التشاور في العمل الجمعي

عن الإمام الحسن : «مَا تَشَاوَرَ قَوْمٌ إِلَّا هُدُوا إِلَى رُشْدِهِمْ»[1].

أهمّ ما يجب أن يتوفر في العمل الجمعي هو التشاور لإنضاج الرأي والوصول للقرار الأفضل.

ومهمة قائد العمل الجمعي تحفيز من حوله على التفكير، وإبداء الرأي، ليستفيد من عصارة عقولهم وافكارهم. وليتحمّلوا معه مسؤولية القرار الذي يُتخذ.

وهذا يستلزم أن يتحلى القائد بصفات تؤهله للقيام بهذا الدور.

ومن أبرزها التواضع والتقدير لمن حوله.

فإذا كان القائد والمدير يعيش حالة استعلاء، ويرى نفسه مدركًا وفاهمًا لكلّ جوانب العمل، وأنّ العاملين معه ليس لديهم ما يقدمونه من رأي ونظر، فإنه لن يهتم باستكشاف آرائهم.

تحدثت مرة مع رئيس جمعية أهلية وسألته هل تناقشت مع مجلس الإدارة حول موضوع طرحه؟ فأجاب: إنّهم مساكين من أهل الله.

إنّ الشعور بالاستعلاء والاستهانة بمستوى الآخرين خلق ذميم، يحرم الإنسان من فرص الاستفادة من آراء الآخرين، ويمنعه من إدراك نواقصه ونقاط ضعف رأيه، وينفّر الآخرين منه.

ورد عن علي : «إعْجابُ المَرْءِ بِنَفْسِهِ بُرْهانُ نَقْصِهِ، وَعُنْوانُ ضَعْفِ عَقْلِهِ»[2].

إنه مهما كان مستوى الإنسان من المعرفة والخبرة فإنه لا يستغني عن الاستفادة من آراء الآخرين، كما ورد عن علي : «لا يَسْتَغْنِي العاقِلُ عَنِ المُشاوَرَةِ»[3].

فقد يلفته أحد إلى فكرة لم ترد على ذهنه، وقد ينبهه إلى ثغرة لم يكن منتبهًا لها، وقد يضيف إلى رأيه ما يكمله، وقد تسيطر فكرة على ذهنه فينحاز لها وتخفي عليه سلبياتها. لذلك ورد عن علي : «إنَّما حُضَّ عَلَى المُشاوَرَةِ لأنَّ رَأْيَ المُشيرِ صِرفٌ وَرَأيَ المُسْتَشيرِ مَشُوبٌ بِالهَوى»[4].

وعنه : «مَنِ اِسْتَقْبَلَ وُجُوهَ اَلْآرَاءِ عَرَفَ مَوَاقِعَ اَلْخَطَأ»[5].

الاهتمام بالرأي الآخر

وهناك صفة مهمة أخرى يحتاجها القائد في مجال الاستشارة، وهي مرونته في التعامل مع الآراء المخالفة لرأيه، واستعداده للتنازل عن رأيه لصالح الرأي الأفضل والأنسب.

إنّ بعض الأشخاص يرغب في أن يوافقه الآخرون فيما يطرح من رأي، وينزعج من أيّ معارضة لرأيه، وبعضهم يصعب عليه التراجع عن رأيه وفكرته، وكأن ذلك يكشف عن ضعفه أمام الآخرين. وهذا خطأ كبير. إنّ الله يصف عباده الصادقين بأنّهم ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّـهُ ۖ وَأُولَـٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ[6].

ورد عن علي : «وَلاَ تَظُنُّوا بِي اِسْتِثْقَالاً فِي حَقٍّ قِيلَ لِي، وَلاَ اِلْتِمَاسَ إِعْظَامٍ لِنَفْسِي، فَإِنَّهُ مَنِ اِسْتَثْقَلَ اَلْحَقَّ أَنْ يُقَالَ لَهُ، أَوِ اَلْعَدْلَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ، كَانَ اَلْعَمَلُ بِهِمَا أَثْقَلَ عَلَيْهِ، فَلاَ تَكُفُّوا عَنْ مَقَالَةٍ بِحَقٍّ، أَوْ مَشُورَةٍ بِعَدْلٍ»[7].

وقد يكون من المصلحة أن يتنازل القائد عن رأيه، وإن كان مقتنعًا بصواب رأيه، وخطأ الرأي الآخر، إذا كان يمثل رأي الأكثرية، أو لغرض تربوي، أو لاقتضاء الظروف.

درس من الاستشارات النبوية

وتقدم لنا السيرة النبوية أروع مثل ونموذج حول الشورى والاستشارة.

فالنبي محمد كما نعتقد هو أكمل الناس عقلًا، وأفضلهم معرفة، وأدقهم نظرًا في الأمور، وهو متصل بالوحي الإلهي، ويحظى بالرعاية والتسديد من قبل الله تعالى. ومع ذلك فإنّ الله يأمره باستشارة من حوله. حيث خاطبه تعالى بقوله: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّـهِ[8].

وكان كما ورد في سيرته كثير الاستشارة لأصحابه، وقد ألّف الأصحاب منه قوله لهم: «أَشِيرُوا عَلَيَّ».

ومعلوم أنّ استشارته لأصحابه لم تكن في مجال الأحكام الشرعية ولا الأوامر الوحيانية وإنّما في مجال إدارة الأمور واعتماد السياسات والقرارات فيما لم ينزل فيه وحي.

وقد جاء في سيرته أنه ربما تراجع عن رأيه لصالح أصحابه، كما حصل ذلك في موارد عديدة.

لماذا يستشير النبي أصحابه؟

وهنا ناقش علماء المسلمين: هل كانت استشارات الرسول لأصحابه لأغراض تربوية واجتماعية فقط، أم أنّ لهذه الاستشارات هدفًا واقعيًّا هو إنضاج الرأي والوصول للقرار الأفضل؟

الرأي الذي يتبناه معظم العلماء والمفسرين: أنّ النبي إنّما كان يستشير أصحابه لتربيتهم على نهج الشورى، ولتعزيز هذا النهج في الأمة، ومن أجل أن يتحملوا مسؤولية القرار حين يشاركون في صناعته، ولتأكيد الثقة في نفوسهم. وليس الهدف من استشارته لهم الاستعانة بهم على إنضاج الرأي والوصول إلى القرار الأفضل؛ لأنه غني عن ذلك باتصاله بالوحي، وبكمال عقله.

ورووا في هذا السياق حديثًا عن ابن عباس قال: لما نزلت ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ قال رسول الله : «أما إنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَغَنِيَّانِ عَنْها وَلكِنْ جَعَلَهَا اللَّهُ رَحْمَةً لِأُمَّتي‌، فَمَنِ اسْتَشارَ مِنْهُمْ لَمْ يُقْدِمْ إلَّا رُشْداً وَمَنْ تَرَكَها لَمْ يُقْدِمْ إلَّا غَيّاً»[9].

وقال الحسن البصري: وسفيان بن عيينة أنّ الرسول إنّما أمر بالمشاورة ليقتدي به غيره، ويصير طريقة متبعة في أمته.

لكن بعض محققي العلماء خالف هذا الرأي، وذهب إلى أنّ استشارة النبي لأصحابه، كان لها غرض حقيقي إلى جانب آثارها وثمراتها التربوية والاجتماعية، وممن ذهب إلى هذا الرأي  أبو بكر أحمد بن علي الرازي الجصاص (ت: 370هـ) : (وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِالْمُشَاوَرَةِ عَلَى جِهَةِ تطبيب نُفُوسِهِمْ وَرَفْعِ أَقْدَارِهِمْ وَلِتَقْتَدِيَ الْأُمَّةُ بِهِ فِي مِثْلِهِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ أَنَّهُمْ إذا استفرغوا مجهودهم في استنباط ما شاوروا فِيهِ وَصَوَابِ الرَّأْيِ فِيمَا سُئِلُوا عَنْهُ ثُمَّ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَعْمُولًا عَلَيْهِ وَلَا مُتَلَقَّى مِنْهُ بِالْقَبُولِ بِوَجْهٍ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ تطبيب نُفُوسِهِمْ وَلَا رَفْعٌ لِأَقْدَارِهِمْ بَلْ فِيهِ إيحَاشُهُمْ وإعلامهم بِأَنَّ آرَاءَهُمْ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ وَلَا مَعْمُولٌ عَلَيْهَا)[10].

ويوافقه على هذا الرأي الشيخ ابن عاشور (ت: 1393هـ)، حيث جاء في تفسره التحرير والتنوير: (وَظَاهِرُ الْأَمْرِ أَنَّ الْمُرَادَ الْمُشَاوَرَةُ الْحَقِيقِيَّةُ الَّتِي يُقْصَدُ مِنْهَا الِاسْتِعَانَةُ بِرَأْيِ الْمُسْتَشَارِينَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَقِبَهُ: ﴿فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ)[11].

بين الغيب والخبرة البشرية

ومن يرى أنّ الاستشارة ليس المطلوب منها هدفًا واقعيًّا وإنّما مجرد التربية، ينطلق من مسألة عقدية ترتبط بمستوى علم النبي المستمد من الله سبحانه وتعالى فهو مطّلع على كلّ الأمور والمصالح، وتنكشف له كل الحقائق، فلا يحتاج إلى أيّ رأي أو خبرة بشرية.

وهناك اتجاه يناقش هذا الإطلاق، يقول الشيخ المفيد: (وليس من شرط الأنبياء عليهم السلام أن يحيطوا بكلّ علم، ولا أن يقفوا على باطن كلّ ظاهر. وقد كان نبيّنا محمد صلى الله عليه وآله أفضل النبيين وأعلم المرسلين، ولم يكن محيطاً بعلم النجوم، ولا متعرّضاً لذلك ولا يتأتى منه قول الشعر ولا ينبغي له. وكان أميًّا بنص التنزيل ولم يتعاط معرفة الصنائع ولما أراد المدينة. استأجر دليلًا على سنن الطريق. وكان يسأل عن الأخبار ويخفى عليه منها ما لم يأتِ به إليه صادق من الناس)[12].

وقال الشريف المرتضى: (والمراد بالآية: ﴿وَمٰا أَدْرِي مٰا يُفْعَلُ بِي وَلٰا بِكُمْ أنني لا أدري ما يفعل بي ولا بكم من المنافع والمضار الدنيوية كالصحة والمرض والغنى والفقر والخصب والجدب، وهذا وجه صحيح واضح لا شبهه فيه)[13].

وبغضّ النظر عن هذا النقاش فإنّ من المتفق عليه أنّ النبي يمارس حياته ويدير الأمور فيما لم ينزل به وحي، ضمن الحالة البشرية الطبيعية، وليس ضمن المعادلات الغيبية، حتى ولو كان عالمًاً بها.

لذلك ورد عنه أنه قال: «إِنَّمَا أَقْضِي بَيْنَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَاَلْأَيْمَانِ وَبَعْضُكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَيُّمَا رَجُلٍ قَطَعْتُ لَهُ مِنْ مَالِ أَخِيهِ شَيْئاً فَإِنَّمَا قَطَعْتُ لَهُ بِهِ قِطْعَةً مِنَ اَلنَّارِ»[14].

وفي وراية البخاري، عن أم سلمة أَنَّ رَسُول اللَّه ﷺ قَالَ: «إِنَّمَا أَنَا بشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ؛ فأَقْضِي لَهُ بِنحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بحَقِّ أَخِيهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ»[15].

إنّ الدرس الذي يجب أن نأخذه من الاستشارات النبوية هو اعتماد هذا النهج النبوي والاستفادة من آراء من هم حولنا، وأن نتحلى بالتواضع وتقدير آراء الآخرين، وألّا ننحاز أو نتعصب لآرائنا.

 

 

خطبة الجمعة 23 جمادى الآخرة 1442هـ الموافق 5 فبراير 2021م.

[1] تحف العقول، ص 233.
[2] غرر الكلم، حكمة: 2007.
[3] غرر الكلم، حكمة: 256.
[4] غرر الحكم، حكمة: ٣٩٠٨.
[5] الكيني: الكافي: ج8، ص22، ح4.
[6] سورة الزمر، الآية: 18.
[7] نهج البلاغة: ومن خطبة له خطبها بصفين، خطبة 216.
[8] سورة آل عمران، الآية: 159.
[9] تفسير الدرّ المنثور، ج 2، ص 90.
[10] الرازي الجصاص: أحكام القرآن، ج2، ص330.
[11] الطاهر بن عاشور: التحرير والتنوير، ج3، ص267.
[12] الشيخ المفيد: المسائل العكبرية، ص34.
[13] الشريف المرتضى: رسائل الشريف المرتضى، ج3، ص105.
[14] الكيني: الكافي، ج7، ص414.
[15] صحيح البخاري، ح7169.