أفضلية الزهراء وحياتها العائلية
ورد عن رسول الله أنه قال: «فاطمةُ بِضْعَةٌ مِنِّي ، فمَنْ أَغْضَبَها أَغْضَبَني»[1] .
حظيت السيدة فاطمة الزهراء بمكانة عظيمة ومقام متميّز ضمن حياتها العامة والخاصة. ولقد كان النبي أول من شدّد على هذه المكانة بقوله كما أورد البخاري: «فاطمةُ بِضْعَةٌ مِنِّي، فمَنْ أَغْضَبَها أَغْضَبَني»، وهو حديث متواتر عند الفريقين، ولا يختلف في صحته وثبوته اثنان من علماء الحديث. وقد تضمّن الحديث معانيَ عظيمة وهامة، ومن ذلك تسليطه الضوء على مكانة السيدة الزهراء، إذ حينما يقول رسول الله إنّ الزهراء بضعة منه، فإنّ معنى ذلك أنّها جزء من كيانه المادي والمعنوي، وبذلك يغدو كلّ فضل وقيمة وموقعية سارية في كيانه، فهي تسري كذلك على الزهراء لأنّها جزء منه، وهذا دليل واضح على المكانة المتميزة للسيدة فاطمة.
كما أنّ من المعاني التي تضمنها الحديث، هي العصمة والنزاهة التي تتحلى بها السيدة الزهراء، ما يعني أنّ مشاعرها محكومة وعواطفها مقيدة بأوامر الله. ذلك أنّ العاطفة هي مكمن الابتلاء عند الخلق، فهي التي ربما قادت الشخص إلى الخروج عن جادة الصواب، وأوقعته في شرك ارتكاب الأخطاء واقتراف الآثام، فإذا ما كانت العواطف تحت السيطرة فسيكون الإنسان قد بلغ درجة العصمة. من هنا حين يشير الرسول إلى عاطفة الزهراء ومشاعرها، غضبها ورضاها، وأنّ ذلك وثيق الصلة بغضبه ورضاه، فإنّ ذلك يفضي إلى القول بعصمة الزهراء تلقائيًّا.
الاصطفاء الإلهي
إنّ من المسلم به في العقيدة الإسلامية أنّ الله تعالى قد فضل بعض عباده على البعض الآخر. وقد ورد هذا المعنى في عديد من الآيات القرآنية، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّـهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّـهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾، وورد في آية أخرى اصطفاء الله سبحانه لمريم في قوله تعالى :﴿... يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّـهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾. ويعود اصطفاء الله لبعض عباده وتفضيله بعض خلقه إما على نحو مباشر من الله تعالى من خلال كتابه الكريم، أو من خلال رسوله وهو المبلغ عنه سبحانه، الذي وصفه بأنه ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ﴾، ومعنى ذلك؛ أنه حين يقول عن ابنته أنها بضعة منه، فهذا يكشف عن تفضيل الله تعالى لفاطمة، وقد ذهب بعض العلماء انطلاقًا من هذا الحديث إلى القول بأفضلية السيدة الزهراء على كلّ أحدٍ بعد رسول الله، وذهب الشيعة إلى أفضليتها على جميع الخلق بعد أبيها النبي وبعلها عليّ، وقد أشارت بعض النصوص الدينية إلى أفضليتها على ولديها الحسن والحسين وباقي الأئمة، ومن ذلك ما روي عن الإمام الحسين «أمي خير منّي». وبذلك يكون الرسول في المقام الأول من الفضل، ويأتي بعده أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، ثم تأتي الأفضلية بعدهما للسيدة الزهراء.
وذهب بعض علماء أهل السنة إلى القول بأنّ السيدة الزهراء هي أفضل الخلق بعد رسول الله. وقد أورد أحد علماء الحديث في المدرسة السلفية، وهو الشيخ محمد سعيد بن محمد ممدوح، في كتاب له مطبوع في الإمارات العربية المتحدة بعنوان «غاية التبجيل وترك القطع بالتفضيل»، وقدّم له مستشار رئيس دولة الإمارات، السيد علي الهاشم، أورد المؤلف جملة من الآراء في تفضيل السيدة الزهراء على كلّ الناس بعد رسول الله. تحت عنوان تنوير الأفئدة الزكية بتفضيل البضعة النبوية قائلًا: ومنهم ـ أي الصحابة وعلماء المسلمين ـ من يفضل السيدة فاطمة ابنة النبي على الجميع، باعتبارها بضعته الشريفة المنيفة، وقال: كان مذهب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تفضيل فاطمة صلوات الله وسلامه على والدها وعلى آله وعلى سائر الصحابة رضوان الله عليهم، وهذا ثابت في الصحيح، فقد أخرج الطبراني في الأوسط حديث رقم (2721) ...عن عمر بن دينار قال: قالت عائشة: «ما رأيت أفضل من فاطمة غير أبيها»، عزاه الهيثمي في المجمع لأبي يعلى بلفظ: «ما رأيت أحدًا أصدق من فاطمة»، ... وقال الهيثمي: رجالهما رجال صحيح، وقال الطبراني سنده صحيح على شرط الشيخين[2] .
وينقل ممدوح في مؤلفه كلامًا للخليفة الثاني عمر بن الخطاب، قائلًا: وللخليفة عمر بن الخطاب كلام جليل هنا، فقد أخرج الحاكم في المستدرك بإسناد ثابت أنّ عمر قال لفاطمة: يا فاطمة، والله ما رأيت أحدًا أحبّ إلى رسول الله منك، والله ما كان أحد من الناس بعد أبيك أحبّ إليّ منك. وهو منقول ـ أي الرأي بتفضيل فاطمة على الجميع ـ عن الإمام مالك، ففي الحاوي للحافظ السيوطي قال مالك: «لا أفضل على بضعة رسول الله أحدًا»، وجاء في كتاب الإجابة في ما استدركته عائشة على الصحابة، ذكر الأستاذ أبو سهل الصعلوكي، أحد أئمة أصحابنا في كتاب الأصول الخمسة عشر، كلامًا في فضل عائشة وفاطمة، قال، فكان شيخنا أبو سهل محمد بن سليمان الصعلوكي وابنه سهل يفضلان فاطمة على عائشة، وبه قال الشافعي، وللحسين بن الفضل رسالة في ذلك، قال الزركشي وهذا مما لا شك فيه، وقد قال رسول الله فاطمة بضعة مني ولا نعدل ببضعة رسول الله أحدًا.
«ولما ذكر المناوي في فيض القدير حديث فاطمة بضعة منّي قال: استدل بها السهيلي على أنّ من سبّها كفر؛ لأنّه يغضبه، ولأنّها أفضل من الشيخين»، أي أفضل من أبي بكر وعمر، وفي فيض القدير ذكر العلم العراقي أنّ فاطمة وأخاها إبراهيم أفضل من الخلفاء الأربعة بالاتفاق، وقال الآلوسي، في تفسيره «روح المعاني»: إنّ فاطمة من حيث البضعية لا يعدلها أحد، وقال الإمام السبكي وغيره في حقّ السيدة فاطمة رضي الله تعالى عنها: لا نفضل على بضعة رسول الله أحدًا، فأنت تراهم وصفوها بالبضعية التي هي داعية إلى التفضيل على أمها خديجة ومريم وعائشة ولم يقولوا لا نفضل على زوجة علي أو أم الحسنين أو غير ذلك من أوصافها الشريفة» ـ وإنّما على البضعة ـ. «...وصرح بأفضلية السيدة فاطمة على جميع الصحابة، الشيخين فمن عداهما، الشمس العلقمي، وقيده المناوي بحيثية البضعية»[3] .
أخطار التفكك الأسري
ولا بُدّ لنا بعد هذا السّرد عن مقام السيدة الزهراء من أن نتناول طرفًا من سيرتها الشريفة. وسنكتفي هنا بالتطرق إلى زاوية واحدة من حياتها، وهي تلك المرتبطة بعلاقتها مع بعلها أمير المؤمنين، فنحن في حاجة ماسّة للحديث في هذا الأمر، بالنظر إلى بروز ظاهرة خطيرة تهدّد وضعنا الاجتماعي والتربوي والأخلاقي، ألا وهي ظاهرة التفكك الأسري، وتفاقم المشاكل العائلية بين الأزواج، فالمحاكم باتت تضجّ بالدعاوى المتعلقة بالخلافات الزوجية والمشاكل الأسرية، ولكثرتها بات المصلحون الاجتماعيون المتصدّون لمعالجة هذه المشاكل يبذلون جهودًا مضنية ويصرفون أوقاتًا طويلة في معالجتها، ناهيك عن تقارير الدوائر الأمنية الجنائية ودور الإيواء وملاحظة الأحداث، التي ترجع الكثير من الانحرافات والجرائم إلى التفكك الأسري.
وتحظى العلاقة الخاصة بين الزوجين بموقعية في منتهى الأهمية عند الشارع المقدس. جاء ذلك في جملة من الآيات القرآنية، كما في قوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾، وقال تعالى: ﴿وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ﴾، وجاء في آية أخرى: ﴿وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا﴾، وقال تعالى: ﴿لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا﴾، وقال تعالى: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ﴾. وهذا ما يشير إلى الأهمية البالغة للعلاقة الزوجية الإنسانية الوثيقة والحميمة، التي لا ينبغي أن تكون عرضة للاضطراب.
غير أنّ هناك أسبابًا عديدة ربما جعلت العلاقة الزوجية عرضة لشتى المشاكل. ومن ذلك ما يمكن اعتباره سببًا عامًّا تشترك فيه قطاعات كبيرة من البشر، وهو بروز الحالة الأنانية والشهوانية في النفوس، بأن تكون اهتمامات الأشخاص متمحورة حول ذواتهم ومصالحهم وشهواتهم، وهذا ما يقود حتمًا لوقوع التضارب والتنازع وانحسار حالة الوئام والانسجام بين الزوجين. وعلى النقيض من ذلك ستكون العلاقة بينهما، أقلّ تعقيدًا وأكثر ميلًا للحل وبكلفة أقلّ، إذا سادت روح الإيثار والتنازل والتفكير في مصلحة الآخر. ولنا أن نتخيل وضع الأسرة حين يطلق الأب العنان لشهواته ورغباته، ويلهث خلفها أين ومتى شاء، حتى لو كان على حساب عواطف زوجته ومشاعرها، واستقرار وتربية الأبناء، فإنّ من المتوقع من هذا الزوج الأناني الإقدام على أيّ قرار، غير عابئ بنتائجه. في مقابل ذلك، يأتي الزوج غير الأناني الذي وإن تاقت نفسه لبعض الرغبات الشهوانية خارج العائلة، فإنه سيعطل رغبته، ويكبح شهوته واندفاعته، حفاظًا على استقرار بيته ووضع عائلته.
وكذلك الحال مع الزوجة التي تريد الاسترسال مع رغباتها وطلباتها وشهواتها، دون أدنى اعتبار لرضا زوجها أو غضبه، وما إذا ساد التعثر حياتها الأسرية أم الانسجام، ومدى انعكاس ذلك على حياة الأولاد، هذه الحالة الأنانية عند المرأة هي الأخرى ستقود حتمًا إلى تفكك الأسرة.
إنّ مشكلة الأنانية عند الزوجين أو أحدهما تكاد تكون ظاهرة عامة تعاني منها جميع المجتمعات، وقد أشار القرآن الكريم إلى علاج هذه الحالة في قوله تعالى: ﴿فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّـهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾، ومضمون ذلك، أنّ مجرد إقدام الزوجة على اقتراف ما يكره زوجها ويتضارب مع مصالحه، لا ينبغي أن يكون مبررًا لاندفاعة عكسية من طرفه، وإنّما ينبغي التفكير في مختلف الجوانب والمصالح الأخرى، من انعكاس ذلك على الأبناء والوضع الاجتماعي العام، ناهيك عن الوضع الأخروي والوقوف بين يدي الله.
مع الزهراء في علاقتها الزوجية
إنّ من الواجب في هذا المقام التأسّي بالسيرة العائلية العطرة بين السيدة الزهراء والإمام علي وأخذ الدروس منها. وإنه لمن الغريب أن يحتفي الناس بذكرى رحيل السيدة الزهراء ويستمعون من خلال المنابر الدينية لجوانب كثيرة من سيرتها وسيرة سائر أئمتهم، لكنهم قلّما يلتزمون بالتأسّي والاقتداء بهم والاستفادة من كلّ ذلك في حياتهم العملية. سيّما وأنّ من المعروف من سيرة السيدة الزهراء والإمام علي أنّ حالة الانسجام والوئام والإيثار المتبادل بينهما كانت في أعلى درجاتها، ولا غروَ، فهما خير رمزين بعد رسول الله.
وقد وردت نصوص في وصف تلك العلاقة المميزة بين السيدة الزهراء والإمام علي. حيث ورد عن علي أنه قال لأحد أصحابه: ألا أحدّثك عنّي وعن فاطمة؛ إنّها كانت عندي وكانت من أحبّ أهله ـ النبي ـ إليه، وإنّها استقت بالقربة حتى أثر في صدرها، وطحنت بالرحى حتى مجلت يداها، وكسحت البيت حتى اغبرّت ثيابها، وأوقدت النار تحت القدر حتى دكنت ثيابها، فأصابها من ذلك ضرر شديد، فطلبت منها أن تذهب إلى رسول الله، وأن تشكو له حالها وأن تطلب منه جارية خادمة، فذهبت وسألته ذلك فبكى رسول الله، وقال: يا فاطمة والذي بعثني بالحقّ إنّ في المسجد أربعمئة رجل ما لهم طعام ولا ثياب، ثم علّمها التسبيح ـ تسبيح فاطمة الزهراء ـ، وبعد مدة حينما أفاء الله عليه أعطاها جارية، هي فضة التي بقيت تخدمها حتى وفاتها.
ولنا أن نشير إلى فائدة في هذا المقام، وهي أنّه حتى مع عدم الوجوب الشرعي لقيام المرأة بالخدمة المنزلية، إلّا أنّ الوازع الإنساني والاجتماعي والشعور بالشراكة مع الزوج في إدارة أمور البيت وتسيير شؤون الأسرة وتربية الأبناء، يحتم عليها اعتبار الخدمة المنزلية بمنزلة العبادة والشرف التي تتشرف به. غير أنّ الحال بات على خلاف ذلك في بعض المجتمعات، نتيجة ردّ فعل على الاتجاه المحافظ الذي يريد تحجيم المرأة في حدود المنزل، وعزلها عن القيام بأيّ دور اجتماعي أو ثقافي خارجه. وبذلك ظهر اتجاه يحمل نظرة متطرفة يسخر من الخدمة المنزلية عند المرأة، ويزدري اقتصار دور المرأة على دور ربة المنزل. وهذه نظرة خاطئة، حيث تمثل الخدمة المنزلية فضلًا لها، وتجليًّا لإنسانيتها، وليست عيبًا ولا عارًا ولا هي وظيفة متدنية، وإنّما هي من أشرف وأعظم الوظائف التي تقوم بها المرأة، شريطة ألّا يكون ذلك تحجيمًا لها ولا منعًا لها من ممارسة الأدوار الاجتماعية الأخرى، فالمسألة لا تتعلق بإحلال وظيفة محلّ أخرى، وإنّما تتعلق بالتوفيق بالمقدار الممكن، وبمقدار ما تقتضي الأولويات بين حياتها وظروف عائلتها ومجتمعها.
وهناك نصوص أخرى وردت كذلك في وصف العلاقة العائلية بين السيدة الزهراء والإمام علي وتشاركهما الخدمة في المنزل. فقد ورد في السيرة أنّ النبي دخل ذات يوم بيت علي وفاطمة فوجدهما يشتركان في الطحن بالجاروش، فقال: أيّكما أعيا؟ فقال علي: فاطمة، يا رسول الله، فقال لها: قومي يا بنية، فقامت وجلس النبي موضعها مع علي فواساه في طحن الحب. ومضمون ذلك أنّ عليًّا كان يتشارك مع السيدة الزهراء في الخدمة المنزلية، وفي ذلك لفتة مهمة إلى الأزواج الذين يترفعون عن المشاركة في الخدمة المنزلية، بل ويعتبرون المشاركة في غسل الصحون أو تنظيف البيت عيبًا ينأون بأنفسهم عنه، وليتهم علموا أنّ في ذلك ثوابًا عظيمًا وتربية للنفس وتقديم القدوة للأبناء، حين يروا والديهما يتعاونان في إدارة شؤون المنزل، وهل ثمة تربية أعظم من هذه!. كما أنّ في مشاركة النبي عليًّا في طحن الحب، دليل على تلك الروحية التي يتمتع بها مع عظم مقامه ورفعة منزلته. وهذا خلاف ما لدى البعض من الذين حباهم الله وظيفة مرموقة أو منزلة اجتماعية رفيعة، والذين سرعان ما يجدون أنفسهم فوق أن يمارسوا هذه الأدوار.
وورد عن جابر بن عبدالله الأنصاري أنه رأى النبي فاطمة وهي تطحن بيدها وترضع ولدها، فدمعت عينا رسول الله فقال: «يا بنتاه، تعجّلي مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة، فقالت: يا رسول الله، الحمد لله على نعمائه والشكر له على آلائه»[4] .
وجاء عن الإمام الصادق أنه قال: «كان أمير المؤمنين يحتطب ويستقي ويكنس، وكانت فاطمة تطحن وتعجن وتخبز»[5] .
هذه العلاقة بين علي وفاطمة وهذا الانسجام بينهما هو الذي جعل كلًّا منهما يشيد بالآخر، ويذوب في حبّه واحترامه حتى الرمق الأخير. وقد كانت وصية السيدة فاطمة الزهراء لأمير المؤمنين في آخر لحظات حياتها وصية وجدانية مؤثرة، ينبغي أن نطالعها بعين الاستفادة والاقتداء، وجاء فيها أنها قالت: «يا ابن عم، ما عهدتني كاذبة ولا خائنة ولا خالفتك منذ عاشرتني، فقال: معاذ الله، أنت أعلم بالله وأبرّ وأتقى وأكرم وأشدّ خوفًا من الله أنْ أوبّخك بمخالفتي»[6] ، قال علي: «فوالله ما أغضبتها، ولا أكرهتها على أمر حتى قبضها الله عزّ وجلّ، ولا أغضبتني، ولا عصت لي أمرًا، ولقد كنت أنظر إليها فتنكشف عني الهموم والأحزان»[7] . وهذه من أجلى مظاهر العلاقة الزوجية الحميمة، حيث يعود الرجل إلى منزله مثقلًا بأعباء الحياة وأتعابها، فينظر إلى امرأته فتنكشف عنه الهموم والأحزان.
وكذلك الحال مع المرأة التي تكون متعبة بهموم الحياة ومشاكل البيت، فإذا ما رأت وجه زوجها ابتسمت أمامها الدنيا وامتلأ قلبها من الفرح والسرور. وهذا ما يجب أن تكون عليه العلاقة بين الزوجين. من هنا ندرك مدى حزن أمير المؤمنين بافتقاده السيدة فاطمة الزهراء، خاصة في أواخر أيامها ومع المعاناة التي مرّت بها بُعَيْدَ وفاة رسول الله، ويكفي من ذلك ما ورد في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين حينما وارى السيدة الزهراء وعزّ عليه ذلك، فاتجه صوب رسول الله وقال كلماته المؤثرة: «السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَنِّي وَعَنِ ابْنَتِكَ النَّازِلَةِ فِي جِوَارِكَ وَالسَّرِيعَةِ اللَّحَاقِ بِكَ، قَلَّ يَا رَسُولَ اللهِ عَنْ صَفِيَّتِكَ صَبْرِي وَرَقَّ عَنْهَا تَجَلُّدِي إِلَّا أَنَّ فِي التَّأَسِّي لِي بِعَظِيمِ فُرْقَتِكَ وَفَادِحِ مُصِيبَتِكَ مَوْضِعَ تَعَزٍّ فَلَقَدْ وَسَّدْتُكَ فِي مَلْحُودَةِ قَبْرِكَ وَفَاضَتْ بَيْنَ نَحْرِي وَصَدْرِي نَفْسُكَ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، فَلَقَدِ اسْتُرْجِعَتِ الْوَدِيعَةُ وَأُخِذَتِ الرَّهِينَةُ أَمَّا حُزْنِي فَسَرْمَدٌ وَأَمَّا لَيْلِي فَمُسَهَّدٌ إِلَى أَنْ يَخْتَارَ اللَّهُ لِي دَارَكَ الَّتِي أَنْتَ بِهَا مُقِيمٌ وَسَتُنَبِّئُكَ ابْنَتُكَ بِتَضَافُرِ أُمَّتِكَ عَلَى هَضْمِهَا فَأَحْفِهَا السُّؤَالَ وَاسْتَخْبِرْهَا الْحَالَ هَذَا وَلَمْ يَطُلِ الْعَهْدُ وَلَمْ يَخْلُ مِنْكَ الذِّكْرُ وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمَا سَلَامَ مُوَدِّعٍ لَا قَالٍ وَلَا سَئِمٍ فَإِنْ أَنْصَرِفْ فَلَا عَنْ مَلَالَةٍ وَإِنْ أُقِمْ فَلَا عَنْ سُوءِ ظَنٍّ بِمَا وَعَدَ اللَّهُ الصَّابِرِينَ»[8] .
صلّى الله على فاطمة الزهراء وعلى أبيها وبعلها وبنيها.