رعاية النظام والقانون

نشرت صحيفة الأيام البحرينية يوم الأربعاء 12 رجب 1426هـ الموافق 17 أغسطس 2005م مقالاً لسماحة الشيخ حسن الصفار بعنوان: « رعاية النظام والقانون » وفيما يلي نص المقال:

‮ ‬لكل فرد من أبناء البشر حاجاته ومصالحه ورغباته،‮ ‬كما تختلف آراؤهم وتوجهاتهم،‮ ‬ومن الطبيعي‮ ‬أن تختلف الرغبات والتوجهات،‮ ‬فقد لوحظ الاختلاف حتى في‮ ‬حال التوائم السيامية،‮ ‬حيث عاشت فتاتان إيرانيتان ملتصقتان ببعضهما ثمانية عشر عاماً‮ ‬قبل أن تجرى لهما عملية فصل ماتتا على إثرها،‮ ‬وكانتا مختلفتين في‮ ‬بعض الرغبات والآراء‭.‬

‮ ‬وحين‮ ‬يعيش جمع من الناس في‮ ‬محيط واحد،‮ ‬فإن اختلاف الرغبات والمصالح والتوجهات قد‮ ‬يؤدي‮ ‬إلى التعارض والتضارب،‮ ‬فإذا ترك الأمر للغلبة والقوة،‮ ‬فإن حياة المجتمع ستحكمها شريعة الغاب‭.‬
‮ ‬لذلك أدرك الإنسان من بداية وعيه بالحياة الاجتماعية ضرورة وجود نظام وقانون‮ ‬ينظم حياة المجتمع،‮ ‬ويضبط العلاقة بين قواه وأفراده‭.‬

‮ ‬وعرف تاريخ البشر ألواناً‮ ‬من الأنظمة والقوانين المختلفة المتفاوتة في‮ ‬قربها وبعدها من العدالة والحق‭. ‬لكنها كانت تلبي‮ ‬حاجة أساسية في‮ ‬أصل وجودها،‮ ‬فمهما كانت نسبة الخطأ والانحراف في‮ ‬النظام إلا أن ذلك أفضل من عدم النظام الذي‮ ‬يعني‮ ‬الفوضى والاضطراب،‮ ‬وتبقى مسؤولية المصلحين في‮ ‬كل مجتمع للسعي‮ ‬لتغيير القوانين بالاتجاه الصحيح والأفضل،‮ ‬ولتلافي‮ ‬ثغراتها وتصحيح أخطائها،‮ ‬وتقويم معوجها‭.‬
‮ ‬وقد تتعدى الحاجة إلى النظام الجانب الاجتماعي‮ ‬في‮ ‬حياة الإنسان،‮ ‬إذ أنه في‮ ‬بعد حياته الشخصية وفي‮ ‬علاقته مع ربه ومع الطبيعة التي‮ ‬يعيش في‮ ‬أحضانها،‮ ‬يحتاج إلى نوع من التنظيم والتقنين‭.‬

‮ ‬يقول السيد الشيرازي‮ ‬في‮ ‬كتابه‮ »‬القانون‮« ‬من موسوعته الفقهية‭:‬
‮»‬إنما احتاج الإنسان إلى القانون لأنه إنسان،‮ ‬له حوائج فردية واجتماعية في‮ ‬مختلف الجوانب‭. ‬وليس كما قال الإغريق‭: ‬لأنه مدني‮ ‬بالطبع فيحتاج إلى تحقيق متطلبات الاجتماع،‮ ‬والمتطلبات لا‮ ‬يمكن جعلها في‮ ‬المسار الصحيح إلا بالقانون‭. ‬وذلك لأنه لو فرض أن إنساناً‮ ‬عاش وحده في‮ ‬غابة أو كهف،‮ ‬لاحتاج أيضاً‮ ‬إلى القانون الذي‮ ‬ينظم سلوكه مع نفسه،‮ ‬مضافاً‮ ‬إلى القانون الذي‮ ‬ينظم سلوكه مع خالقه ومع الكون بصورة عامة‭.‬
‮ ‬وبذلك ظهر‭: ‬أن قول بعض الفلاسفة‭: ‬أنه لو كان المجتمع مثالياً‮ ‬مكوّناً‮ ‬من الفلاسفة لم‮ ‬يحتج إلى القانون،‮ ‬غير تام‭.‬

‮ ‬كيف ولنفرض أن كل أولئك الفلاسفة كانوا في‮ ‬أعلى درجات العدالة والنزاهة،‮ ‬أليس اختلاف الآراء‮ ‬يوجب بينهم التخاصم والتدافع؟ أوليس ذلك بحاجة إلى قانون‮ ‬يقرره من هو فوقهم ـ إذا اعتقدوا به ـ أو‮ ‬يقرره أكثريتهم،‮ ‬إذا كانوا‮ ‬يرون ذلك،‮ ‬أو حسب القرعة،‮ ‬أو أي‮ ‬ميزان آخر‮ ‬يتفقون عليه؟
‮ ‬إذن‭: ‬فالقانون لازم لتنظيم شؤون المجتمع،‮ ‬مهما كان المجتمع بدائياً،‮ ‬أو متوسطاً،‮ ‬أو مثالياً‮ ‬وفي‮ ‬غاية السمو والرفعة،‮ ‬حيث أن اللازم أن‮ ‬يكون هناك مقياس لسير الفرد والاجتماع في‮ ‬مختلف جوانب الحياة‭.‬

الالتزام بالقانون


‮ ‬يعتمد استقرار المجتمع،‮ ‬وانتظام أموره،‮ ‬وحسن العلاقة بين أطرافه،‮ ‬على مدى التزام أبناء المجتمع بالقانون السائد بينهم‭.‬
‮ ‬ذلك أن مخالفة القانون تسبب التصادم بين الرغبات،‮ ‬والتجاوز على الحقوق،‮ ‬وتعطيل المصالح،‮ ‬ووقوع الأضرار والمضاعفات‭.‬
‮ ‬فمثلاً‮ ‬مخالفة قوانين المرور تؤدي‮ ‬إلى الحوادث المروعة من إتلاف النفوس،‮ ‬وحصول الإعاقات،‮ ‬وخسارة الأموال‭.‬
‮ ‬وكذلك مخالفة أنظمة الصحة تسبب انتشار الأمراض،‮ ‬وتهديد حياة الناس،‮ ‬وهكذا الحال في‮ ‬سائر المجالات والجوانب‭. ‬كما أن مخالفة القوانين تعني‮ ‬ضياع هيبة النظام وسيادة الانفلات والفوضى‭.‬
‮ ‬لذلك لابد من وجود شعور واندفاع عند أبناء المجتمع بالتزام القوانين ورعاية الأنظمة،‮ ‬حفظاً‮ ‬لمصالح الجميع‭.‬
‮ ‬إن البعض من الناس‮ ‬يحترم القانون حين‮ ‬يكون في‮ ‬مصلحته،‮ ‬ويتجاوزه حين‮ ‬يكون في‮ ‬صالح‮ ‬غيره،‮ ‬أو حين لا‮ ‬يجد مصلحة له في‮ ‬التزامه،‮ ‬وهذا خطأ كبير،‮ ‬لأن سيادة القانون مصلحة عامة تنعكس فائدتها على الجميع،‮ ‬ولأن عليه أن‮ ‬يتصور نفسه في‮ ‬الموقع الآخر،‮ ‬فهل‮ ‬يرضيه تجاوز الآخرين على مصلحته؟
‮ ‬وهناك من‮ ‬يحترم النظام إذا خاف العقوبة الرادعة أما عند الأمن من العقاب أو تمكّن الفرار،‮ ‬فإنه‮ ‬يتجرأ على المخالفة والتمرّد،‮ ‬وهذا‮ ‬يكشف عن خلل في‮ ‬النفسية والوعي‭.‬

‮ ‬وقد تكون للبعض اعتراضات على بعض الأنظمة والقوانين،‮ ‬أو عدم ثقة ورضا بالجهة التي‮ ‬أصدرتها،‮ ‬لكن ذلك لا‮ ‬يصح أن‮ ‬يكون مبرراً‮ ‬للمخالفة،‮ ‬بل‮ ‬يجب أن‮ ‬يكون دافعاً‮ ‬للعمل والسعي‮ ‬للتصحيح وتقويم معوج الأنظمة،‮ ‬وتغيير جهة التشريع والتقنين،‮ ‬بالطرق والأساليب الممكنة المشروعة،‮ ‬وإلى أن‮ ‬يتحقق ذلك لابد من رعاية الأنظمة والقوانين السائدة‭. ‬كما هو واقع الحال في‮ ‬المجتمعات الديمقراطية حيث تحتج المعارضة على بعض القوانين،‮ ‬وتعترض عليها،‮ ‬وتقدم المشاريع البديلة،‮ ‬وتتحرك إعلامياً‮ ‬وسياسياً‮ ‬لتحقيق ذلك،‮ ‬لكن المعارضين‮ ‬يجدون أنفسهم ملزمين برعاية الأنظمة القائمة،‮ ‬وليس مقبولاً‮ ‬منهم مخالفتها‭.‬

‮ ‬نعم قد تتبلور إدارة جمعية للتغيير والتصحيح،‮ ‬وقد تكون المخالفة للقانون ضمن وسائل العمل لتغييره وتصحيحه،‮ ‬كما هو الحال في‮ ‬برامج الإضراب والعصيان المدني‮ ‬التي‮ ‬تحصل في‮ ‬بعض البلدان‭. ‬ولكن ذلك أيضاً‮ ‬يكون من خلال قانون،‮ ‬أو قيادة ذات مقبولية،‮ ‬وليس تصرفاً‮ ‬فردياً‮ ‬أو ممارسات اعتباطية‭.‬
‮ ‬وبالتالي‮ ‬فلا‮ ‬يصح لفرد أو مجموعة مخالفة القوانين والأنظمة لموقف لهم تجاه السلطة أو ملاحظة لديهم على بعض القوانين‭.‬
‮ ‬بالطبع فإن المسلم لا‮ ‬يطبق قانوناً‮ ‬يتصادم مع حكم شرعي‮ ‬لازم ما وجد إلى ذلك سبيلا‭.‬

الكون وحاكمية النظام


‮ ‬آيات كثيرة في‮ ‬القرآن الكريم تلفتنا إلى النظام الصارم الذي‮ ‬يلف الكون،‮ ‬فالكون خاضع لنظام دقيق،‮ ‬كل ذرة فيه وجدت في‮ ‬مكانها بحساب،‮ ‬وعلاقتها مع ما سواها تجري‮ ‬بنظام دقيق‭. ‬يقول تعالى‮: ﴿إِنَّا كُلَّ‮ ‬شَيْءٍ‮ ‬خَلَقْنَاهُ‮ ‬بِقَدَرٍ‮. ‬ويقول تعالى‮: ﴿وَكُلُّ‮ ‬شَيْءٍ‮ ‬عِنْدَهُ‮ ‬بِمِقْدَارٍ‮. ‬ويقول تعالى‮: ﴿قَدْ‮ ‬جَعَلَ‮ ‬اللَّهُ‮ ‬لِكُلِّ‮ ‬شَيْءٍ‮ ‬قَدْراً. ‬ويقول تعالى‮: ﴿وَالْقَمَرَ‮ ‬قَدَّرْنَاهُ‮ ‬مَنَازِلَ‮ ‬حَتَّى عَادَ‮ ‬كَالْعُرْجُونِ‮ ‬الْقَدِيمِ‮ ‬لا الشَّمْسُ‮ ‬يَنْبَغِي‮ ‬لَهَا أَنْ‮ ‬تُدْرِكَ‮ ‬الْقَمَرَ‮ ‬وَلا اللَّيْلُ‮ ‬سَابِقُ‮ ‬النَّهَارِ‮ ‬وَكُلٌّ‮ ‬فِي‮ ‬فَلَكٍ‮ ‬يَسْبَحُونَ.
هذه الآيات الكريمة وأمثالها،‮ ‬وما تؤكد عليه من خضوع الكون والطبيعة لسنن ثابتة،‮ ‬وقوانين صارمة،‮ ‬يلحظها الإنسان ويشاهدها،‮ ‬ويكشف له العلم كل‮ ‬يوم عن المزيد والجديد من تجلياتها‭. ‬ إنما تريد أن توجه الإنسان إلى التفكر في‮ ‬عظمة الخالق سبحانه،‮ ‬وإضافة لذلك فإنها تستهدف صنع خلفية وأرضية في‮ ‬نفس الإنسان وعقله للالتزام بالنظام والقانون،‮ ‬في‮ ‬حياته الشخصية والاجتماعية‭.‬
‮ ‬وهذا ما تصرح به آيات أخرى تحذر الإنسان من مخالفة الحدود الشرعية،‮ ‬وتحثه على التقيد بها‭ . ‬يقول تعالى‮: ﴿تِلْكَ‮ ‬حُدُودُ‮ ‬اللَّهِ‮ ‬فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ‮ ‬يَتَعَدَّ‮ ‬حُدُودَ‮ ‬اللَّهِ‮ ‬فَأُولَئِكَ‮ ‬هُمُ‮ ‬الظَّالِمُونَ. ‬ويقول تعالى‮:﴿وَتِلْكَ‮ ‬حُدُودُ‮ ‬اللَّهِ‮ ‬وَمَنْ‮ ‬يَتَعَدَّ‮ ‬حُدُودَ‮ ‬اللَّهِ‮ ‬فَقَدْ‮ ‬ظَلَمَ‮ ‬نَفْسَهُ.

الأربعاء 12 رجب 1426هـ الموافق 17 أغسطس 2005م