التهيؤ لموسم عاشوراء

 

في رواية عن الإمام جعفر الصادق أنه قَالَ لِفُضَيْلِ بْنِ يَسَارٍ: «تَجلِسونَ وتُحَدِّثونَ؟

قالَ: نَعَم جُعِلتُ فِداكَ.

قالَ: إنَّ تلكَ الَمجالِسَ أحِبُّها، فأحْيوا أمْرَنا يا فُضيل، رَحِمَ اللهُ مَنْ‌ أَحْيَا أَمْرَنَا»[1] .

موسم عاشوراء، وذكرى سيّد الشهداء الحسين بن علي ، موسم ديني ثقافي اجتماعي مميّز، وقد دعانا إلى إحياء هذا الموسم أئمتنا حسب الروايات الواردة عنهم، إنهم دعونا إلى إحياء أمرهم، كما دعونا إلى أن نتلاقى ونجتمع مع بَعضنَا ونتذاكر أمر أهل البيت وسيرتهم ومعاناتهم، التي تحمّلوها من أجل الله وفِي سبيل الله، وهذا الأحياء من مصاديق المودة في القربى، حيث أمرنا الله بذلك، يقول تعالى: ﴿قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ.

المشاركة في إحياء عاشوراء

المشاركة في إحياء هذه المناسبة العظيمة شرف يؤهّل الإنسان للأجر والثواب، وعلى كلّ واحد أن يستثمر هذه الفرصة، ببذل ما يستطيع من فكره وماله ووقته وجهده، فلا يكون متفرجًا مستهلكًا، بل يكون مشاركًا، كلّ إنسان ـ رجلًا كان أو امرأة كبيرًا كان أو صغيرًا ـ عليه أن يسعى للقيام بدور في إحياء هذه المناسبة العظيمة.

يتميّز إحياء عاشوراء بأنه نشاط أهلي تطوعي، لا تنظمه الحكومات، بل يعتمد على الناس بمختلف طبقاتهم، والموفق من يستثمر هذه المناسبة بالمشاركة، والقيام بدور في هذا الإحياء الجماهيري الكبير.

إنّ الحضور في المجالس والمواكب العزائية هو من أهم مظاهر المشاركة؛ لأنه تعزيز لهذه البرامج، واستفادة من أجواء هذه المجالس الروحية الإرشادية الاجتماعية.

المشاركة بالرأي

لأنّ المناسبة عامة تهمّ الجميع، وفائدتها تعود على الجميع، فمن حقّ المشاركين أن يطرحوا آراءهم، ويطوروا أساليب إحياء المناسبة بمختلف الوسائل المتاحة المقبولة، فالمناسبة ليست حكرًا على أحد، واختلاف وتنوع الوسائل أمر مشروع، كما هو الاجتهاد على المستوى الفقهي.

وهنا لا بُدّ من التذكير بضرورة أن يكون الطرح علميًّا موضوعيًّا، بعيدًا عن التشنج والتحسّس، ففي كلّ عام ومع حلول هذه المناسبة نجد من يتحدث ويكتب بحالة من التشنج!!

بإمكانك أن تطرح رأيك واقتراحك وملاحظتك، ولكن ليس من خلال اتهام الآخرين أو التشكيك في نياتهم، فالحسين للجميع، ولا يجوز للإنسان أن يزكيَ نفسه، فيرى أنه هو المخلص للشعائر الحسينية وغيره ضد الشعائر، يقول تعالى: ﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ.

كلّنا أبناء مدرسة واحدة، يجمعنا الحسين ، قد تختلف الآراء أو الوسائل والبرامج، لكنها في إطار خدمة قضية واحدة.

لا نريد أن تكون هذه المناسبة مجالًا للتشنجات والانفعالات، والتعبئة من كلّ طرف ضد الآخر، فمن لديه رأي ضمن الضوابط والأطر الشرعية القائمة، التي تسمح باختلاف الآراء الفقهية، وتسمح باختلاف الآراء الثقافية، فهذا لا إشكال فيه.

تطوير الأساليب ومجالات الإبداع

نحن بحاجة إلى تشجيع الإبداع والأطروحات الجديدة، فهذه المناسبة ينبغي أن تتجدد فيها الوسائل بما يتناسب مع تطور العصر، ومن كان يريد الاستمرار في الوسائل التقليدية القائمة فمن حقّه ذلك، لكن عليه ألّا يمنع الآخرين من التطوير والابتكار.

من طبيعة الإبداع والتطوير أن يشجع أكبر شريحة من المجتمع على التفاعل، وقد أبدع بعض الشباب من خلال  الفنون المتعددة، كالرسم والمسرح، وشارك كثير من  الأولاد و البنات ممن لديهم هذه المواهب، وعبروا عن تفاعلهم، كما أبدع بعض الشباب من خلال إقامة (الأوبريت)، وكان لفكرة (مضيف الكتب) أصداء طيبة، حيث بدأ مجموعة من الشباب فكرة توزيع الكتب إلى جانب مضائف الإطعام، فكلّ من لديه كتب زائدة عن حاجته، أو يرغب في توزيع الكتب على جمهور المعزين، يتمكن من المشاركة عبر هذه الفكرة الإبداعية، التي تسهم في نشر الوعي والثقافة، وهكذا نجد أنّ المجال مفتوح والآفاق واسعة لمختلف الأفكار والبرامج.

ومن البرامج النافعة جدًّا للمجتمع برنامج التبرع بالدم الذي يسهم في سدّ نقص بنوك الدم.

هذه البرامج تسهم في إحياء المناسبة، وتتيح الفرصة لأكبر شريحة من المجتمع للمشاركة، فهي فرصه لتوعية الناس وتثقيفهم وإفساح المجال لمشاركتهم.

ملاحظة الجانب الأمني

لا تزال بلادنا ومجتمعاتنا مستهدفة من قبل الفئات المتطرفة المتشددة الإرهابية، مما يستوجب التأكيد على اليقظة والحذر، والتعاون مع الأجهزة الأمنية الرسمية، من أجل حماية المواكب، وتجمعات العزاء في مختلف ساحاتها، لتقام هذه المناسبة على خير وجه، محاطة بالأمن والأمان.

مراعاة الأحكام الشرعية

اجتماعات عاشوراء ذات طابع ديني، تنطلق من أهداف ومنطلقات دينية، فلا بُدّ من التقيد بالأحكام الشرعية، فـ (لا يطاع الله من حيث يعصى)، ومراعاة الأخلاق والآداب الدينية في التجمعات والاجتماعات.

حينما نقرأ في كتب الفقه والحديث عن أحكام المساجد وآدابها، وأحكام صلاة الجماعة وآدابها، علينا أن نستوحي من هذه الأحكام والآداب ما يستهدفه الدين، وما يريده لهذه التجمعات من أجواء وآداب.

فعلى سبيل المثال يحرص الشرع على نظافة المسجد وطهارته من النجاسات، ومن المستحب إزالة الأوساخ والغبار، وهناك روايات حول كنس المساجد وتنظيفها، كما أنّ على المصلي أن يتطهر ويتنظف ويلبس الثياب المناسبة ويتطيب، وألّا يكون قد أكل طعامًا فيه رائحة تؤذي الآخرين كالثوم والبصل.

هذه الأحكام التي نقرؤها في أحكام المساجد، وصلاة الجماعة، نستوحي منها آداب المشاركة في أيّ تجمع واجتماع، من العناية بالنظافة الشخصية والمكانية، ومراعاة مشاعر الآخرين.

وَرَدَ فِي الحَدِيثِ أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَرَسُولُ اللهِ يَخْطُبُ، فَجَعَلَ يَتَخَطَّى النَّاسَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «اجْلِسْ فَقَدْ آذَيْتَ وَآنَيْتَ»[2] ، ولذلك يكره تخطّي الرقاب في المسجد.

وهناك روايات حول الذهاب للمسجد بسكينة ووقار، وأحكام وقوف الإمام والمأمومين خلفه، واعتدال الصفوف، وسدّ الفُرَج، ومن المكروه أن يبدأ المأموم صفًّا جديدًا مع وجود مكان في الصفوف السابقة، وإذا لم يجد له مكانًا يستحب له أن يبدأ بحذاء الإمام، فلا يقف أقصى اليمين ولا أقصى اليسار، وإنّما في الوسط.

هكذا يريد الإسلام أن يحافظ الناس في اجتماعاتهم على النظام والانضباط، ومراعاة حقوق بعضهم بعضًا.

فالروايات والأحكام تعطينا هذه الروح في مجالسنا ومواكبنا واجتماعاتنا.

آداب المجالس الحسينية

أحكام المساجد وصلاة الجماعة وآدابها نموذج لما يريده الإسلام لكلّ تجمّع واجتماع، يمكن تطبيقها والسير على منوالها في الحسينيات وساحات العزاء، من المحافظة على نظافة المكان، وآداب الدخول والخروج، ووضع الحذاء، ومراعاة الآخرين واحترام مشاعرهم، واختيار مكان الجلوس بما يتيح مجالًا للقادمين.

من جهة أخرى ينبغي تذكير أصحاب المجالس بضرورة مراعاة الانضباط في الوقت، وعدم اختيار أوقات متأخرة من الليل، حتى لا تكون المجالس الحسينية سببًا في إزعاج الناس، أو تأخيرهم عن أعمالهم، وتأخير الطلاب عن مدارسهم، وكذلك ضبط مكبرات الصوت، حيث ينبغي مراعاة ظروف الجيران، صحيح أنه وقت استثنائي، ومناسبة خاصة في السنة، لكن إذا تسبب رفع صوت المكبر في أذى الجيران فإنّ ذلك محرم شرعًا!

إنّ صاحب المجلس يرجو ثواب الله بهذا العمل، فكيف يجرّ على نفسه الإثم!!

وهنا لا بُدّ من الإشادة ببعض المجالس النموذجية في التزام النظام والانتظام، والمحافظة على الهدوء، فهي نماذج يحتذى بها، ينبغي أن نحافظ عليها، ونشيد بها حتى تصبح جميع مجالسنا مصدر عزٍّ وافتخار.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفّقنا وإياكم لإحياء هذه المناسبة العظيمة، وأن يكتب لنا الأجر والثواب، وأن يثبتنا على ولاية النبي وأهل بيته وأن يحشرنا في زمرتهم إنه سميع مجيب.

* خطبة الجمعة بتاريخ 27 ذو حجة 1439هـ الموافق 8 سبتمبر 2018م.
[1]  الحميري: قرب الإسناد: ص36، ح 117.
[2]  سنن ابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في النهي عن تخطي الناس يوم الجمعة، حديث 1118.