عقلية التحريم والتنفير من الدين

 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ[سورة  المائدة، الآية: 87].

خلق الله تعالى الإنسان في هذا الكون ليستمتع بنعم ربه، وبالخيرات التي وضعها الله تعالى تحت تصرفه، هذا الكون مملوء بالخيرات والثروات، وكلها موضوعة تحت تصرف الإنسان، حتى يستفيد منها، ويستمتع بها، ويعمر الكون من خلالها، يقول الله تعالى: ﴿لَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً.

لقد سخّر الله للإنسان كلّ ما في هذه الحياة، كما منحه عقلًا يتمكن به من اكتشاف ثروات الكون واستثمارها، والاستفادة منها، من خلال قدراته العقلية، وفي الوقت ذاته أودع الله تعالى في نفس الإنسان   غرائز وشهوات، تدفعه إلى الاستمتاع بخيرات هذا الكون، ولولا وجود الغرائز والشهوات لم ينطلق الإنسان في رحاب هذا الكون، مفتشًا عن ثرواته وكنوزه، وموظفًا معادلاته وقوانينه لمصلحته.

حدود التصرف والاختيار

من جهة أخرى، منح الله تعالى للإنسان حرية الاختيار والتصرف، ثم جعل له حدودًا توصله إلى حالة التوازن:

الحد الأول: الحلال والحرام.

فتح الله للإنسان المجال للاستفادة من كلّ ما في الكون، ثم حذّره مما يضرّه، كما تقول الآية الكريمة: ﴿...يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ، حرم الله على الإنسان ما يضرّه، سوء كان ضررًا ماديًّا أو معنويًّا، دنيويًّا أو أخرويًّا.

الحد الثاني: ألا تكون استفادة الإنسان من خيرات الحياة واستمتاعه بها على حساب الآخرين.

هناك شركاء معك من سائر بني البشر، فينبغي أن يكون استمتاعك واستفادتك مما في الكون في حدود مراعاة حقوق الآخرين ومصلحتهم.

الحد الثالث: التوازن في الاستمتاع بخيرات الكون.

عند استفادتك مما في الكون ينبغي أن تكون متوازنًا، في حدود الاعتدال، لا تتعدّى الحدود المعقولة، فإنّ ذلك يسبب لك الضرر.

أصالة الحلية والإباحة

هذه الحدود الثلاثة تشكل فلسفة المحرمات في الإسلام، لكن الأصل هو أنّ الإنسان مطلق الحرية في أن يستفيد مما في الكون، ويتفاعل مع ما في الحياة، والأشياء المحرمة محدودة، فالأصل هو الحلية والإباحة، والحرام استثناء، ونسبة الحرام إلى الحلال نسبة محدودة جدًّا.

وحين يتحدث القرآن الكريم عن قصة أبينا آدم، يعطينا مثلًا واضحًا:

﴿وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ[سورة البقرة، الآية: 35]، فالمحظور عليه كان شجرة واحدة فقط.

لذلك لدينا قاعدة فقهية يعتمدها الفقهاء في مختلف أبواب الفقه، «كُلُّ شَيْ‌ءٍ هُوَ لَكَ حَلَالٌ حَتّى تَعْلَمَ أَنَّهُ حَرَامٌ بِعَيْنِهِ»[1] ، وهي منتزعة من رواية عن الإمام الصادق ، ومثلها عنه : «كُلُّ شَيْ‌ءٍ يَكُونُ فِيهِ حَلَالٌ وَحَرَامٌ، فَهُوَ حَلَالٌ لَكَ أَبَداً حَتّى تَعْرِفَ الْحَرَامَ مِنْهُ بِعَيْنِهِ، فَتَدَعَهُ»[2] ، فالمحرمات ليست هي الأصل في سلوك الإنسان، بل يرغب الإسلام في ممارسة الحياة بحرية وانطلاق، ويريد الله من الإنسان أن يمارس حياته بحرية، ويستمتع بما في الكون من خيرات وثروات ومباهج، فقد خلقه الله ليكون سيدًا في هذا الكون، ورد عن رسول الله أنه قال: «إنّ اللهَ عَزَّ وجلَّ إذا أنعَمَ على عَبدٍ نِعمَةً أحَبَّ أن يَرى علَيهِ أثَرَها»[3] .

وعن الإمام الصادق : «إِذَا أَنْعَمَ اللهُ عَلى عَبْدٍ بِنِعْمَةٍ، أَحَبَّ أَنْ يَرَاهَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ»[4] ، لكنّ بعض المنتسبين للأديان تصوروا أنّ الله يحبّ من عباده العزوف عن ملذات الحياة، وهو تصور خطأ، ويمكن تشبيه ذلك برجل دعا ضيفًا إلى منزله، وقدم له صنوف الأطعمة، ثم قال له: لا أرغب أن تأكل منها؟!

تحريم التنعم

هذا التصور كان موجودًا لدى بعض الديانات قبل الإسلام، حيث يرون أنّ التقرب إلى الله يكمن في تقليص استمتاع الإنسان بالحياة، حتى قالوا إنّ علاقة سمو الروح مع نعيم الجسد علاقة عكسية، فكلّما أتعب الجسم تسمو الروح!!

وجاء الإسلام ليخلّص الإنسان من هذه التصورات الخطأ، يقول الله تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ[سورة الأعراف، الآيتان: 31-32].

وفي هذا السياق تأتي الآية الكريمة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ.

يقول العلماء: إنّ هذا التحريم مرفوض، سواء كان تشريعيًّا، بأن يدّعي الإنسان حرمة شيء شرعًا، أو كان عمليًّا، بأن يعزف الإنسان عن الأشياء الحلال باعتقاد أنّ هذا يقربه إلى الله.

بعض المفسرين يرون أن معنى: ﴿وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ أي (لا تعتدوا على الحرام، خذوا بالحلال)، وقال آخرون: (لا تعتدوا بالتحريم)، أي بتحريم تلك المحللات، وهو القول الراجح.

جاء في سبب نزول هذه الآية روايات عدة بمفاد واحد، منها ما ورد أنه جلس رسول الله يومًا فذكّر الناس ـ ووصف القيامة فرق الناس وبكوا، واجتمع عشرة من الصحابة في بيت عثمان بن مظعون الجمحي، واتفقوا على أن يصوموا النهار، ويقوموا الليل، ولا يناموا على الفرش، ولا يأكلوا اللحم ولا الودك، ولا يقربوا النساء والطيب

فقال لهم رسول الله : ألم أنبئكم أنكم اتفقتم على كذا وكذا؟

قالوا: بلى يا رسول الله، وما أردنا إلا الخير، فقال رسول الله : إني لم أومر بذلك، ثم قال: إنّ لأنفسكم عليكم حقًّا فصوموا وأفطروا، وقوموا وناموا فإنّي أقوم وأنام وأصوم وأفطر ـ وآكل اللحم والدسم وآتي النساء، ومن رغب عن سنتي فليس مني.

ثم جمع الناس وخطبهم وقال : ما بال أقوام حرّموا النساء والطعام والطيب والنوم وشهوات الدنيا، أما إنّي لست آمركم أن تكونوا قسيسين ورهبانًا، فإنه ليس في ديني ترك اللحم، ولا النساء ولا اتخاذ الصوامع، وإنّ سياحة أمتي الصوم، ورهبانيتهم الجهاد، اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وحجّوا، واعتمروا، وأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وصوموا رمضان، واستقيموا يستقم لكم، فإنّما هلك من كان قبلكم بالتشديد، شدّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم، فأولئك بقاياهم في الديارات والصوامع، فأنزل الله الآية ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ[سورة المائدة، الآية: 87] [5] .

تجريم التحريم بلا دليل:

أولًا: لأنه ادّعاء على الله

ذلك أنّ معنى قول (هذا حرام)، افتراء على الله إذا لم يكن للقائل دليل وحجة.

والتحريم بلا دليل تعدٍّ على سلطان الله، كما تقول الآية الشريفة: ﴿وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [سورة الأنعام، الآية: 140].

ثانيًا: تحريم ما لم يحرّمه الله كبت للنفس

يروي الشريف الرضي في نهج البلاغة أنّ الإمام عليًّا دخل على العلاء بن زياد الحارثي يعوده،

فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَشْكُو إِلَيْكَ أَخِي عَاصِمَ بْنَ زِيَادٍ.

قَالَ: وَمَا لَهُ؟

قَالَ: لَبِسَ الْعَبَاءَةَ وَتَخَلَّى عَنِ الدُّنْيَا!

قَالَ: عَلَيَّ بِهِ.

فَلَمَّا جَاءَ قَالَ: «يَا عُدَيَّ نَفْسِهِ، لَقَدِ اسْتَهَامَ بِكَ الْخَبِيثُ، أَمَا رَحِمْتَ أَهْلَكَ وَوَلَدَكَ؟

أَتَرَى اللهَ أَحَلَّ لَكَ الطَّيِّبَاتِ وَهُوَ يَكْرَهُ أَنْ تَأْخُذَهَا؟!»[6] .

ثالثًا: تنفير الناس من الدين

الإنسان يريد أن ينطلق مع حريته ورغباته، وكلّما فُرضت على الإنسان قيودٌ، دفعه ذلك إلى التمرد والعصيان، لذلك جعل الله المحرمات محدودة، وجعل الأصل هو الحلال.

لكنّ بعض الأوساط الدينية استقرّ في نهجها وتفكيرها فهم يجعل الأصل هو التحريم!!

وهذا ما يسبب نفور الناس من الدين، خاصة في هذا العصر الذي ازدادت فيه ثقة الإنسان بنفسه، واطلع على ثروات الكون، وطور وسائل الاستمتاع بالحياة، وقد انفتح المتديّنون على المجتمعات الأخرى، ورأوا كيف أنهم مبتهجون في حياتهم، مما أثار عندهم التساؤل عن حقيقة جملة من المحرمات! لكن بعض المتصدّين للشأن الديني يبالغون في التحريم، فبعض الأمور يكون الدليل على حرمتها ليس صريحًا لكنهم يتكلفون التحريم!

وفي حالات أخرى يقولون: إنّ التحريم هنا من باب (سد الذرائع)، فحتى لو كان العمل في أصله محلّلًا إلا أنه يؤدي إلى الحرام، فالأولى تحريمه!

و(الذريعة) تعني الوسيلة إلى الشيء، أي طريق إلى الحرام، ومن خلال هذه القاعدة والمبالغة في استخدامها حرّموا كثيرًا من الأشياء المحللة!

نعم.. إذا كانت الوسيلة تفضي حتمًا إلى الحرام، أو كانت الوسيلة منصوصًا عليها بالتحريم فهنا يمكن التحريم، أما إذا كانت الوسيلة قابلة للحلال والحرام، كاستعمال السكين مثلًا، يمكن استخدامها في الاعتداء على الناس، كما يمكن استخدامها في أشياء محللة، فهل يصح تحريم استخدامها على الناس سدًّا للذرائع؟!

التحريم والمعارك الفاشلة

بعقلية التحريم خاض المتديّنون في هذا العصر كثيرًا من المعارك الفاشلة، فقد حرّموا وسائل وبرامج جديدة؛ لأنّها لم تكن متداولة فيما مضى، باعتقادهم أنها تفضي إلى الحرام، لكنها فيما بعد فرضت نفسها على الناس والحياة، ويمكننا أن نستذكر قائمة طويلة من المحرمات في بداية وصولها إلى المجتمع، منها: التلفزيون، والمذياع، والتصوير الفوتوغرافي، وركوب الدراجة الهوائية، وتعليم البنات، وطبع القرآن الكريم في المطابع، والتلفون، حتى إنّ بعض المؤمنين المتدينين جاؤوني مع بداية إيصال خطوط الهاتف إلى منطقتنا، وطلبوا مني التدخل لمنع إيصال هذه الخدمة، لما فيها من مشاكل محتملة، كحديث الرجال مع النساء وما يستتبع ذلك من مفاسد!

لكننا نجد اليوم أنّ كلّ تلك المحرمات أصبحت واقعًا يعيشه الناس بشكل طبيعي، يرون فيها وسائل ضرورية لتسيير أمور حياتهم، ولا يمكن فهم جهة لتحريمها!

إنّ المبالغة في التحريم يعطي صورة مشوهه عن الدين، وكأنه عُقدٌ وتقييد لحركة الإنسان، لذلك نجد الآية الكريمة واضحة صريحة، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ.

ولعلّ البعض يقول: إنّ منع التحريم خاص بالطيبات كما في الآية، لكن ذلك وصف بياني، أي إنّ الله لا يحلّ إلّا الطيبات.

فينبغي للمتديّنين وخصوصًا المتصدّين للشأن الديني إعادة النظر في هذا الموضوع، فإنّ هذا التشدد أفقد ديننا سمعته المشرقة وأنه (الشريعة السمحاء) ونفّر أبناءنا من دينهم.

نسأل الله أن يوفّقنا وإيّاكم للالتزام بأحكام دينه كما أنزلها، إنه سميع مجيب.

* خطبة الجمعة بتاريخ 28 جمادي الآخرة 1439هـ الموافق 16 مارس 2018م.
[1]  الشيخ الكليني: الكافي، ج5، ص 313، ح 41.
[2]  المصدر نفسه، ح 40.
[3]  الشيخ الطوسى: الأمالى، ص 275.
[4]  الحر العاملي: وسائل الشيعة، ج3، ص 340، باب 1: استحباب التجمل والتباؤس، حديث 3.
[5]  الشيخ الطبرسي: مجمع البيان في تفسير القرآن، ج، ص 404.
[6]  نهج البلاغة، خطبة رقم 209، ومن كلام له بالبصرة ـ وقد دخل على العلاء بن زياد الحارثي.