواصل، حتى يقودهم ذلك إلى نتائج كارثية!

كم من الفتيات والشباب أوقعوا أنفسهم في مآزق، بسبب الاسترسال وعدم تحمل المسؤولية؟!!

النموذج الرابع: المزاح بين الأصدقاء.

من الجميل أن يكون الإنسان هشًّا مرحًا، يسهم بكلماته اللطيفة في خلق أجواء الألفة والمودة، وهناك نصوص وأحاديث تشجع الإنسان المؤمن أن يداعب إخوانه المؤمنين، عن النبي  : «إِنِّي لأَمْزَحُ وَلا أَقُولُ إِلا حَقًّا»[2] ، وعن الإمام الصادق قَالَ: «مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلاَّ وَفِيهِ دُعَابَةٌ». قُلْتُ: وَمَا الدُّعَابَةُ؟ قَالَ: «الْمِزَاحُ»[3] .

وعنه : «الْمُدَاعَبَةَ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ، وَإِنَّكَ لَتُدْخِلُ بِهَا السُّرُورَ عَلى أَخِيكَ، وَلَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللهِ يُدَاعِبُ الرَّجُلَ يُرِيدُ أَنْ يَسُرَّهُ»[4] .

فأصل المزاح مستحب، لكن المشكلة أن البعض يتجاوز الحدود، ويستهين بكرامة الآخر وحقوقه بحجة المزاح!!

الإمام الباقر فيما روى عنه يقول: «إِنَّ اللهَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ يُحِبُّ الْمُدَاعِبَ فِي الْجَمَاعَةِ بِلَا رَفَثٍ»[5]  أي لا يقول كلامًا  فاحشًا فيه تجاوز، وكم من المشاكل والعداوات تحدث بين الإخوان والأصدقاء بسبب مزحة مفرطة، لذلك ورد عن علي أنه قال: «المِزاحُ يورِثُ الضَّغائِنَ»[6] ، لا يقصد هنا أصل المزاح، بل يقصد المزاح المتجاوز لحدوده، وعنه يفسر الكلمة التي قبلها: «الإفْراطُ فِي المَزْحِ خُرْقٌ»[7]  فعلى الإنسان ألّا يضيع حقوق إخوانه معتمدًا على مبرر المزاح؛ لأنّ المزاح له حدود و ضوابط، ورد عن رسول الله أنه قال: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ فِي الْمَجْلِسِ، لِيُضْحِكَهُمْ بِهَا، فَيُهْوَى فِي جَهَنَّمَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَ الْأَرْضِ»[8] ، يأتي بنكتة فيها تجريح للآخرين، ونيل من شخصياتهم، من أجل أن يضحك الناس، لكن يهوي في جهنم ما بين السماء والأرض!!

على الإنسان أن يكون حذرًا، وألّا يعتمد على تبرير (نخوض ونلعب)، فهو لون من ألوان التبرير المرفوض عقلًا وشرعًا، وألّا يتكئ على اختلاق الأعذار والتبريرات، بل يحاول اجتناب الإضرار بالآخرين، فإذا وقع في الخطأ يعترف بخطئه أمام نفسه وأمام الآخرين، ويتحمل النتائج، ويقرّر الإقلاع عن الخطأ.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإيّاكم للأخذ بمكارم الأخلاق ويسددنا للصواب في أقوالنا وأفعالنا.

* خطبة الجمعة بتاريخ 14 جمادي الآخرة 1439هـ الموافق 2 مارس 2018م.
[1]  أسباب النزول للواحدي 1/ 250.
[2]  الطبرسي: مكارم الأخلاق، ص 21.
[3]  الشيخ الكليني: الكافي، ج2، ص 663، ح 2.
[4]  المصدر نفسه، ح 3.
[5]  المصدر نفسه، ح 4.
[6]  عليّ بن محمد الليثي الواسطي: عيون الحكم والمواعظ، ص68.
[7]  المصدر، ص 29.
[8]  الحر العاملي: وسائل الشيعة - ط الإسلامية، ج 8، ص 577.