الصراع مع الغرب بين منهجين

 

ورد عن الإمام الحسن بن عليّ أنه قال: «رأس العقل معاشرة النّاس بالجميل،  بالعقل تُدرَكُ الدّارَان جميعًا، ومن حُرِمَ من العقل حُرِمَهُما جميعًا»[1] .

تركز التعاليم الدينية على محورية العقل في حياة الإنسان، خاصة على صعيد العلاقة مع نظرائه من البشر. بأن تكون هي المرجعية الأساس في تنظيم علاقته مع الناس، وقد ورد عن الإمام الحسن بن عليّ أنه قال: «رأس العقل معاشرة النّاس بالجميل،  بالعقل تُدرَكُ الدّارَان جميعًا، ومن حُرِمَ من العقل حُرِمَهُما جميعًا»، وجليٌّ أنّ الحرمان من العقل هنا لا يقصد به فقدان العقل والإصابة بالجنون، حيث المجنون غير مكلّف فهو ليس بوارد افتقاد سعادة الآخرة، وإنّما المقصود بالحرمان من العقل هو التخلّي عن إعماله والاستفادة من إمكاناته الهائلة في تدبير مختلف شؤون الحياة.

مواجهة المشكلات

إنّ من الوارد جدًّا أن يواجه الإنسان ضمن سياق علاقاته الاجتماعية حالات من الإزعاج والأذى من الآخرين. ومن ذلك التعرض لحالات الإساءة والعدوان، وتضارب المصالح والتنافس على نيل المكاسب، وقد يواجه حالة من غياب الانسجام مع الغير لجهة اختلاف المزاج وأسلوب نمط الحياة، ما يقود إلى وقوع التنافر.

هنا يأتي السؤال المطروح؛ حول سبل التعامل مع مختلف هذه الحالات والمواقف؟، سيّما وأنّ وقوع الإشكالات المزعجة أمر وارد على مختلف الدوائر، القريبة والبعيدة، بدءًا من الزوجة والأولاد والجيران والعاملين والزملاء. وقد يقع التنافر أحيانًا مع طرف يمكن الابتعاد عنه بسهولة، ليذهب كلٌّ في طريقه وينتهي الأمر، فيما قد يقع مع أطراف لا انفكاك من العلاقة معها، لأسباب معيشية واجتماعية، كان يصطدم المرء مع مديره في العمل مثلًا، أو يدخل في إشكال مع جاره، هنا حين يدخل المرء في إشكالات مع أطراف هو مضطر للتعايش معها، فماذا يصنع؟ وهذا وارد أيضًا على صعيد المجتمعات، بأن تندلع الإشكالات بين مجتمع وآخر، أو جماعة وأخرى، فما هو الحلّ، وما المفروض أن يفعل الناس عند حالات تضارب المصالح، والتعرض للإساءة؟

منهجيتان في إدارة الصراع

هناك منهجيتان في التعامل مع المشكلات الاجتماعية. تنطلق المنهجية الأولى من إعمال العقل والتفكير مليًّا في صنع الحلول، وإيجاد المخارج لأيّ مشكلة، وتتطلب هذه المنهجية عدة أمور:

ضرورة التوفّر على الفهم الجيّد للطرف الآخر في المشكلة، إذ إنّ عدم فهم الطرف الآخر يمكن أن يقود إلى الفشل في المعالجة.

 ضرورة البحث عن أسباب وبواعث المشكلة مع ذاك الطرف.

الشروع في البحث عن حلول، والنظر فيما إذا كان يمكن استيعاب المشكلة واحتواؤها، أم تجميد المشكلة، أو الذهاب بعيدًا في المواجهة، وهذا ما يتطلب النظر في مدى امتلاك إمكانات المواجهة، وكيفية توفيرها. 

هذا بمجمله ما يمثل عناصر المنهجية العقلانية في التعامل مع الصراعات والمشكلات الاجتماعية.

في مقابل ذلك، هناك منهجية أخرى في التعاطي مع المشكلات، تنزع نحو الغرائزية والتعامل بانفعالية والركون إلى العاطفة. ضمن هذه المنهجية قد يتصرف الإنسان من وحي الانفعال والتوتر ونزعة الثأر تجاه ما يعتبرها حالات عدوان وتضارب مصالح، لتأتي ردود أفعاله سريعة بعيدة عن أيّ تفكير معمق أو تخطيط مسبق، ما يمكن أن يؤدي إلى إيقاع الإنسان في المزيد من المآزق والأضرار، فضلًا عن العجز عن تقديم حلول عقلانية ومخارج للمشكلة. 

وتختصر النصوص الدينية النمط الانفعالي في حلّ المشكلات في مصطلح الغضب. جاء في كلمة لأمير المؤمنين أنه قال: «الغضب شرٌّ إنْ أطلقته دمّر»، ذلك أنّ إطلاق العنان لحالات الغضب ربما دمّر حياة الإنسان نفسه، وأنهى مستقبله قبل أن يضرّ بغيره. وعنه: «إيّاك والغضب فأوله جنون وآخره ندم»، والجنون هنا يعني تجميد العقل، وعدم إعماله فيكون كفاقد العقل وهو المجنون. إنّ أخطر مشكلة تواجه الإنسان لحظة الانفعال، هو احتجاب نور العقل عنه، فلا يعود يُعمل عقله، وإنّما يصبح تحت هيمنة الغريزة وسيطرة المشاعر، وعندها لا يهتدي إلى الطريق الصحيح لمعالجة مشكلته، ويقول: «أقدر الناس على الصواب من لم يغضب»، وجاء عنه: «أعقل الناس أنظرهم في العواقب»، وورد عنه أنه قال: «الغضب يفسد الألباب ويبعد عن الصواب».

تجربة الصراع مع الغرب

وفي نفس السياق فإنّ الأكثر أهمية هو اتخاذ العقل مرجعية في تنظيم علاقة الشعوب والأمم مع بعضها. ولنأخذ مثلًا علاقة الشعوب الإسلامية بالغرب، وما شابها من معاناة تاريخية، بدءًا من الحروب الصليبية ثم تلاها مرحلة الاستعمار الطويل الذي بسط هيمنته على أغلب أوطاننا، وما صاحبه من ذلٍّ وهوان ونهب للثروات والخيرات، واستمرار تلك المعاناة لما بعد مرحلة الاستعمار، متمثلًا في دعم الغدة السرطانية المزروعة في جسد الأمة الإسلامية؛ وهي إسرائيل التي أنشأها الغرب وما يزال يدعمها ويقف إلى جانبها، إذْ إنّ بريطانيا العظمى هي صاحبة وعد بلفور، فيما ما تزال الولايات المتحدة تصرّح يوميًّا بالتزامها المطلق بأمن إسرائيل، وجعلها الدولة الأقوى في المنطقة. ناهيك عن معاناة شعوبنا من دعم الغرب للاستبداد، فكيف إذًا ينبغي أن يجري التعامل مع هذا الغرب، وما السبيل لمواجهة هيمنته وأطماعه؟ 

للإجابة عن هذا التساؤل، يمكن القول إنّ سُبل التعامل مع الغرب لا تخرج عن المنهجيتين السابقتين؛ منهجية العقل، أو منهجية الغضب والانفعال. وللإضاءة على السبيل الأفضل للتعامل مع الغرب يمكن النظر إلى تجارب الأمم الأخرى التي عانت من الغرب كما الشعوب الإسلامية، ومن ذلك اليابانيون مثلًا، فقد تعرضت اليابان سنة 1945 إبّان الحرب العالمية الثانية إلى هجمات من الولايات المتحدة الأمريكية بالقنابل الذرية، ومع نهاية الحرب بلغ عدد ضحايا اليابان أكثر من مليوني قتيل، وبلغت خسائرها المادية ما يربو على 562 مليار دولار، في وقت كانت قيمة الدولار أضعاف ما هي عليه في عصرنا الراهن، والأسوأ هو فرض الاستسلام على اليابان وإخضاعها لشروط مذلّة، ومنها أن يتخلى الإمبراطور ـ المقدس عند اليابانيين ـ عن موقعه وصلاحياته، وبمعنى آخر جرى شطب الزعامة الدينية ورمز القداسة عند اليابانيين، فضلًا عن إجبارهم على قبول إنشاء قواعد عسكرية أمريكية على أراضيهم، التي ما تزال قائمة حتى اليوم، كما جرى تحديد عدد الجيش الياباني والحدّ من التصنيع العسكري لليابان، بما يلبّي الحاجة الداخلية فقط، ويمنعها من التصدير للخارج، ولفرط الإذلال الذي شعر به اليابانيون آنذاك أقدم آلاف الضباط اليابانيين على الانتحار. وبعد كلّ ذلك، كيف تعامل اليابانيون مع هذا الوضع الجديد وكيف تجاوزوا الصدمة؟

لقد اختار اليابانيون السير وفق المنهجية العقلانية لتجاوز تداعيات الحرب المدمّرة، وما أعقبها من ظروف الاستسلام. وعملوا في المقام الأول على فهم الولايات المتحدة والغرب عمومًا، وأن ينفتحوا على الإيجابيات الموجودة عندهم، وأن يعملوا على تقوية أنفسهم من خلال تطوير التعليم وتعزيز الصناعة، على قلّة الإمكانات والثروات الطبيعية في بلدهم، ليصنعوا من بلدهم خلال عقود قليلة أمة قوية عزيزة، وشعبًا منتجًا ولينتقلوا ببلدهم إلى مصافّ الاقتصاديات العظمى التي تدير العالم، ولينافسوا الولايات المتحدة حتى داخل الأسواق الأمريكية نفسها. كلّ ذلك نتاج المنهجية العقلانية التي سار عليها اليابانيون في التعاطي مع ذيول الهزيمة العسكرية والإذلال الذي تجرّعوه بعد الحرب. 

الانشغال عن بناء القوة الذاتية

في مقابل ذلك، ماذا صنع المسلمون لتجاوز آثار العلاقة المضطربة مع الغرب، منذ الحروب الصليبية حتى مرحلة ما بعد الاستعمار؟ وما المنهجية التي اتّبعت لتخطّي جميع ذلك؟ باختصار، لقد ابتعدت شعوبنا كلّ البعد عن انتهاج العقلانية في مواجهة الغرب، فَلِمَ نحاول دراسة الغرب وفهمه على أسس صحيحة، بغرض الاستفادة مما عنده من جوانب إيجابية، كما فعل اليابانيون، ولِمَ نتوجه لبناء أوطاننا وتعزيز قوانا الذاتية. وعوضًا عن ذلك انتهجنا المنهجية العاطفية، وتعاملنا بانفعالية كبيرة، وأصبنا بحالة من التوجّس والقلق الدائم من الغرب، حتى بتنا نخاف من كلّ منتج يخرج من هناك، ونخشى كلّ تطور يمكن أن يرخي بظلاله علينا، وذهبنا بعيدًا في اعتبار كلّ ما يفعله الغرب من صميم المؤامرة على شعوبنا، واستهداف ديننا والإضرار بأوطاننا، بل رحنا نحارب المنتجات الغربية المفيدة سنين طويلة، من صناعة التلفزيون والإذاعة والهاتف إلى التعليم الحديث، لا لشيءٍ إلّا لكونه آتيًا من الغرب. ومردّ هذه الحالة هو الشعور العميق بالهزيمة والضعف وتقمّص الانفعالية الكبيرة. 

وغرق المسلمون في بحرٍ من الشعارات المعادية للغرب. فلا يكاد يخلو منبر من السبّ والشتم والدعاء بالانتقام والهلاك على اليهود والنصارى، مصحوبًا بسرد البكائيات التاريخية، ولم يعلم هؤلاء أنّ دعاءهم المجرّد لن يغير من واقع الحال شيئًا، والنتيجة بقي العالم الإسلامي على الضعف الذي كان عليه، فيما انشغلت الأمم الأخرى بالعلم وتحقيق التقدم.

إنّ هذه الأجواء الانفعالية والتعبئة المستمرّة ضدّ الأمم الأخرى، خلقت بيئة حاضنة وأرضية خصبة لتفريخ العنف والإرهاب، الذي انساقت خلفه فئات كبيرة من الشباب. وبعبارة مقارنة، ذهب اليابانيون نحو تعبئة أبناء شعبهم نحو العلم والصناعة، فيما شحن المسلمون شبابهم بالعواطف والانفعالات السلبية، على نحوٍ جعل من الشباب المسلم قنابل متحركة تبحث عمّن تنفجر فيهم من الشعوب الغربية انتقامًا منهم. في ظلّ غياب تامٍّ لأية برامج تهدف لتقوية الذات والتغلب على حالة الضعف والعجز الحضاري. 

وقد رأينا جانبًا من نتائج الشحن والتعبئة السلبية متمثلًا في الهجمات الإرهابية التي استهدفت الأبرياء في العاصمة الفرنسية باريس. فهل يتوقع المهاجمون من خلال هذه الحوادث أن يُغيّروا من الواقع المتردي للمسلمين، أم يزيدون واقعهم تردّيًا، وخسارة من سمعتهم ورصيدهم الأخلاقي، بل واستقلالهم النسبي الذي حازوا شيئًا منه بعد مرحلة الاستعمار، على نحوٍ جعل من أوطاننا، بأجوائها وبحارها وأراضيها، مسرحًا للقوى الخارجية التي طالما تباكينا على استعمارهم لنا في سنوات سابقة، فإذا بهم يعودون مجدّدًا تحت عناوين مكافحة الإرهاب. كلّ ذلك من نتاج النزعة الانفعالية في مواجهة المشاكل.

درس من سيرة أهل البيت

حين نقرأ سيرة أئمة أهل البيت وتوجيهاتهم نجدها تدفع نحو ترشيد وتنمية الحالة العقلانية عند أبناء الأمة. ولعلّ هذا الجانب في سيرة أهل البيت يحتاج إلى وقفة طويلة ودراسة معمّقة، خاصة لجهة مساهمتهم الكبرى في حفظ الوحدة والاستقرار في الأمة، وتعزيز حالة الانضباط في أوساط تلاميذهم وشيعتهم، سيّما في ظلّ أجواء الاستفزازات الكبيرة التي كانوا يتعرضون لها. ولنا أن نتصور أنّ الإمام الحسن بن عليّ وقد بويع بالخلافة بعد أبيه أمير المؤمنين، وكان تحت يده عشرات الآلاف من جنود الجيش، لكنه مع ذلك تنازل عن السلطة عندما تطلبت مصلحة الأمة ذلك، ليجنب الأمة استمرار حالة الاحتراب. وربما ذهب للصلاة في المسجد في الوقت الذي يعمد فيه الخطيب إلى شتم أبيه أمير المؤمنين وسائر أهل البيت، وحين ورد على مجلس معاوية في مناسبتين على الأقل، كان يسمع الإهانة هناك، وكان جليًّا أنّ هناك نهجًا متعمّدًا يبتغي استفزاز الأئمة وأتباعهم ودفعهم نحو الاصطدام والدخول في معركة. 

غير أنّ الصورة كانت واضحة أمام أئمة أهل البيت. فلم يسمحوا باستدراجهم إلى احتراب داخلي في الأمة، ولعلّ واقعة كربلاء هي الاستثناء الوحيد الذي ينبغي أن يؤكّد القاعدة ولا ينفيها، فهناك اثنا عشر إمامًا، أحدهم فقط وهو الإمام الحسين انتهج طريق المواجهة، نتيجة ظروف معيّنة كانت تمرّ بها الأمة حينها، بعد أن بذل قصارى الجهد لتجنّب الصدام، وقد خاطب القوم بأن يدعوه يرجع من حيث أتى، إلّا أنّهم تعنّتوا وأبوا إلا الصدام. وبذلك نخلص إلى أنّ منهجية أئمة أهل البيت ليست قائمة على الاستجابة للاستفزاز، إلّا أنّها لم تكن في الوقت عينه منهجية استسلام وخضوع وخنوع، فقد زرعوا في نفوس أبناء الأمة العزيمة والإرادة، والروح النضالية في نشر العلم والمعرفة، وبناء الخط الرسالي المستمر إلى هذا اليوم. ولو لم يمضِ أهل البيت على انتهاج العقلانية فلربما لم يستمر خطهم على النحو الذي نراه اليوم. حيث بقيت صفحة أئمة أهل البيت ناصعة البياض مشرقة في تاريخ الأمة، ولم يجرؤ أحد على النيل من شخصية أيّ إمام منهم، أو إبراز مأخذ يذكر عليه.  هذه الصورة بالغة النقاء، إنّما كانت نتيجة طبيعية للسياسة العقلانية التي اعتمدها أئمة أهل البيت.

إنّ الأمة أحوج ما تكون لانتهاج سبيل العقلانية في إدارة مشكلاتها الداخلية والخارجية. سيّما وهي تعيش حالة مزرية من الاحتراب والتشظي في معظم ساحاتها، وتغرقها الصراعات تحت عناوين مختلفة. 

وما أحوج الخطاب الديني في الأمة إلى العقلانية عوضًا عن المبالغة في التعبئة وزيادة مخزون الاحتقان تجاه الآخرين، بذرائع دينية وطائفية، وكيف لا يتورّط الشاب السّني في الإرهاب وهو يخضع لتعبئة مستمرة تُلقي بمشاكل الأمة جميعها، في الماضي والحاضر، على كاهل إخوانه الشيعة. والحال نفسها ما يجري مع الشاب الشيعي الذي يعيش أجواءً محتقنة طائفيًّا ضد أبناء السنة، ليخرج عندها سبَّابًا لعّانًا لرموز الآخرين ومستفزًّا لجمهورهم، ما أحوج الأمة لقراءة سيرة أهل البيت، وخاصة سيرة الإمام الحسن الذي نعيش ذكرى شهادته، والذي طالما تجرّع الآلام والغصص طوال حياته وفاءً لمبدئيته ومنهجيته العقلانية.

* خطبة الجمعة بتاريخ 7 صفر 1437هـ الموافق 20 نوفمبر 2015م.
[1]  بحار الأنوار. ج75، ص111، حديث6.