المثقف وإنتاج المعرفة الدينية

مفهوم المثقف من المفاهيم الحديثة تارة يقصد به من تكون وظيفته العمل الفكري في قبال الاعمال اليدوية، بما يشمل اهل الاختصاص وغيرهم من ذوي الاهتمام بالقضايا المعرفية.

وهناك من يرى ان المثقف من له درجة علمية اكاديمية واطلاع معرفي عام.

ونقصد في حديثنا بالمثقف: من له اطلاع وافر على معارف متعددة ليست بمعزل عن قضايا المجتمع العامة.

اما المعرفة الدينية فنقصد بها: الافهام المنتسبة للدين، فيما يتصل بالجانب الفكري من المعتقدات والمفاهيم والآراء، او الجانب العملي السلوكي من الاحكام والأخلاق والممارسات الشعائرية.

هذه الافهام لها تأثير على رؤية معتنقيها للحياة، وانماط سلوكهم فيها، وعلى مواقفهم من الاحداث واستجابتهم للتحديات.

ولهذا يمكن القول ان واقع المجتمعات المتدينة يتأثر بطريقة فهمها للدين.

المؤسسة الدينية وإنتاج المعرفة

الفهم الديني في مجتمعاتنا تنتجه المؤسسة الدينية، من الفقهاء، والعلماء، والخطباء، والدعاة، والمتصدين للحالة الدينية في المجتمع.

ولهذه المؤسسة الدينية سمات وخصائص، من أبرزها ما يلي:

1/ تنطلق هذه المؤسسة من مناهج تعليمية تتمحور حول النص الديني، وغالبًا ما تكون هذه المناهج تقليدية متوارثة.

2/ تبالغ المؤسسة الدينية غالبًا في الحرص على الاصالة والموروث الديني، فيكون انفتاحها محدودًا على تطورات الحياة، ومعطيات العلوم الحديثة.

3/ تهتم هذه المؤسسة بمراعاة الأعراف، والتقاليد السائدة في مجتمعات المتدينين نظرًا لوثيق صلتها بالحالة الشعبية.

ومن الطبيعي أن تنعكس هذه السمات على ما تنتجه هذه المؤسسة من معرفة دينية، فتكون في معظمها ضمن هموم المجتمعات القديمة، وبلغة العصور السابقة، وغير معنية بمواكبة تطورات الحياة، ومستجدات الفكر والمجتمع الإنساني الحديث. كما تغض الطرف عن اعراف وتقاليد في مجتمعاتها، قد لا يكون لها منشأ ديني، ولا تتفق مع مقاصد الدين، وقد تمنحها الشرعية والتأييد استجابة للعواطف السائدة. وهناك في المؤسسة الدينية من تجاوز هذه الحالة، وانطلق في افق التغيير والتطوير، لكنه يواجه العوائق التي تفرضها الحالة العامة الغالبة.

بروز شريحة المثقفين

في الماضي لم يكن هناك مزاحم ومنافس للمؤسسة الدينية في الاهتمام بالمعرفة وانتاجها بشكل عام، فالأمّية كانت سائدة، والناس منشغلون بشؤون حياتهم اليومية، وإذا كان هناك من يهتم بالثقافة والمعرفة، فهم افراد من الأدباء والكتّاب لا يطمحون إلى تأثير اجتماعي، أو هم غير قادرين على إنجازه.

اما اليوم فقد ساد التعليم، وانشئت الجامعات، وتوفرت الكتب والمطبوعات ووسائل الاعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، واتيحت فرص الوصول إلى المعلومات والمعارف، في مختلف مجالات الحياة.

فتشكلت في مجتمعاتنا شريحة من الأكاديميين في مختلف التخصصات العلمية، ومن حملة المعارف، والمهتمين بقضايا الثقافة والمجتمع، وهي شريحة متنامية.

ولأنها تختلف عن أبناء المؤسسة الدينية في التكوين العلمي والثقافي، وفي طبيعة الأجواء التي تنتمي اليها، من حيث الانفتاح على المجتمعات والحضارات المختلفة، عبر البعثات التعليمية، والمؤتمرات الدولية، والتواصل المعرفي مع مراكز التطور والتقدم في العالم.. فمن الطبيعي ان تكون هذه الشريحة في موقف ناقد وغير منسجم مع دور المؤسسة الدينية، وانتاجها المعرفي.

وهنا يجد المثقف نفسه أما أحد الخيارين:

اما الابتعاد عن الاهتمام بالشأن الديني، وتركه لأهله، والتفرغ لعمله الوظيفي وشؤونه الخاصة، وقد يمارس نشاطًا معرفيًا ثقافيًا بعيدًا عن الوسط والشأن الديني.

او التصدي لإنتاج ثقافة دينية مختلفة، وممارسة دور النقد للمؤسسة الدينية، ونتاجها المعرفي، مما يدخله في صدام مع جمهورها العريض، وقد يأخذ هذا الصدام منحى حادًا، يدفع المثقف إلى اتخاذ ردّ فعل تجاه الدين والحالة الدينية بمجملها. كما قد تتخذ بعض أطراف المؤسسة الدينية موقف الحكم عليه بالتمرد على الدين والضلال عنه.

المنافسة الإيجابية

انني اعتقد ان الموقف المطلوب من المثقف، هو المنافسة الإيجابية مع المؤسسة الدينية، في ميدان انتاج المعرفة والثقافة الدينية، وذلك عبر المنهجية التالية:

اولًا: الانفتاح على مصادر المعرفة الدينية

فلا يكتفي بالقراءة العابرة، والاطلاع السطحي المحدود على القضايا الدينية، فهناك ثروة عظيمة من العلم والمعرفة في التراث الديني، لا يصح تجاهلها، والتنكر لها، والاستهانة بها.

ان بعض المثقفين قد يتسرع في تكوين انطباع سلبي تجاه المعرفة الدينية، قبل ان يصرف جهدًا في الدراسة والبحث، وقد يأخذ موقفًا من بعض القضايا الدينية دون ان يطلع على خلفياتها وادلتها، وقد يكون الرأي الديني الذي ينتقده المثقف ليس مجمعًا عليه دينيًا، وإنما يمثل رأيًا من الآراء.

إن على المثقف أن يتعرف على الدين من داخله، وضمن المنهجية العلمية، وهذا ما أشار اليه المفكر «محمد اركون» في كتابه «من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي» حيث قال: (ولهذا ينبغي على المفكر المسلم الحديث أن يحتاط لنفسه جيدًا ويجهز نفسه علميًا بشكل لا غبار عليه فيطلع على كل ما يخص معرفة النصوص القديمة أو الشروط التقنية للاجتهاد الكلاسيكي. ينبغي أن يمتلك كل ذلك أولًا، فلا يعتبره تحصيل حاصل، أو شيئًا تراثيًا لا قيمة له. ذلك أن الانتقال من مرحلة الاجتهاد الكلاسيكي إلى مرحلة نقد العقل الإسلامي، ينبغي أن يُصَمَّم ويصوّر على أساس أنه امتداد للاجتهاد الكلاسيكي وإنضاج له)[1].

ان من المؤسف ان نرى اهتمام المستشرقين والباحثين الغربيين بدراسة مصادر التراث الإسلامي وقضاياه بجدية ودقة، بينما يعرض عن ذلك بعض مثقفي مجتمعاتنا الإسلامية، إما لفقدهم الثقة في تراثهم، وانبهارهم بثقافة الآخر، أو خضوعًا لحالة الكسل، وفقدان الجدّية في البحث العلمي.

وقد تيسرت في هذا العصر سبل الوصول إلى العلوم الشرعية الدينية، فهناك صياغات جديدة لبعض هذه العلوم كالفلسفة، والفقه، وعلم، أصول الفقه، وعلم الحديث، بجهود بعض الاعلام المجددين كالسيد محمد باقر الصدر، والشيخ محمد جواد مغنية، والسيد محمد تقي الحكيم، والشيخ عبدالهادي الفضلي، والشيخ حيدر حب الله، والدكتور مهدي فضل الله، وآخرين.

إن دراسة مصادر المعرفة الدينية تجعل المثقف أكثر عمقًا في احاطته بالفكر الديني، وأقرب إلى الموضوعية في تقويمه ونقده. وأقدر على المشاركة والمنافسة في انتاجه وعرضه.

ثانيًا: التواصل مع المؤسسة الدينية

إنه لا مبرر للقطيعة والتباعد بين المثقف والمؤسسة الدينية، فالمؤسسة الدينية مطالبة بالانفتاح على المثقفين، للاستفادة من خبرتهم وكفاءتهم، والمثقف مطالب بالمبادرة للتواصل مع جهات هذه المؤسسة في مجتمعه، ومع المرجعيات الدينية في المراكز الرئيسة، إذا كان يهمه شأن الدين الذي ينتمي إليه، ومصلحة الأمة والمجتمع.

وعبر التواصل يقدم المثقف نقده، وتقويمه، ومقترحاته، ويضع الجهات الدينية في صورة الواقع الذي يعيشه العالم والمجتمع، ويلفتهم إلى خطورة التحديات التي يدركها، فقد يكون اطلاع الجهات الدينية غير كاف على هذا الصعيد.

إن المؤسسة الدينية متجذرة في مجتمعاتنا، وذات تأثير كبير على واقع هذه المجتمعات الكفري والسلوكي، ولا يمكن إلغاء دورها في المجتمعات المنتمية للدين، وأي جهد يُصرف في ترشيد مسار هذه المؤسسة، وإصلاح نقاط الضعف والخلل فيها، سينعكس إيجابًا على أداء دورها، وستكون رافعة نهوض وتقدم في المجتمعات والأوطان، أكثر من أي شريحة أخرى.

ثالثا: التصدّي لإنتاج المعرفة الدينية

حين يتصدى المثقف لإنتاج المعرفة الدينية، من خلال البحث والدراسة لمنابعها ومصادرها، فإن نتاجه سيكون إضافة نوعية مهمة للساحة الفكرية والاجتماعية.

ذلك أن المثقف يستمد معارفه من العلوم الحديثة، ومن مواكبته لواقع الحياة، ونشأته الأكاديمية، وهو على تماسّ مباشر مع التحديات الفكرية والاجتماعية، ولديه تواصل مع طبقات واتجاهات مختلفة. كما أنه أقل خضوعاً لتأثير واقع الأعراف والتقاليد الشعبية، قياساً بحال أعضاء المؤسسة الدينية، فهو أكثر جرأة على النقد والتجديد في مجال المعرفة الدينية.

ويتواجد المثقف في ساحات قد لا تكون ضمن ساحات تواجد المؤسسة الدينية، مما يضيف فرصاً جديدة لانتشار المعرفة الدينية.

وفي تاريخنا المعاصر لمعت أسماء لمثقفين مسلمين من خارج المؤسسة الدينية كان لهم عطاء مميز في رفد المعرفة الدينية، مثل عباس محمود العقاد.

ومحمد إقبال اللاهوري، ومالك بن نبي، وفي إيران عدد من المفكرين الذين كان لهم دور في حركة الفكر الإسلامي والنهضة المعاصرة، كالمهندس مهدي بازركان، وجلال آل أحمد والدكتور علي شريعتي.

إنه يمكن للمثقف أن يتناول أي موضوع في المعرفة الدينية يجتهد في بحثه، وبإمكانه أن يكون فيه ناقداً لآراء العلماء، ضمن منهجية النقد العلمي، وسيكون نقده محفزاً لعلماء الدين للمناقشة والبحث، مما يعالج حالة الركود والسكون، وستكون النتيجة لمصلحة العلم والمعرفة، فقد تستجيب المؤسسة الدينية لتعديل وتغيير بعض الآراء، أو تثبت للمثقف جانب الخلل فيما طرحه.

وكما تحدث الشهيد مطهري أن طرح الأسئلة والاشكالات على الفكر الديني هو عامل تقوية للفكر الديني، يقول رحمه الله: (إنني على العكس من الكثيرين لا أغضب من الشكوك والشبهات التي تثار حول الإسلام ـ وبالرغم من حبي لهذا الدين واعتقادي به ـ بل أفرح من أعماق قلبي، لأنني أعتقد وقد علمتني التجربة أن الهجوم على هذا الدين السماوي المقدس كلما كان أقسى وأشد في أي جهة من الجهات ازداد جلاء وبهاء وبدا مرفوع الهام قوياً)[2].

وليس هناك مجال من مجالات المعرفة الدينية يحظر على المثقف بحثه وإبداء النظر فيه ضمن الإطار العلمي، الا في مجال إصدار الفتوى، فإن إصدارها يستلزم امتلاك أدوات الاستنباط والاجتهاد.

وقد يواجه المثقف اعتراضات من بعض علماء الدين على ما يطرح من فكر ورأي يرتبط بالمسألة الدينية، لكن مثل هذه الاعتراضات تحصل في داخل المؤسسة الدينية بين أطرافها واتجاهاتها المختلفة، ولا ينبغي أن تكون مانعاً وعائقاً عن تحمل المثقف المسلم المسؤولية تجاه دينه ومجتمعه.

ولا ينبغي أن يكون رد فعله انسحابيا ولا عدائيًا، بل ضمن إطار الحوار العلمي، والتزام اخلاق الاختلاف المشروع.

 

مجلة الكلمة عدد 109

مجلة الكلمة عدد 109، السنة 27، خريف 2020/ 1442هـ

[1] محمد أركون: من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي، ترجمة: هاشم صالح، ص11.
[2] مرتضى مطهري: نظام حقوق المرأة في الإسلام، ص37.