المجتمعات والأفكار الجديدة

نشرت صحيفة الأيام البحرينية مقالاً لسماحة الشيخ حسن الصفار عنوانه: المجتمعات والأفكار الجديدة، جاء ذلك في العدد الصادر يوم الأربعاء 9 شعبان 1426هـ (14 سبتمبر 2005م).

وهذا نص المقال:


في‮ ‬يوم المبعث النبوي‮ ‬الشريف،‮ ‬هبط رسول الله‮ (‬صلى الله عليه وآله وسلم‮) ‬من‮ ‬غار حراء وهو محمل بأعباء رسالةٍ‮ ‬عظيمة في‮ ‬مجتمع جاهلي،‮ ‬يعرف‮ (‬صلى الله عليه وآله وسلم‮) ‬مدى عناد ذلك المجتمع،‮ ‬ومدى الجهل المتفشي‮ ‬فيه‮. ‬ولكن الله تعالى كلفه أن‮ ‬يقوم بهذه المهمة،‮ ‬وأعلمه أنها مهمةٌ‮ ‬ثقيلة‮: ﴿إِنا سَنُلْقِي‮ ‬عَلَيْكَ‮ ‬قَوْلاً‮ ‬ثَقِيلاً‮‬،‮ ‬وكان رسول الله‮ (‬صلى الله عليه وآله وسلم‮) ‬مميا ومستعداً‮ ‬لتحمل أعباء هذه الرسالة العظيمة‮.‬

‮ ‬نريد أن نتحدث عن موقف الناس تجاه البعثة النبوية في‮ ‬ذلك العصر،‮ ‬انطلاقاً‮ ‬من دراسة موقف المجتمعات تجاه الأفكار الجديدة الهادية‮. ‬

عبر التاريخ كانت هناك أفكار هادية مفيدة تُطرح على المجتمعات البشرية من أحد مصدرين‮: ‬إما من تطور عقل الإنسان وتجربته،‮ ‬وإما من الوحي‮ ‬وهو الشيء الرئيس‮. ‬وغالباً‮ ‬ما كانت هذه الأفكار الهادية والجديدة تواجه في‮ ‬البداية إعراضاً‮ ‬وإنكاراً،‮ ‬وقل أن تجد دعوةً‮ ‬من دعوات الرسل والأنبياء أو المصلحين ووجهت في‮ ‬أيامها الأولى بالترحيب والاستقبال،‮ ‬ولكن بعد مدةٍ‮ ‬من الصمود والاستقامة والمواجهة قد تصل تلك الدعوة الإلهية أو تلك الأفكار الإصلاحية إلى مستوى من القبول والنجاح،‮ ‬وقد لا تصل‮. ‬

‮ ‬وبهذه المناسبة ومن وحي‮ ‬المبعث النبوي‮ ‬الشريف ومعاناة رسول الله‮ (‬صلى الله عليه وآله وسلم‮) ‬في‮ ‬تبليغ‮ ‬الرسالة نسلط الضوء على طبيعة موقف المجتمعات من الأفكار الجديدة،‮ ‬حيث تنطلق المعارضة والتحفّظ‮ ‬غالباً‮ ‬من اللامبالاة‮.‬

‮ ‬فأكثر الناس لا‮ ‬يُبالون تجاه الدعوات والأفكار التي‮ ‬تُطرح في‮ ‬عصورهم ومجتمعاتهم،‮ ‬مهما كانت نوعية الفكرة والدعوة المطروحة سواءً‮ ‬على الصعيد الديني‮ ‬أو السياسي‮ ‬أو الاجتماعي،‮ ‬وقل أن تجد في‮ ‬بداية طرح الأفكار تجاوباً‮ ‬أو تفاعلاً،‮ ‬إذ أن أكثر الناس‮ ‬غير مبالين ولا‮ ‬يجدون أنفسهم معنيين بما‮ ‬يُطرح من حولهم‮. ‬

‮ ‬البعض من الناس‮ ‬يتصورون أن مجرد طرح الفكرة لأي‮ ‬مشكلة عالقة في‮ ‬المجتمع من خلال المنابر،‮ ‬ستُعالج القضية وتنتهي‮ ‬المشكلة،‮ ‬ولذلك‮ ‬يطلبون من العالم أو الخطيب أو الكاتب أن‮ ‬يتحدث عن هذه المشكلة أو تلك،‮ ‬ويطرح هذا الموضوع أو ذاك،‮ ‬وقد‮ ‬يتصور من‮ ‬يطرح الموضوع أنه قد قام بواجبه ومسؤوليته بتحدثه عن الأمر،‮ ‬ولكن المسألة أعمق من ذلك بكثير،‮ ‬ولا‮ ‬يعني‮ ‬ذلك عدم جدوائية الطرح،‮ ‬ولكن المسألة بحاجة إلى وقفة تأمل لحالة اللامبالاة عند أكثرية الناس تجاه الأفكار التي‮ ‬تُطرح‮. ‬

القرآن الكريم‮ ‬يعتبر حالة اللامبالاة بأنها‮ ‬غفلة،‮ ‬يقول تعالى‮: ﴿لَهُمْ‮ ‬قُلُوبٌ‮ ‬لا‮ ‬يَفْقَهُونَ‮ ‬بِهَا وَلَهُمْ‮ ‬أَعْيُنٌ‮ ‬لا‮ ‬يُبْصِرُونَ‮ ‬بِهَا وَلَهُمْ‮ ‬آذَانٌ‮ ‬لا‮ ‬يَسْمَعُونَ‮ ‬بِهَا أُوْلَـئِكَ‮ ‬كَالأَنْعَامِ‮ ‬بَلْ‮ ‬هُمْ‮ ‬أَضَل أُوْلَـئِكَ‮ ‬هُمُ‮ ‬الْغَافِلُونَ. ‬فهؤلاء مع امتلاكهم لعقولهم لكنهم لا‮ ‬يستخدمونها ليفقهوا بها ما‮ ‬يُطرح لهم من أفكار ودعوات جديدة،‮ ‬كما أنهم مع إبصارهم للأشياء لكنهم‮ ‬يفتقدون حالة التأمل فيما‮ ‬يدور ويجري‮ ‬حولهم،‮ ‬وأيضاً‮ ‬فهم مع استماعهم لهذه الدعوات لكنهم لا‮ ‬يهتمون بوعي‮ ‬ما‮ ‬يُطرح لهم،‮ ‬فهم‮ ﴿كَالأَنْعَامِ‮ ‬بَلْ‮ ‬هُمْ‮ ‬أَضَل‮،‮ ‬ذلك لأن الأنعام إذا لم تكن تعي‮ ‬فلعدم وجود عقل عندها،‮ ‬ولكن ما عذر الناس الذين‮ ‬يمتلكون عقولاً‮ ‬لا‮ ‬يُفعّلونها ولا‮ ‬يستثمرونها في‮ ‬الاتجاه الصحيح؟ هؤلاء‮ ‬يعيشون حالة‮ ‬غفلة‮: ﴿‬أُوْلَـئِكَ‮ ‬هُمُ‮ ‬الْغَافِلُونَ‮. ‬

‮ ‬القسم الآخر من الناس بمجرد أن تُطرح أمامه فكرة جديدة فإنها تُلفت نظره،‮ ‬ويتفاعل معها بالدراسة والتحليل،‮ ‬فقد تكون الفكرة صحيحة وقد تكون باطلة‮.‬

وفي‮ ‬السيرة النبوية العطرة نجد أن رسول الله‮ (‬صلى الله عليه وآله وسلم‮) ‬عندما بدأ بتبليغ‮ ‬رسالته وُوجه بالإعراض وعدم التجاوب من أكثرية الناس،‮ ‬وكانوا‮ ‬يتعمدون إظهار اللامبالاة،‮ ‬يقول تعالى‮: ﴿وَقَالَ‮ ‬الذِينَ‮ ‬كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ‮ ‬وَالْغَوْا فِيهِ‮ ‬لَعَلكُمْ‮ ‬تَغْلِبُونَ‮‬،‮ ‬وكان بعضهم‮ ‬يستقبل الزائرين لمكة ليُقنعهم بأن‮ ‬يضعوا قطناً‮ ‬في‮ ‬آذانهم حتى لا‮ ‬يسمعوا كلام رسول الله‮ (‬صلى الله عليه وآله وسلم‮)‬،‮ ‬لتتجدد المعاناة التي‮ ‬تحملها نبي‮ ‬الله نوح‮ (‬عليه السلام‮) ‬من قومه‮: ﴿قَالَ‮ ‬رَب إِني‮ ‬دَعَوْتُ‮ ‬قَوْمِي‮ ‬لَيْلاً‮ ‬وَنَهَاراً،‮ ‬فَلَمْ‮ ‬يَزِدْهُمْ‮ ‬دُعَائِي‮ ‬إِلا فِرَاراً،‮ ‬وَإِني‮ ‬كُلمَا دَعَوْتُهُمْ‮ ‬لِتَغْفِرَ‮ ‬لَهُمْ‮ ‬جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ‮ ‬فِي‮ ‬آذَانِهِمْ‮ ‬وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ‮ ‬وَأَصَروا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً‮. ‬

‮ ‬في‮ ‬مقابل هذه الحالة كان هناك أفراد تجاوزوا حالة اللامبالاة،‮ ‬ويتحدث التاريخ في‮ ‬سيرة الصحابة‮ (‬رضي‮ ‬الله عنهم‮) ‬عن أناسٍ‮ ‬من الأصحاب الذين بحثوا عن الدعوة كما كان من شأن سلمان الفارسي‮ (‬رضي‮ ‬الله عنه‮)‬،‮ ‬وأبي‮ ‬ذر الغفاري‮ (‬رضي‮ ‬الله عنه‮) ‬والذي‮ ‬لم‮ ‬يكن من سكان مكة إذ أن قبيلة‮ ‬غفار تعيش على طريق الشام،‮ ‬وكان شبابها معروفين بقطع الطرق،‮ ‬وبمجرد أن وصل خبر الدعوة لأبي‮ ‬ذر اهتم بالموضوع،‮ ‬وأرسل أخاً‮ ‬له‮ ‬يُقال له أنيس ليأتيه بالخبر،‮ ‬فذهب إلى مكة واستمع لكلام رسول الله‮ (‬صلى الله عليه وآله وسلم‮) ‬وعاد إلى أخيه،‮ ‬فسأله ما سمعت‮ ‬يا أخي؟ قال‮: ‬سمعت كلاماً‮ ‬يأخذ باللب،‮ ‬ويُذهل العقل،‮ ‬فيه أمرٌ‮ ‬بمعروف ونهيٌ‮ ‬عن منكر‮. ‬قال له‮: ‬وما هو؟ فلم‮ ‬يتمكن من أن‮ ‬يقرأ عليه كل الذي‮ ‬سمعه،‮ ‬فأصر أبو ذر أن‮ ‬يذهب بنفسه ليطلع مباشرة على الأمر،‮ ‬كانت الظروف في‮ ‬مكة صعبة،‮ ‬وكان لا‮ ‬يعرف من‮ ‬يسأله عن الأمر،‮ ‬مضى إلى الحرم الشريف واضجع فيه،‮ ‬فمر عليه أمير المؤمنين علي‮ ‬بن أبي‮ ‬طالب‮ (‬عليه السلام‮) ‬وهو‮ ‬غلام،‮ ‬فقال له‮: ‬أرى الرجل نائماً‮ ‬هنا،‮ ‬كأن ليس لك عشيرة،‮ ‬ودعاه لضيافته‮. ‬وسأله‮: ‬ما الذي‮ ‬جاء بك إلى مكة؟ قال‮: ‬سمعت أن هناك من‮ ‬يدعي‮ ‬أنه رسول‮. ‬فقال الإمام علي‮ (‬عليه السلام‮): ‬على الخبير وقعت،‮ ‬والله إنه لنبي‮ ‬حقاً‮. ‬قال‮: ‬فأوصلني‮ ‬إليه‮. ‬فجاء به إلى رسول الله‮ (‬صلى الله عليه وآله وسلم‮)‬،‮ ‬قال‮: ‬أنشدني‮ ‬مما عندك‮. ‬قال‮ (‬صلى الله عليه وآله وسلم‮): ‬لست بشاعر،‮ ‬ولا أنشد الشعر،‮ ‬ولكنه كلام الله،‮ ‬وبدأ‮ (‬صلى الله عليه وآله وسلم‮) ‬يقرأ عليه آيات من القرآن الكريم،‮ ‬ويشرح له الإسلام،‮ ‬فانفتح قلب أبي‮ ‬ذر للإسلام وأسلم في‮ ‬مجلسه،‮ ‬وكان من أوائل من اسلموا‮.‬

‮ ‬يقول أبو ذر‮: ‬سألني‮ ‬رسول الله‮ (‬صلى الله عليه وآله وسلم‮) ‬من أي‮ ‬القبائل أنت؟ قلت‮: ‬من‮ ‬غفار‮. ‬يقول‮: ‬فنظر في‮ ‬وجهي‮ ‬متعجباً‮ ‬لما‮ ‬يعرف عن قبيلة‮ ‬غفار‮. ‬فقال له الرسول‮ (‬صلى الله عليه وآله وسلم‮): ‬اذهب إلى قبيلتك وتكتم عن قريش،‮ ‬قال‮: ‬ولماذا أتكتم عن الحق؟ فكان أول صوتٍ‮ ‬يُعلن الإسلام في‮ ‬المسجد الحرام وفي‮ ‬شوارع مكة هو صوت أبي‮ ‬ذر الغفاري‮. ‬وتحمل بذلك أذى كبيراً‮ ‬من قريش،‮ ‬إلا أن العباس بن عبد المطلب حذر قريشاً‮ ‬من قبيلة‮ ‬غفار لكي‮ ‬لا تتعرض قوافلهم للسرقة،‮ ‬وبذلك تركوه‮ ‬يمضي‮ ‬لقبيلته‮. ‬فانطلق لقبيلته‮ (‬غفار‮) ‬ونشر دعوة النبي‮ (‬صلى الله عليه وآله وسلم‮) ‬وأسلمت قبيلته،‮ ‬كما تحرك إلى القبيلة المجاورة وهي‮ ‬قبيلة‮ (‬أسلم‮) ‬وأسلمت،‮ ‬وبعد هجرة النبي‮ (‬صلى الله عليه وآله وسلم‮) ‬إلى المدينة جاء أبو ذر ومعه حشدٌ‮ ‬كبير من قبيلة‮ (‬غفار‮) ‬وقبيلة‮ (‬أسلم‮).‬

القليل من الناس‮ ‬يكونون هكذا‮. ‬
إن على الإنسان أن‮ ‬يفتش عن الحق،‮ ‬ويبحث عن الحقيقة،‮ ‬ولا‮ ‬ينبغي‮ ‬أن تحجزه عنها سحب الاعتراضات والإشاعات،‮ ‬فغالباً‮ ‬ما تواجه دعوات الحق والأفكار الجديدة الصحيحة بالمعارضة والرفض‮. ‬وكما‮ ‬ينقل الشهيد الشيخ محمد المنتظري‮ ‬وهو من طليعة العلماء المجاهدين في‮ ‬الثورة الإسلامية في‮ ‬إيران،‮ ‬أنه كلما ذهب إلى مجتمع ورأى فيه أجواءً‮ ‬سلبية مناوئة لشخصية من الشخصيات،‮ ‬فإن ذلك‮ ‬يدفعه للانفتاح مباشرة على تلك الشخصية ومعرفة آرائها ومواقفها،‮ ‬وغالباً‮ ‬ما كان‮ ‬يجد أنها مخلصة تستهدف الإصلاح‮.‬

‮ ‬كما أن على ذوي‮ ‬الأفكار الجديدة أن‮ ‬يكونوا موضوعيين في‮ ‬توقعاتهم من مجتمعاتهم،‮ ‬فلا‮ ‬يتوهمون سرعة الإقبال والنجاح لآرائهم،‮ ‬فيصابون بالخيبة والإحباط،‮ ‬بل‮ ‬يتحلون بالصبر والاستقامة فذلك هو طريق الإصلاح والتغيير‮.‬

الأربعاء 9 شعبان 1426هـ (14 سبتمبر 2005م).