ثقافة الاعتراف بالآخر

آيات عديدة في القرآن الحكيم، تتحدث عن التنوع والتعدد في حياة البشر، فرغم أن البشر يتساوون في إنسانيتهم العامة، وفي خصائصهم الأولية المشتركة، إلا انهم في حقيقة الأمر يتمايزون بدرجة وأخرى داخل المحيط البشرى.

وهذا التنوع الذي يتحدث عنه القرآن في حياة البشر، إنما هو جزء من ظاهرة كونية، تشمل أصناف المخلوقات والكائنات، فمجرات الفضاء، وكواكبه متعددة متنوعة، وعالم النبات يحتوي على ألوان وأشكال مختلفة، رغم وحدة التربة التي ينبت منها، والماء الذي يسقى به يقول تعالى: ﴿وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكلُ إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون سورة الرعد / آية 4، ﴿والنخل والزرع مختلفاً أُكُله والزيتون والرمان متشابهاً وغير متشابه سورة الأنعام / آية 141.

وعالم الحيوان، هو الآخر عالم متنوع، فدواب الأرض، وطيور السماء، ليست أمة واحدة، وإنما هي أمم متعددة ومتنوعة، يقـول تعالى: ﴿وما من دابة في الأرض ولا طـائر يطـير بجناحيه إلا أمم أمثالكم سورة الأنعام / آية  38.

وحتى الملائكة، ليسوا جميعاً في مستوى واحد، وعلى شاكلة واحدة بل هناك تنوع في أشكالهم، ومهامهم، ومقامهم، يقول تعالى: ﴿الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير سورة فاطر / آية 1.

أما بالنسبة لعالم الإنسان، فقد تحدث القرآن الحكيم عن العديد من جوانب التنوع، في حياته، وضمن الأبعاد المختلفة.

التمايز الفردي:

فهناك نوع من التمّيز الشخصي، لكل فرد من أفراد البشر، فصورته، وصوته، يميزانه عن الآخرين، ولذلك تنطبع لكل فرد صورته وصوته الخاص في الأذهان، ولذلك أيضاً اعتمد التصوير الفوتوغرافي، والتسجيل الصوتي للدلالة على الشخص.  مجلة الحوار

وإذا كان يحصل شيء من التشابه في معالم الوجه، ونبرات الصوت، فانه أمر نادر يشار إليه، كما أن ذلك التشابه يمكن تجاوزه بالتدقيق والتأمل.

بيد أن خطوط أطراف أصابع يد الإنسان، تسجل تمايزاً دقيقاً بين أفراد البشر، فإبهام كل إنسان، والخطوط الموجودة فيه، لا تتشابه مع أي إنسان آخر، مهما كانت درجة القرابة بينهما، حتى في الحّيز الوراثي الواحد.

مليارات البشر، ولكل واحد منهم خصيصته الخاصة، في هذا المجال المتمايز بينهـم، ومن هنا يعتبر أخذ بصمات الإنسان دليلاً ثبوتياً واضحاً يستدل بها عليه. ولعل في قوله تعالى: ﴿بلى قادرين على أن نسوّي بنانه سورة القيامة / آية 4، إشارة إلى هذه الحقيقة العلمية، تسبق ما أثبته العلم أخيراً في هذا المجال، حيث أصبح لدينا علم مستقل بذاته، يسمى (علم البصمات) يستفاد منه في القانون الجنائي، وتعتمد عليه الدوائر الأمنية، في مكافحة الجريمة ومعرفة المجرمين.

ويبدأ تخلّق البصمة على أطراف أصابعنا، ونحن أجنة في بطون أمهاتنا، وتنتهي من رسم صورتها النهائية، في أربعة أشهر على وجه التقريب، ويقع هذا التشكل بطريقة يجهلها العلم.

ويستحيل أن يوجد تشابه بين بصمة إنسان وبصمة إنسان آخر، ولا يوجد احتمال للتشابه بين بصمات 17 ألف مليون شخص.

وقبل سنة 1883 م لم تكن البصمة معروفة.

هل هناك احتمال أن تتشابه بصمة إنسان مع إنسان آخر حتى لو كان الاثنان توائم؟

تقارن كل يوم 80 ألف بصمة على مستوى العالم، ولم تحدث حالة تشابه واحدة حتى بين التوائم، هذا ما أثبتته معامل الأبحاث، وأثبتت النظريات الرياضية أيضاً عدم وجود هذا الاحتمال بين 17 بليون شخص [1].

 تفاوت على مستوى العلم والمعرفة:

فمستوى الذكاء والفطنة، يتفاوت بين الناس، حتى أصبحت له مقاييس ومعدلات يرصد بها، وتحدد درجاته المتفاوتة، كما انو الرغبة في العلم والمعرفة، تختلف من شخص إلى آخر، وأخيراً فان للظروف والأجواء التي يعيشها الإنسان أثراً في إتاحة الفرصـة لكسب العلم والمعرفة.

ونتيجة لكل ما سبق، يتفاوت مستوى العلم والمعرفة عند الناس يقول تعالى: ﴿نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم سورة يوسف / آية 76.

   تفاوت الحالة الاقتصادية:

كما أن البشر في حياتهم المعيشية المادية، ووجهها الاقتصادي، متغايرون أيضا، فيوجد غني وفقير، وفيما بينهما درجات عدة متفاوتة، يقول تعالى: ﴿نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا سورة الزخرف / آية 32.

حيث أن تفاوت المواهب والقدرات والرغبات، بين أبناء البشر، هو الذي يشعرهم بحاجتهم إلى بعضهم البعض، وإلا فما الذي يدفع العامل، إلى بذل الجهد، لصالح صاحب المال، إن لم يكن العامل بحاجة إلى المال، كما أن صاحب المال، إنما يبحث عن العامل، لحاجته إلى الخبرة الفنية المهنية.. وهكذا في سائر مجالات الحياة، فالبشر ليسوا نسخا مكررة عن بعضهم البعض، في المواهب والقدرات والرغبات، وإنما هم متفاوتون مما يدفعهم للتعامل مع بعضهم، وتسخير بعضهم البعض لصالح المجموع ولتقدم حركة الحياة.

وهذا التفاوت يترتب عليه تمايز مستوى المعيشة واختلاف أنماطها.

أولا: التنوع العرقي والقومي:

رغم أن مصدر الإنسانية رجل واحد وامرأة واحدة، هما آدم وحواء، كما يقول تعالى: ﴿يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً سورة النساء / آية 1.مجلة الحوار

إلا أن استمرار حركة التناسل البشري، واتساع رقعة معيشتهم على سطح المعمورة، أدى بمرور الزمن، إلى أن تتكيف مظاهر وأشكال تكونهم الجسدي، بما يتناسب وظروف المحيط الطبيعي الذي يعيشون فيه، ونظراً لاختلاف الأجواء والظروف الطبيعية، التي تعيشها مجاميع البشر، فقد أفرزت حالات من الاختلاف، في المظاهر والأشكال بين تلك المجاميع.

وهذه ارجح نظرية يفسر بها تعدد الأعراق بين بني البشر، في مقابل نظريات مقولة العرق العنصرية التي أسس لها( غوبينو). والتي فنّدها دارسو علم الإنسان الغربيين أنفسهم، وأثبتوا أن ذلك التباين العرقي ليس له أهمية من حيث تفوق عرق على عرق، أو شعب على شعب، في المستوى الحضاري، بل أن القضية لا تعدو أن تكون سوى إيحاء، لإقناع دول وشعوب العالم المستضعف، بقدرية تلك الدونية العرقية، والتي هي السبب في تخلفهم الحضاري، وعليهم أن يبقوا كذلك إلى ما شاء الله..!! وأن لا يحاولوا النهوض بذاتهم الإنسانية والحضارية إلى مصاف تلك الدول المتقدمة.

يقول المفكر الفرنسي الدكتور (كلود ليفي شتراوس) أستاذ الانتربولوجيا الاجتماعية:

لكن تاريخ مقولة العرق، هو أيضاً تاريخ الفشل الذريع الذي منيت به هذه الأبحاث مراراً وتكراراً، فقد تبين أن جميع السمات التي ذكرت على التوالي، من اجل تحديد الاختلافات العرقية، ترتبط واحدة بعد واحدة بظاهرات تكيفّية، حتى ولو كانت أسباب قيمتها الانتخابية خافية علينا أحياناً، من ذلك مثلاً: حالة شكل الجمجمة الذي نعلم انه يتجه أينما كان نحو التكوّر، ومن ذلك أيضاً حالة لون الجلد، الذي يميل لدى أقوام المناطق المعتدلة، نحو اللون الفاتح، لكي يعوّض عن نقصان الإشعاع الشمسي، ويساعد الجسم على مقاومة داء الكساح، ثم ما لبثت الأبحاث أن انصبت على فئات الدم، لكنها سرعان ما أخذت تلاحظ أن هذه بدورها، لا تخلو من قيمة تكيفّية. وان هذه القيمة، ربما كانت مرتبطة بعوامل غذائية، أو ناجمة عن اختلاف حساسية حامليها تجاه أمراض معيـنة، كالـجدري أو الطـاعون، وربما كان الأمر كذلك أيضـاً بالنسبة لبروتينيات الـمصل الدمـوي [2].

ثانيا: التنوع اللساني واللغوي:

ومن أجلى ألوان التنوع في حياة البشر تنوع اللغات وتعددها، فقد أبان العلماء أن هناك حوالي 3000 لغة منطوقة في العالم اليوم، ولا تدخل اللهجات في إطار هذا العدد، وهي أشكال محلية للغة، وهناك لغات كثيرة، تتكلمها مجموعات صغيرة، مكونة من بضع مئات، أو آلاف من البشر، كما توجد أكثر من مائة لغة، يتكلم بكل منها مليون أو أكثر من الناس، ومن بين هذه اللغات توجد 19 لغة يتكلم بكل منها ما يربو على 50 مليون نسمة [3].

ومن أوسع اللغات انتشاراً، اللغة الصينية، التي يستعملها أكبر عدد من البشر، إذ هي لغة 1000 مليون إنسان، وفي الهند وحدها ثمة 850 لغة ولهجة محلية مستعملة. [4]

لقد منح الله تعالى الإنسان القدرة على التعبير عما يدور في نفسه، عبر النطق والكلام يقول تعالى: ﴿خلق الإنسان علمه البيان سورة الرحمن / آية 3ـ4.

ورغم أن الحيوانات تستخدم التصويت أيضا، للتعبير عن مشاعرها، و ضمن نظام حياتها الجمعي، إلا أن ذلك لا يرقى ولا يصل إلى مستوى اللغة التي يمتلكها الإنسان، يقول أحد الباحثين في علم الدراسات اللغوية: ( انه ليس لدى أي من المخلوقات الأخرى غير البشرية لغة حقيقية تتوفر فيها جميع المواصفات التي تتوفر في لغة الإنسان، فبعضها تتوفر فيه بعض تلك المواصفات والبعض الآخر تتوفر فيه مواصفات أخرى، إلا أنها جميعا تبدو مقصورة على إطارات معينة لا تتعداها، وليس في أي منها تلك المقومات التي تساعدها على خلق التراكيب التي تتطلبها المواقف الجديدة. فاللغة الحقيقية إذا ظاهرة خاصة بالإنسان) [5].

ولان بداية الإنسان كانت مجتمعا صغيرا، واحدا يتمثل في أبي البشر آدم، وزوجته حواء، وأبنائهما، فلا بد وأن تكون لهم لغة واحدة، تفرعت فيما بعد إلى عدة لغات، بسبب تكاثر أبناء البشر، والتباعد بين مجاميعهم، لذلك (يصنف الباحثون اللغات إلى عائلات، والعائلات اللغوية، هي مجموعة من اللغات المترابطة، لأنها جميعها نشأت بصورة بطيئة من لغة واحدة، موغلة في القدم، تسمى لغة الأصل. عندما يصبح المتكلمون بلغة ما منقسمين إلى مجموعات، لا يتصل بعضها ببعض، تستمر لغة كل مجموعة بالتغير بطريقتها الخاصة، وبعد عدة قرون تتكلم تلك المجموعات بشكل مختلف، إلى درجة بعيدة، بحيث أنها لا تفهم بعضها بعضا، ومع ذلك فان اللغات في كل عائلة، لا تزال تعتبر مرتبطة معا، لكونها نشأت من نفس اللغة الأصل. وكان أول من أشار إلى أن اللغات عائلات، هو ابن حزم الأندلسي، حيث أشار إلى أن اللغات أسر كالبشر) [6].

ورغم انه ليست هناك رؤية واضحة ثابتة، حول كيفية بدء اللغة في حياة البشر، ولا يتوفر تاريخ كامل لمراحل تطور اللغة، وتفرعها وتطورها، إلا أن كل المؤشرات تدل على وحدة اللغة في الأصل، ومن تلك المؤشرات وجود أسس عامة لجميع اللغات.

( لقد بيّن الكثير من اللغويين -ومن أهمهم تشومسكي وجر ينبرغ وهيلمسلف- أن هناك أسسا صوتية ونحوية ودلالية مشتركة، بين جميع لغات العالم، بغض النظر عما إذا كانت بين بعضها علاقات تاريخية أم لم تكن، ففي جميع لغات العالم، مفردات تدل على الأشياء والمشاعر والصفات والأفعال والعلاقات المختلفة، ومن الناحية البيولوجية ليس هناك فروق تذكر، من حيث دلالات هذه المفردات، كما أن هنالك أسسا أخرى مشتركة بين اللغات، وردت الإشارة إلى بعضها أعلاه، بالإضافة إلى هذا، فإن من المعروف أن أي طفل أو أي إنسان عموماً، بإمكانه أن يتعلم أية لغة في العالم، وعلى هذا فإن من الواضح أن المهارات الأساسية اللازمة لاكتساب اللغات المختلفة واحدة، على الرغم من وجود الاختلافات بين أجناس البشر من النواحي الفيزيولوجية) [7].

والدراسات اللغوية أصبحت علماً هاماً من العلوم الإنسانية، ولها مدارسها ونظرياتها المتعددة، وكلما توغل علماء اللغة في التحقيق والبحث، ظهرت لهم آفاق جديدة في هذا الميدان، وارتسمت أمامهم الغاز وأسئلة وأسرار، تحتاج إلى الاستكشاف والتنقيب، مما يثبت عظمة وأهمية هذا البعد في حياة الإنسان، والذي هو مظهر من مظاهر قدرة الخالق وعظمته.

لذلك يعتبر القرآن الحكيم تعدد اللغات واختلاف الألسنة، آية من آيات الله، ويذكرها إلى جانب ذكر خلق السماوات والأرض، يقول تعالى: ﴿ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم أن في ذلك لآيات للعالمين سورة الروم / آية 22.

ولا يعكس اختلاف الألسنة وتعدد اللغات، حالة تفاضل أو تفوق بين الشعوب، فليست هناك لغة تمنح التقدم للناطقين بها، أو لغة تفرض التخلف على أبنائها، وإنما اللغة وعاء وأداة، تتسع وتضيق حسب مستوى ثقافة المتحدثين بها، يقول الإمام جعفر الصادق عليه السلام ضمن حديثه المفصّل عن توحيد الله تعالى، الذي أملاه على تلميذه المفضّل بن عمر:

(تأمل يا مفضّل ما انعم الله تقدست أسماؤه به على الإنسان، من هذا النطق، الذي يعبّر به عما في ضميره، وما يخطر بقلبه، وينتجه فكره، وبه يفهم عن غيره ما في نفسه..).

إلى أن يقول عليه السلام: (وكذلك الكلام إنما هو شيء يصطلح عليه الناس، فيجري بينهم، ولهذا صار يختلف في الأمم المختلفة بألسن مختلفة).

فاللغة أداة للتفاهم والتخاطب، واختلافها من أمة إلى أخرى، لا علاقة له بجنس تلك الأمة ولا بمستوى رقيها أو انحطاطها، لذلك ترى أهل لغة معينة، في فترة من الزمن، في أوج التقدم والازدهار، ثم تتوقف مسيرة تقدمهم، ويتراجع مستواهم، فيصبحون في قاع التخلف والانحطاط، مع احتفاظهم بلغتهم، وقد يحصل العكس.

كما قد يتفاوت مستوى المجتمعات الناطقة بلغة واحدة، مما يدحض بعض النظريات العنصرية التي ترفع من شأن بعض الشعوب، وتغض من شأن شعوب أخرى، بناءً على اختلاف لغاتهم.

لقد حاول البعض في الماضي، أن يربطوا بين اللغة والجنس البشري، وان يدعوا بأن لغة الشعوب الآرية مثلاً من ذوي الشعور الشقراء والعيون الزرقاء، لغة راقية لأن من يتكلمها شعب راق متقدم عن غيره، بل اتخذوا من ذلك الادعاء بالسمو ذريعة لاستعمار البلدان الفقيرة، واستعباد شعوبها الجاهلة، المتخلفة عن ركب الحضارة، وقد اخذ بهذه النظرية في عصرنا الحاضر النازيون، في ألمانيا، والفاشيون في إيطاليا، وصنفوا الشعـوب ولغاتهم تصنيفهم المعروف، فأتى العرب في ذيل القائمة.

لقد ثبت الآن بالدليل القاطع، انه ليس هنالك مثل هذه العلاقة، وأن أي شعب قادر على اكتساب أية لغة من لغات الأرض، كما انه ليس للغة فضل على لغة أخرى، إلا بما اكتسبته خلال العصر الحاضر من تفوق في المفردات الدالة على العلوم والتقنيات، الحديثة التي تتميز بها الحضارة الغربية، وهو فضل مؤقت، ينمحي في وقت قصير. [8]

لكن دور الأنبياء يقتصر على تبليغ رسالة الله، وليس لهم حق السيطرة والهيمنة، وإجبار الناس على قبول دين الله، فانقسم الناس إلى شطرين رئيسيين: شطر استجاب لدعوة الأنبياء بقناعة وإيمان، والشطر الآخر أعرض عن رسالات الله، ونحت من أوهامه وتصوراته ديانات ومعتقدات وثنية خرافية، يقول تعالى: ﴿فهل على الرسل إلا البلاغ المبين • ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى ومنهم من حقت عليه الضلالة سورة النحل / آية 35 - 36.

   ضمن هذين الشطرين الرئيسيين، حدثت انشطارات عديدة وكثيرة، حيث اقتضت حكمة الله سبحانه، توالي إرسال الرسل وبعث الأنبياء، لأن تطور حياة البشر كان يستلزم تجديد وتطوير أنظمة الشرائع الإلهية، مع وحدة جوهر العقيدة في كل الرسالات السماوية، ولأن بعض اتباع رسالات الأنبياء والمنتمين إليها، كانوا يحدثون فيها التحريف والتزييف، حتى يغطي على أصل الرسالة وحقيقتها، فيقتضي ذلك ابتعاث نبي جديد، يعيد الناس إلى جادة الهدي الإلهي، حتى ختم الله تعالى الرسل والأنبياء بنبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

لكن ما حدث هو تشبث البعض ببقايا الرسالات السابقة، مع ما طرأ عليها من تحريف، وعدم إذعانهم للأنبياء اللاحقين، وهكذا تعددت الديانات ضمن الشطر الأول، اتباع الديانات السماوية وأهمها: الإسلام والنصرانية واليهودية.

أما بالنسبة للشطر الآخر، الذي اعرض عن رسالات الله، وابتدع له ديانات وثنية، فقد تفرقت بهم السبل، وتعددت الأهواء، لكن أشهر تلك الديانات: الهندوسية، والزرادشتية، والكنفوشية، والبوذية، والطاوية، والشنتو.

الأعـداد التقـريبية لأتبـاع بعـض الـديانات [9]

ارقام

وقد تحدث القرآن الحكيم عن تعدد الديانات، وأثبت ذكر أهم الديانات السماوية والوثنية، معتبراً ذلك التعدد والاختلاف ظاهرة طبيعية في هذه الحياة، لما منح الله تعالى الإنسان من حرية اختيار، وأودع في نفسه من نوازع الخير والشر، أما الحسم والفصل بين اتباع هذه الديانات فهو مؤجل إلى ما بعد الحياة الدنيا.

يقول تعالى: ﴿أن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا أن الله يفصل بينهم يوم القيامة أن الله على كل شيء شهيد سورة الحج / آية 17.

والآية الكريمة تذكر اتباع ست ديانات كانت معروفة وسائدة: المسلمون ﴿الذين آمنوا واليهود ﴿الذين هادوا والصائبة، والمسيحيين ﴿النصارى والمجوس والمشركين.

والمتمعن في جوهر المعنى القرآني في هذا المجال، وضمن سياقه الموضوعي، يلاحظ دون أدنى شك طبيعة الإقرار القرآني بحقيقة الاختلاف الديني بين بني البشر، بل ويبسط مدارات الحديث عن ذلك في أكثر من جهة وموضوع.

فأولاً: لا يـمكن إلغاء حـالة التعدد الديني بالقوة والفرض حيث ﴿لا إكراه في الـدين سورة البقرة / آية 256، و ﴿لكم دينكم ولي دين سورة الكافرون / آية 6.

ثانياً: والمؤمن بدين الله، عليه أن يعتمد الأسلوب اللائق المناسب في الدعوة إلى دينه، دون تهريج أو تجريح أو تشنج وانفعال: ﴿ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة سورة النحل / آية 125.

ثالثاً: يفترض أن يستهدف الإنسان من تدينه الوصول إلى الحقيقة، فلا بد له حينئذ من الانفتاح عـلى الديانات والآراء الأخرى، بحـثاً عن الحـق والصواب، ﴿الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه سورة الزمر / آية 18.

ولا يصح له أن ينكفأ على عقيدته الموروثة، دون تفكير أو نقاش ﴿قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون سورة المائدة / آية 104.

لذا ينبغي أن يسود الحوار السليم بين الديانات المختلفة، اعتماداً على الدليل والبرهان ﴿أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم سورة الأنبياء / آية 24.

والحوار بين الأديان يجب أن يكون موضوعياً هادئاً، على أساس الاحترام المتبادل ﴿ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن سورة العنكبوت / آية / 46.

رابعاً: والاختلاف الديني بين الناس لا ينبغي أن يؤدي إلى الصراع والنـزاع، فالأصل في العلاقة بين أبناء البشر، هو التعايش والانسجام، والاحترام المتبادل، أما من تسوّل له نفسه الاعتداء على المختلفين معه، فلا بد من ردعه ومواجهة عدوانه: ﴿لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم أن الله يحب المقسطين سورة الممتحنة / آية 8.

وينهى الإسلام عن جرح مشاعر اتباع الديانات حتى لو كانت وثنية، بسب مقدساتهم، لأن رد فعلهم الطبيعي سيكون سب مقدسات المسلمين ﴿ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم سورة الأنعام / آية 108.

 

مجلة الحوار، العدد الأول، محرم 1431هـ / يناير 2010م

[1] احمد بهجت / بصمة الأصابع / مقال في جريدة الحياة ص 20 العدد 12014 بتاريخ 24/ 8/ 1416 هـ
[2] كلود ليفي شتراوس / مقالات في الاناسه ص 225 / اختارها وترجمها د/ حسن قبيسي - الطبعة الأولى 1983م دار التنوير / بيروت.
[3] الموسوعة العربية العالمية ج21 ص 119 الطبعة الأولى 1996م الرياض.
[4] كتاب غينس للأرقام القياسية ص 150 الطبعة الأولى 1993م دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر / دمشق.
[5] الدكتور نايف خرما / أضواء على الدراسات اللغوية المعاصرة ص 152 سلسلة عالم المعرفة (9) / الكويت 1978م
[6] الموسوعة العربية العالمية ج 21 ص 123
[7] نايف خرما / أضواء على الدراسات اللغوية المعاصرة / ص 168
[8] نايف خرما / أضواء على الدراسات اللغوية المعاصرة / ص 242
[9] الموسوعة العالمية المجلد 10 ص 571