الشيخ الصفار مؤبنًا جودت القزويني
جودت القزويني عاشق المعرفة ومحبّ الإنسان
بسم الله الرحمن الرحيم
كنت قد قرأت بعض كتابات الدكتور السيد جودت القزويني رحمه الله وراقني أسلوبه السهل الممتنع في شعره ونثره، ومنهجيته العلمية في تناوله لقضايا الفكر والتاريخ، فصرت أتطلع للقاء به والتعرف على شخصيته عن قرب.
وفي زيارة لي إلى بيروت قبل أقل من عقدين من الزمن تفاجأت باتصال تليفوني منه يبدي فيه الرغبة لزيارتي في الفندق الذي أقيم فيه، فشعرت بسعادة بالغة، وشكرت له مبادرته الكريمة، وحمدت الله تعالى أن حقق لي هذه الرغبة والتطلع.
وحين التقيته طال اللقاء به وأمتد إلى ساعات في ليلة كانت من أروع الليال بالنسبة لي، وكنت أتوقع ألّا تتجاوز مدة اللقاء ساعة، خاصة وأنه اللقاء الأول به ومن دون سابق معرفة شخصية.
أخذني بحديثه في جولة ممتعة على حقول من الأدب والمعرفة، فمن ذكريات شخصية عن مسامرات الأدباء، ومجالس العلماء، وبيوت المراجع، وعلاقته الشخصية بمختلف الشخصيات العلمية والأدبية والاجتماعية، إلى حديث عن واقع الساحة الدينية والسياسية في العراق، إلى مناقشة لبعض الآراء والأفكار الدينية والتاريخية، وهكذا انقضت معه أربع ساعات مرت كأربع دقائق لظرافة حديثه وعذوبة منطقه وثراء معلوماته.
هكذا كانت بداية معرفتي الشخصية بالسيد جودت القزويني، حيث انبهرت بشخصيته وانجذبت إليه، وآنست بحديثه جداً، فصار اللقاء به محطة رئيسة وجزءاً أساساً من برنامج أي زيارة أقوم بها إلى بيروت في السنوات اللاحقة.
كما فاجأني مرة أخرى باتصاله بي تليفونياً أثناء زيارتي لمدينة قم في شهر محرم 1436هـ، وأخبرني أنه جاء إلى قم لتفقد ابنه السيد صالح المتفرغ للدراسة العلمية فيها، وأنه سمع عن وجودي في قم فبادر للاتصال لنلتقي ونجدد عهد المودة والإخاء، وبشّرني في هذا اللقاء بتحقق حلمه بطباعة موسوعته (تاريخ القزويني) وأن كمية منه قد وصلت إلى قم فعلاً، فبادرت لاقتناء نسخة منه.
وقد انقطعت عن زيارة بيروت منذ أربع سنوات تقريباً، وكنت انتظر متى تتهيأ الفرصة للسفر إلى بيروت لأحظى بتجديد اللقاء بالسيد جودت القزويني والاستفادة من مجالسته والاستمتاع بحديثه، لكن خبر رحيله والتحاقه بالرفيق الأعلى (7 ابريل 2020م) غمرني بالأسى والحزن، لحرماني من اللقاء به إلى الأبد.
وقد خسرت ساحة الأدب والمعرفة بفقده باحثًا موسوعيًا، وعالمًا رائدًا وأديبًا موهوبًا.
كان عاشقاً للأدب والمعرفة منذ نعومة أظفاره، وفي بداية العقد الثاني من عمره، وقد توقد هذا العشق لديه في مرحلة شبابه، وترسخ في نفسه متناميًا متصاعدًا طوال سنوات حياته والتي لم تتجاوز سبعاً وستين عاماً.
وقد تنوع إنتاجه الأدبي والمعرفي بين مجموعات شعرية، وقصص قصيرة أدبية، ودراسات فقهية، وبحوث أخلاقية، وكتابات تاريخية، وكان درة التاج في عطائه موسوعتاه المهمتان: (الروض الخميل ـ مذكرات في التاريخ والنوادر الأدبية) عشرة أجزاء / بيروت 2016م. و(تاريخ القزويني ـ في تراجم المنسيين والمعروفين من أعلام العراق وغيرهم 1900-2000م). ثلاثون مجلداً / بيروت 2012م.
وقد بلغ عدد مؤلفاته (32) كتاباً بين دراسة وبحث وتحقيق، حيث قام بتحقيق ودراسة عدد من الكتب العلمية والأدبية في المجال العقدي والفقهي والأصولي والتراجم والتاريخ.
ومع قسوة الظروف التي عاشها وفرضت عليه الهجرة من وطنه العراق، وتعدد المهاجر التي أقام فيها، إلا أنه لم يتوقف عن ممارسة نشاطه المعرفي قراءة وبحثاً وكتابة وجمعاً وتأليفاً. وحتى علاقاته الواسعة مع الأشخاص والشخصيات كانت تدور كلها في دائرة الاستهداف المعرفي، حيث لم ينشغل بعمل إعلامي أو سياسي او اجتماعي، يوظّف شيئاً من علاقاته باتجاهه، وكان عفيفاً أبياً لا يبحث عن أي مكسب مادي من أي أحد، مع محدودية وضعه الاقتصادي. فهو عاشق للمعرفة كرّس حياته من أجلها، واستنفر كل وجوده لكسبها ونشرها. إنه أنموذج للمثقف الجادّ المحتفظ بأصالته القيمية وانتمائه الديني، المنفتح على علوم عصره ومعارفه، والمهموم بواقع أمته وتطلعاتها.
وهناك بعدٌ آخر يتجلى في شخصيته وهو حبه العميق للإنسان مهما كان توجهه أو رأيه، وهذا ما يلمسه منه كل من اقترب منه وتعامل معه، فعلاقاته عابرة للأديان والمذاهب، وصلاته مفتوحة مع مختلف الطبقات من علماء وأدباء وسياسيين وأكاديميين وناشطين اجتماعيين ممن لهم صلة باهتماماته العلمية والأدبية.
وهذا ما يجد القارئ انعكاسه فيما كتب من تراجم في تاريخه (تاريخ القزويني) حيث كتب عن شخصيات من مختلف الديانات والمذاهب والقوميات والأحزاب والتوجهات، وتحدث عن صلته بهم، وحبه لهم، واحترامه لكفاءاتهم.
إنك تسمعه في جلساته يطرح آراءً تخالف آراء الآخرين، وينتقد بعض الممارسات والسلوك الذي يراه خارج القيم والأخلاق، لكنه لا يجرّح الأشخاص، ولا يوحي بأي ضغينة أو حقد على أحد، بل يلتمس الأعذار للآخرين، فهذا مبلغ علمهم، أو ما فرضته عليهم ظروف بيئتهم، أو أنه نتاج طبائعهم وخصوصياتهم النفسية.
تقتنع بصدق حديثه وطهارة قلبه من خلال عفويته، وإظهاره الاحترام والتقدير لكل كفاءة أو طاقة، ولكل متصدٍ لشأن من شؤون المعرفة والمجتمع. دون أن يمنعه ذلك من إبداء قناعاته وآرائه الخاصة في المجال الفكري والديني والاجتماعي.
إنه من نوادر الشخصيات العلمية الأدبية، وبرحيله المفاجئ فقدنا كنزاً من كنوز المعرفة، وأنموذجاً متميزاً في العطاء والخُلق الإنساني النبيل.
تغمده الله بواسع رحمته وألحقه بأسلافه الصالحين في دار النعيم، وألهم ذويه ومحبيه الصبر والسلوان، ووفق ابنه الفاضل السيد صالح لتحقيق تطلعات أبيه الراحل في أن يواصل المسيرة العلمية المعرفية لرجالات أسرته العريقة الكريمة.
وإنا لله وإنا إليه راجعون.
حسن موسى الصفار
17 شعبان 1441هـ
11 ابريل 2020م