الدين بين تحديات الداخل والخارج

مكتب الشيخ حسن الصفار
برنامج: حوار العلماء
ضيف البرنامج: سماحة الشيخ حسن الصفار
المحاور: الأستاذ عبدالله محمد آل داوود
بُث الحوار ليلة السبت 24 صفر 1443هـ الموافق 1 أكتوبر 2021م.

المحاور: بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطاهرين..

قبل البدء في البرنامج أحب الأخوة أن يرسلوا رسالة عزاء بمناسبة فقد مجموعة من الأعلام في عامنا الحاضر..

بسم الله الرحمن الرحيم

العلماءً حصون الإسلام وورثة الأنبياء، وإذا مات المؤمنُ الفقيه ثًلِمَ في الإسلامِ ثلمة لا يسدًها شيء.

وقد تهاوت في عامنا نجومُ شامخة في العلم رغِبَ الأخوة في ذكرهم وقراءة سورة الفاتحة لهم، لدى يتقدم مأتم السيدة خديجة بالمنيرة بأحر التعازي لمقام صاحب العصر والزمان ، وإلى حوزاتنا العلمية في النجف الأشرف وقم المقدسة وإلى كافة المؤمنين برحيل العلماء الأجلاء خدمة شريعة سيد المرسلين، منهم: آية الله العظمى السيد محمد سعيد الحكيم، ومنهم آية الله الشيخ حسن زاده آملي، ومنهم آية الله السيد محمد رجائي، ومنهم آية الله السيد عادل العلوي، وآية الله السيد حسن النبوي، ومنهم سماحة العلامة الشيخ عبد الأمير قبلان، والدكتور العلامة محمود المُظفر، ومنهم سماحة الشيخ حبيب الصعيليك، وسماحة الشيخ أمين أبوتاكي.

في الخصال عن الإمام الصادق :(إذا كان يوم القيامة بعث اللهُ عزوجل العالم والعابد، فإذا وقف بين يدي الله عزوجل قيل للعابد: انطلق إلى الجنة، وقيل للعالم: قف تشفع للناس بُحسنِ تأديبك لهم).

مشاركة الشيخ الصفار حول التعزية:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ وآله الطاهرين، أُقدر هذه الالتفاتة الطيبة من الأخوة الأعزاء في إدارة البرنامج بتوجيه التعازي بمناسبة فقدِ ساحتنا العلمية والدينية لهذه الكوكبة من العلماء الأفاضل اسأل الله تعالى لهم المغفرة والرحمة وأن يعوض الله الأمة والساحة بأحسن الخلف والعوض وأود التأكيد هنا في سياق هذه التعزية على نقاط ثلاث:

أولاً: يجب علينا أن نكون متفائلين وواثقين بأنّ أمتنا أمةٌ ولود والحمد لله، وعلى طول الزمن ومر العصور كان كلما غاب أقمارُ وكواكب من العلماء، فإن الساحة تُنتج وتزهر بأنوار كواكب وأقمار أخرى، فأجيال العلماء متلاحقة ومستمرة، وفي حوزاتنا العلمية جهودٌ كبيرة تُبذل لتخريج العلماء والفقهاء والعاملين، غاية ما هناك أن كلَّ شخصية حتى تأخذ موقعها من البروز تحتاجُ إلى وقتٍ وإلى زمن.

ثانيًا: نلحظ أن بعض العلماء وبعض الرموز تكونُ مجهولةً في حياتها، قد تُعرف على صعيدٍ محدود في منطقتها أو في ساحة عملها وليس هناك اتجاه لتعريف جماهير الأمة على المستوى العالمي بهؤلاء الرموز وهذه الشخصيات إلا عند افتقادهم ووفاتهم، هذه ملاحظة ينبغي تلافيها، العلماء الأعلام ينبغي تعريف جماهير الأمة بهم في حياتهم ووجودهم حتى تعرف الأمة هذه الشخصيات والدور الذي يقومون به، ولا ننتظر إلى أن يتوفى العالم حتى نتحدث عن شخصيته وعن مكانته.

ثالثًا: هذه الأسماء التي ذُكرت تبين أن مواقع عمل علماء الأمة مختلفة ومتنوعة، فهناك الفقيه الذي يكون في مقام المرجعية الدينية كالسيد الحكيم، وهناك العالم العارف المهتم بالبُعد الفلسفي والأبحاث الفلسفية والتخصصية كالشيخ حسن زاده الآملي، وهناك المتصدي للعمل والقيادة المؤسساتية الميدانية كالعلامة الشيخ عبدالأمير قبلان في المجلس الإسلامي الشيعي في لبنان، وهناك العالم الأكاديمي مثل الدكتور الشيخ محمود المظفر والذي صرف عمره في الجامعات وفي التعليم الأكاديمي، وهناك الخطيب المُبلَّغ مثل الشيخ حبيب الصعيليك، وهناك العامل في المجال الحوزوي كالشيخ أمين أبوتاكي.

وهكذا ينبغي أن نعرف أن العلماء كلٌّ في موقعه له دوره، وعلينا أن نقدر العلماء والعاملين في مواقعهم المختلفة، لأن هذه المواقع المختلفة تشكل منظومة متكاملة لا تستغني عنها ساحةُ الأمة، وساحة المعرفة.

مرةً أُخرى تغمد الله جميع هؤلاء العلماء والأكاديميين والشهداء بواسع رحمته، كما فقدنا أيضًا كثيرًا من الأطباء والأكاديميين والعاملين في المجال الصحي وفي مختلف المجالات نسأل الله تعالى لهم جميعاً المغفرة والرحمة، وأن يطيل أعمار بقية العلماء والعاملين ومن يخدمون مجتمعاتهم وأوطانهم.

المحاور: أيها الأحبة نعود للقائنا هذه الليلة

الدينُ في أبسط تعريفاته هو عقيدة إلهية ينبثق عنها نظامٌ كاملٌ للحياة وتعترض الدين كرؤيةٍ كونية ونظريةٍ عقدية وكتطبيقٍ عملي متجسد في الخارج العديد من التحديات، بعضها يرجع إلى التداخل الفكري وبعضها الآخر يرجع إلى تزاحم المصالح وصراع القوة المتباينة وملامح الواقع الاجتماعي والسياسي القائم، بعض هذه التحديات تتجه إلى أصل الدين والتدين، وبعضها الآخر ينصب حول سلوك المتدينين، أو المنتسبين إلى الدين، وواقعهم العملي، والذي قد يُتعمد ربطه بالدين ولو قسرًا، ولسعة الموضوع وتشعبه سوف نقتصر على بعض هذه التحديات التي يتعرض لها الدين الإسلامي خصوصًا، كإطارٍ عام نخلُص منه لواقعنا الشيعي في نهاية المطاف، لنضع أيدينا على بعض الزوايا الحادة، والإثارات المتكررة.

أيها الأحبة: يسعدني أن يكون ضيف هذا اللقاء الكاتب والمفكر والخطيب والناشط الاجتماعي الشيخ حسن الصفار حفظه الله تعالى. حياكم الله جناب الشيخ

الشيخ الصفار: حياكم الله أكثر، أهلاً بكم وبجميع الأخوة الحاضرين، والمستمعين، والمشاهدين.

المحاور: حفظكم الله، سماحة الشيخ في الدائرة الأولى: دائرة المشكلات الوجودية، بعد نهاية الحرب الباردة، استشرف بعض الباحثين الغربيين أنه قد حان دور الإسلام ليظهر بصورة العدو، غير أن ظاهرة الكراهية والخوف المرضي الجماعي من الإسلام والتي عُرفت بالإسلامُ فوبيا تفشت بعد أحداث 11 سبتمبر عام 2001م، وتفجير برجي التجارة العالمية، وفي سبيل التحشيد بما عرف بالحرب على الإرهاب تم استحضار العديد من أدبيات الحروب الصليبية والفترة الاستعمارية التي أعقبت سقوط الدولة العثمانية، والعمل على تعزيز صورة نمطية للمسلمين كافة تصفهم بالتخلف والإرهاب واحتقار المرأة والبعد عن العقلانية، وعدم مراعاة حقوق الإنسان، شيخنا الفاضل بعد عقدين من الزمن على تلك الأحداث المؤسفة والمؤلمة كيف تقيمون امتداد تلك الظاهرة؟ وما هو واجب المسلمين في سبيل إبطالها؟ ماذا نفعل كي نحول هذه الظاهرة إلى ظاهرة محدودة محصورة بل بالعكس قد تكون بابًا للدعوة إلى فكرنا ومعتقدنا؟

الشيخ الصفار: الحياة ساحةٌ مفتوحةٌ للصراع والتحدي بين الأمم وبين الحضارات، وبين الاتجاهات الدينية والفكرية المختلفة، ولم تمر على البشرية أزمنةٌ توقفت فيها مثل هذه الصراعات والتحديات، لكنها قد تظهر في بعض الفترات أكثر من فتراتٍ أخرى، وقد تكون تجاه بعض الأديان والتوجهات أكثر منها تجاه أديانٍ وتوجهاتٍ أخرى، أما في الأصل فحالة الصراع والتحدي موجودة قائمة في المجتمعات البشرية، في كل الظروف والأوضاع، وفي كل الأجيال والأزمنة، ما تعرض له الإسلام خاصةً في الفترة الأخيرة يكشفُ عن أمرين:

الأمر الأول: وجود القوة الحاقدة على الإسلام، والطامعة في الهيمنة على بلدان ومجتمعات المسلمين.

الأمر الثاني: يكشف عن قوة الإسلام، هذه القوة المتجددة التي تسترعي الانتباه، من الواضح على المستوى العالمي أن الإسلام هو أسرع الأديان انتشارًا، وهو أكثر دين يمتلك نفوذًا وفاعليةً في نفوس أتباعه، الأديان الأخرى لا تمتلك هذا المستوى من النفوذ والفاعلية في نفوس أتباعها، كان هناك رهان أن يكون القرن العشرون وحتى القرن الحادي والعشرون موعدًا لأفول الدين، بأن ينتهي التوجه والنفوذ الديني، لكن ما حصل هو العكس.

فقد حصل إقبال على الدين وخاصة بالنسبة للإسلام، وفي المجتمعات الغربية إقبالٌ يُلفت النظر إلى الإسلام، في أمريكا ومختلف المناطق والدول الأوروبية، وساعد على ذلك وجود الجاليات الإسلامية في تلك البلدان، ومن خلالها صار هناك إقبالٌ على الإسلام، هذا الأمر دفع ببعض الجهات الحاقدة والطامعة لكي تبدأ أو تجدد هجومها على الإسلام، هنا أيضًا ينبغي أن لا يغيب عن ذهننا ما يرتبط بنا، فوجود توجهات متشددة في داخل المسلمين أعطت الفرصة لأعداء الإسلام، فهذه الجهات المتطرفة أعطت أوراقًا وفرصًا لأعداء الدين حتى يستغلوا هذه الحالة ضد الدين، وغير مستبعدٍ أن يكون تشجيع تلك الجهات للتيارات الإرهابية والمتطرفة يكون المقصود منه حصول هذه النتيجة، وقد اعترف السياسيون الغربيون ضمن الصراع بينهم بذلك فالرئيس الأمريكي السابق (ترامب) اتهم الإدارة التي قبله بأنهم وراء ظهور داعش، وهم وراء ظهور هذه الحركات الإرهابية وهذا ما أشارت إليه تقارير مختلفة، وأكدته شواهد وأحداث متعددة.

إذاً وجود هذه الحالة السلبية داخل المسلمين كانت عاملاً مساعداً على هذا الصعيد، لكن النتائج لحد الآن تعطينا الكثير من التفاؤل والأمل، التفاؤل الذي يدفعنا إلى تحمل المسؤولية بثقة، وإلى الاستمرار في جهودنا ونشاطنا لتجديد حقائق الدين ومفاهيمه بالشكل السليم الصحيح تجاه هذه الحملات التي تستهدف الإسلام والمسلمين.

المحاور: أحسنتم سماحة الشيخ، لا أرغب أن أُطيل أكثر في الدائرة الأولى، اتجه للدائرة الثانية، سماحة الشيخ، الشعور بعدم المشاركة والاسهام في بناء المعرفة وبناء الحضارة المعاصرة، لدى أفراد المجتمع الإسلامي، يولد شعورًا مرًا بتدني تقدير الذات حضاريًا، والانكفاء والاكتفاء بالعيش على هامش الحضارة، على كل الصعد، ومن المؤلم أن يُعزى ذلك للإسلام، رغم حثه على طلب العلم ، مما يسبب مشكلات تمس الهوية والانتماء، كيف ندفع بأنفسنا لتقدير الذات، وندفع بأبنائنا للأخذ بأسباب المشاركة والتقدم العلمي وتجاوز ذلك الشعور؟

الشيخ الصفار: في الواقع نحن نجد أننا بين نوعين من الشعور:

شعور الزهو بأمجاد الماضي، أي أننا نحن المسلمين كنا وأنتجنا، وعلماؤنا كانوا وأبدعوا وآيات القرآن، تشير إلى حقائق العلم.

كما أن هناك شعورًا آخر هو الشعور بالانهزامية، فحين النظر إلى الواقع الحاضر نجد أن مشاركتنا في الإنتاج العلمي والحضاري والصناعي والمعرفي مشاركة محدودة، وهذا ما تتحدث عنه الأرقام، قياسًا إلى حجمنا بين بني البشر، هذا يولد نوعًا من الشعور بالهزيمة والدونية واحتقار الذات عند قسمٍ من المسلمين.

في الواقع أن المبالغة في الشعور بالزهو والافتخار بالماضي أمرٌ ليس صحيحًا، نحن يجب أن نعتز بتاريخنا، لكن هذا الاعتزاز ينبغي أن يكون دافعًا لمواصلة تلك المسيرة التي نعتز بها، وليس الاكتفاء بها، كما قال الشاعر العربي:

أغنى بني تغلًبٍ عن كلَّ مكرمةٍقصيدةُ قالها عمرُ بن كلثومِ

وكما يقول شاعر آخر:

قل للذي يدعي بالأهل مفخرةًلقد صدقت ولكن بئس ما ولدوا

لا يصُح أن يستغرقنا الشعور بالزهو بأمجاد الماضي فنعتبر ذلك تعويضًا وإشباعًا، فلا نجتهد في الإنتاج في عصرنا الحاضر.

وكذلك فإن الشعور بالهزيمة خطأ لأن مختلف الأمم قد تمر بانتكاسات وتراجعات، والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: ﴿وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ، فقد تمر الأمة بانتكاسة. ويجب أن نعترف بالانتكاسة التي مررنا بها على الصعيد الحضاري، وعشنا عصورًا من التخلف، وهذا التخلف صنع واقعًا لا يتناسب مع القيم التي تحملها الأمة، ولا مع التاريخ الذي كان في ماضي الأمة، هذه انتكاسة يجب أن نعترف بها، لكن أن نعقد العزم على تجاوزها.

أمم كثيرة مرت بها انتكاسات، ولكن حاولت أن تجدد ثقتها بنفسها، وأن تستأنف مسيرة العمل، وحتى في الأمم المعاصرة، وجدنا أن اليابانيين وبعد ما أصابهم في الحرب العالمية الثانية كيف استطاعوا أن يستعيدوا ثقتهم بأنفسهم، وأصبحوا الآن قوةً كبيرة منافسة في العالم، وكذلك ألمانيا بعد ما أصابها في الفترة النازية، والحرب التي كانت قي ذلك الوقت، كيف استطاعت أن تعيد بناء نفسها، وأن تصبح من أقوى الدول على الصعيد الأوربي والعالمي.

نحن يجب أن نشعر بما نمتلك من عناصر قوة، فنحنُ نكتشف كل يوم كيف أن طاقات وكفاءات من أبناء الأمة تحتل مواقع كبيرة على المستوى العالمي، بعض أبناءنا الذين يعيشون في أمريكا والغرب، على أيديهم تمت بعض الإنجازات العلمية، لأنهم عاشوا في أجواء تمكنهم من الإبداع والإنتاج فلو توفرت لهم في بلدانهم ومناطقهم أجواء مشابهة لكانوا أيضًا قادرين على الإبداع والإنتاج.

في العصور الوسطى كان الفكر الديني المسيحي منغلقًا يمنع من التفكير العلمي، ويمنع من الانطلاق مع آفاق الكون، في الإسلام على العكس من ذلك تعاليمه تشجع على التفكير الحر في آفاق الكون، فينبغي أن نكون أكثر ثقةً بأنفسنا وأن نتجاوز ما مر بنا من عصور نكسةٍ وتخلف.

وألخص كلامي في أمرين:

الأمر الأول: بث روح الثقة بالذات وأعني بها الروح التي تدفع إلى العمل وليس التغني بأمجاد الماضي.

الأمر الثاني: أن نبادر كلٌ في موقعه على الصعيد الفردي والاجتماعي لدعم المبدعين وذوي الطاقات والموهوبين، وتشجيعهم في اتجاه العلم والمعرفة، على مستوى أوطاننا الإسلامية، فالدول والحكومات الإسلامية ينبغي أن تهتم أكثر على هذا الصعيد.

المحاور: الدائرة الثالثة شيخنا العزيز واقعنا الإسلامي، وشيئًا من واقعنا الشيعي، رغم الأخوة الإسلامية، والدعوة للتآخي والمحبة الإيمانية، ورغم النصوص الدينية، ونصوص أهل البيت، إلا أن ظاهرة الجزر المتباعدة، وأزمة التواصل على المستوى الإسلامي بل المذهبي، وأزمة الثقة المترسخة، والشك والريب متعمقة في الواقع الإسلامي، كيف يمكننا تجاوز هذه المعضلة؟

الشيخ الصفار: هذا مظهر من مظاهر التخلف الذي تعيشه الأمة، فالأمة التي تسودها روح العمل والإنتاج والتقدم، لا تنشغل بالقضايا الجانبية، إنما تتجه إلى المستقبل والإنتاج والعمل، لكن الأمم التي تعيش حالة التخلُّف، عادةً ما تنشغل بالدفاتر القديمة كما يقولون، فتتجه إلى الانشغال بقضايا التاريخ الماضي، وقضايا بعض الحوادث والخلاف على بعض المعتقدات والأفكار، ومن الأحاديث الواردة في السيرة النبوية أن النبي خرج يومًا على أصحابه في المسجد فرآهم يتنازعون في مسألة القدر، الحديث يقول: (فغَضبَ حتَّى احمرَّ وجهُهُ ، حتَّى كأنَّما فُقِئَ في وجنتيهِ الرُّمَّانُ ، فقالَ : أبِهَذا أُمِرتُمْ؟ أم بِهَذا أُرسلتُ إليكم؟).

"أبِهذا أُمِرتُم"، أي: هل أمَرَكم اللهُ بالانشِغالِ والتَّنازُعِ في هذا الأمرِ؟! وهذا استنكارٌ مِن النَّبيِّ لفِعْلِهم، "أم بِهذا أُرسِلتُ إليكم؟!"، أي: هل أرسَلني اللهُ إليكم بمِثلِ هذا ولأجْلِ هذا؟! وهذا استِنْكارٌ آخَرُ منه .

أنا جئتكم لكي تكونوا أمةً وسطًا شهداء على الناس، وحتى تكونوا إنموذجًا رياديًا في الأمم والمجتمعات ولم آتِ لكي تنشغلوا بهذه القضايا.

إن من مظاهر تقدُّم الأمم سلامة شبكة العلاقات، إذ ينبغي أن تكون سليمة حتى تستطيع الأمة النهوض والتقدم. فالنبي إنما صنع تلك النهضة الإسلامية بعد أن أصلح شبكة العلاقات بين الناس، يقول تعالى: ﴿وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِۦٓ إِخْوَٰنًا، تصحيح شبكة العلاقات هي التي مكنت المسلمين من الانطلاق.

أمتنا الإسلامية الآن من مظاهر تخلفها هذا الخلل والعطل في شبكة العلاقات بين مكوناتها وتوجهاتها ومذاهبها، علينا أن نولي جهداً كبيراً لإصلاح شبكة العلاقات، ومن أهم ما نحتاج إليه على هذا الصعيد هو الإقرار بشرعية الاختلاف في الرأي، بأن نقر لبعضنا بعضًا بحق التفكير، هذا الحق الذي منحه الله للإنسان، حتى فيما يرتبط بالإيمان بوجود الله سبحانه وتعالى.

إن الله سبحانه أراد أن يؤمن به البشر عن قناعة وتفكير، وليس عن فرض وإكراه حيث ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ.

ينبغي أن نبث ثقافة احترام الرأي الآخر، وشرعية التفكير، حتى نستطيع تجاوز كثيرٍ من هذه المشاكل وكوننا جزرًا متباينة نعيش حالة الريب والشكوك في بعضنا البعض.

المحاور: سماحة الشيخ: انشغال المتدينين في فترةٍ سابقة بالصراع المذهبي في وسائل التواصل الاجتماعي، وإثارة بعض النقط الحساسة، والتماس الأخطاء وبعض العثرات، كل فريق عند الآخر، وانتقال هذه الظاهرة وتجاوزها من الحالة الإسلامية للأسف الشديد إلى داخل البيت الشيعي أيضًأ، فكيف يمكننا أن نحُد من آفات اللسان التي تُدرس في الأخلاق، والتي قد يتبناها جميع المسلمين نظريًا، ولكن في واقعهم العملي تقريباً نفتقدها بشكل كبير جداً.

الشيخ الصفار: العقلية والسلوك الأخلاقي منهجية واحدة تنعكس بانعكاسات وتمظهرات مختلفة، إذا كانت العقلية عقلية اهتمام حضاري، تتجاوز الأمور الجانبية، هذه العقلية الحضارية تتعامل مع الصراع المذهبي بوعي وبمنطقية، وعلى أساس الحوار واحترام المذاهب المختلفة.

وذات الشيء داخل المذهب الواحد، إذا كان الإنسان عنده اهتمام حضاري في داخل مذهبه، واهتمام بالمصالح العامة، ويهتم بواقع التحديات التي يعيشها المجتمع، فإنه لا يسمح لنفسه أن يُشغل الناس بالصراع والخلاف حول قضايا جزئية تفصيلية. وفي الغالب الإنسان الذي ليس لديه عقلية حضارية ولا هموم عامة تشغل ذهنه، ينشغل بهذه القضايا الجزئية، سواءً كان داخل الدين أو داخل المذهب.

وفي الجانب الأخلاقي والسلوكي من لديه خُلُق إسلامي يتعامل ضمن هذا الخُلُق في الصراع المذهبي، أو في الصراع داخل المذهب. وغالباً يكون المتشددون في القضايا المذهبية هم ذاتهم المتشددون في القضايا الخلافية داخل المذهب، فيتشدد ضد المذاهب الأخرى، ثم يتشدد أيضاً داخل مذهبه في المسائل الخلافية.

ومع الأسف نحن لا نأخذ العبرة، رأينا مثلاً على صعيد إخواننا أهل السنة حينما بدأ خط التشدد ضد الآخر الديني، مثل ترديد الدعاء بهلاك اليهود والنصارى، والتحريض على احتقارهم وإيذائهم خلافًا للتعاليم الدينية والأخلاقية، انتقل بعدها إلى التشدد داخل الإسلام ضد المذاهب الأخرى، فلم يُكتفى بالدعاء على اليهود والنصارى والتحريض عليهم، بل تجاوزوهم إلى التعبئة ضد الشيعة والصوفية والأشاعرة وغيرها، وفي مرحة لاحقة بدأ الاتجاه إلى الدائرة الداخلية الخاصة، وشهدنا داخل التوجه السلفي توجهات متشددة يكفرون بعضهم بعضًا، توجهات القاعدة والإرهابيين كفروا حتّى كبار العلماء في المملكة، المنهجية التي تعودوا عليها ضد الأديان الأخرى صارت ضد المذاهب الأخرى ثم مارسوها داخل توجههم السلفي المذهبي.

ينبغي أن نكون حذرين إذا رأينا تيارًا من أبناء الشيعة يتشددون تجاه السنة، لا نصفق لهم، ونرحب بهم، وندّعي بأنهم يدافعون عن مذهب أهل البيت ، فمن يدافع عن مذهب أهل البيت لابد أن يلتزم بمنهجيتهم، أما من يريد أن يدافع عن منهجية أهل البيت بالمنهجية الأموية، منهجية السب والشتم واللعن التي مارسها بنو أمية، منهجية التطرف ضد المذاهب الأخرى، إذا سكتنا عن هذا السلوك، فإن نفس هذه المنهجية سينقلها إلى داخل المذهب ضد بقية الشيعة المختلفين معه في الرأي. ورأينا المتشددين داخل منهجهم يمارسون التطرف فيما بينهم عندما اختلفوا في بعض القضايا، استحضروا نفس اللغة ونفس العقلية ونفس الأساليب.

من هنا يجب الحذر، وخلاصة ما أريد التأكيد عليه في هذا المحور:

أولاً: لابد أن تتجه عقولنا للاهتمامات الحضارية، وللمصالح والتحديات الكبيرة أمام مجتمعاتنا وأوطاننا، وليس الانشغال بالقضايا الجانبية التفصيلية.

ثانياً: ضبط أخلاق التعامل مع من نختلف معه، حتى تكون شبكة العلاقات سليمة داخل المجتمع، ويجب التأكيد عليها مع اختلاف التوجهات الفكرية والسياسية.

المحاور: شيخنا البعض يبرر خشيته من تجديد الخطاب الديني بالقول بأن الأمة تعيش حالة من الهزيمة الفكرية، وأنها عند محاولة إعادة القراءة، سوف تميل إلى الجانب الذي يتبناها الجانب القوى بعيداً عن نص الشريعة والعقيدة. كيف نعالج هذه الخشية؟

الشيخ الصفار: إذا أردنا ان نقرأ واقع الساحة الدينية قراءة موضوعية، تنطلق من حسن الظن وحسن النية، وهذا ما ينبغي أن يكون عليه المتدينون، هناك اتجاهان في ساحتنا الدينية: اتجاه يمكن أن نطلق عليه الاتجاه المحافظ، واتجاه نطلق عليه الاتجاه الإصلاحي.

الاتجاه المحافظ: لديه قلق على الهوية، لا يريد أن الأمة أو الطائفة تفقد هويتها الدينية، تفقد أصالتها في مدرسة أهل البيت ، وألا تحصل حالة ذوبان وميوعة في الانتماء الديني والمذهبي.

الاتجاه المحافظ يحمل هذا القلق، وهو قلقٌ مشروعٌ في الأصل، نحنُ نحترم هذا القلق، يريدون الحفاظ على هوية الأمة وهوية الطائفة، وعلى سلامة العقيدة.

الاتجاه الإصلاحي: هو الآخر يحمل قلق وجود بدع وانحرافات قد حصلت، أو على الأقل أخطاء، تمثل وجهات نظر عند بعض العلماء السابقين وبعض الأوساط، وألفها بعض الناس وساروا عليها، لكنها تشكل فهما أو سلوكًا خطاءً، والسكوت عليها والاستمرار فيها وخاصة مع التحديات المعاصرة يُنتج أضرارًا كبيرة على المذهب والدين، وحيث نؤمن بأن باب اجتهاد مفتوح فمن الممكن أن تكون هناك وجهة نظر أخرى ترى أن هناك ما هو أصح، فالاتجاه الإصلاحي، يحمل هم التصحيح، بأن هناك بعض الأخطاء التي لا ينبغي الاستمرار عليها لأن أضرارها ستكون كبيرة.

من ناحيةٍ أخرى فإن سمعة المذهب والطائفة والدين تواجهه تحديًا خاصة مع التطورات الجديدة في العالم، والجيل الجديد من أبناءنا أصبحت عنده تساؤلات وإشكالات، فلابد أن يكون هناك إجابة على هذه الإشكالات، والإشكالات لا تعالج كلها في إطار التبرير وإن ما لدينا كله صحيح، في بعض الأحيان يقتضي الأمر الاعتراف بأن هناك شيئًا من الخطأ، أو على الأقل أن هناك ما كان مناسباً لعصرٍ مضى، ينبغي أن يتغير، وأن يتجدد، فإذا لم يكن هناك تجديد ولم يكن هناك تغيير نخاف على أجيالنا وأبناءنا أن تقل ثقتهم بدينهم ومذهبهم، فالاتجاه الإصلاحي أيضاً عنده قلق، وينبغي أن نعترف بقلق الاتجاه المحافظ وقلق الاتجاه الإصلاحي فما الحل؟

الحل هو إتاحة الفرصة للطرفين، وكل طرف يقدم أفضل ما عنده:

الاتجاه المحافظ عليه أن يجتهد في أن يقدم أفضل أدلته، وأفضل براهينه على آرائه ومواقفه، وأن يجتهد في تأصيل وتأكيد ما يعتقد به ويؤمن به، والطرف الإصلاحي أيضاً ينبغي أن تتاح له الفرصة أن يجتهد وأن يقدم أطروحاته.

وبهذه الطريقة نستطيع أن نخلق حالة من التوازن، وأن نتيح الفرصة للمكاسب، بحيث يكون هناك تكامل بين الاتجاهين، أما إذا صارت هناك حالة وصاية، وأن أحد الطرفين يرى أحقيته بالتعبير عن الدين وحده، ولا مجال للرأي الآخر، هذا لا يمكن ولا يصح، إنه يُمثل انتزاعًا لحق الطرف الآخر في أن يعبّر عن رأيه، ومن الذي أعطاك الوصاية على الدين، فأنت تعبر عن رأيك والآخر لا يعبر عن رأيه؟ هذا الحق لا يستطيع أحد أن يتبناه لنفسه فقط وينتزعه من الآخر. وكذلك لو أن الاتجاه الإصلاحي منع الاتجاه المحافظ من طرح آرائه ولم يعترف له بحق طرحها هذا خطأ أيضاً.

إذاً الحل هو إتاحة الفرصة لكي تطرح كل جهة رأيها، والساحة هي الحكم، والناس هم الذين يختارون، ولا يصح إلا الصحيح.

وعلينا أن ننطلق من حسن الظن بالنيات، ومشروعية القلق لكل طرف من الأطراف، حتى نستطيع تجاوز هذه الحالة.

هذا الصراع مستمر، ولا يوجد وقت من الأوقات في تاريخنا لم يكن مثل هذا الاختلاف، حتى بين كبار علماءنا فالشيخ الصدوق ألّف كتابًا اسمه (الاعتقاد)، ثم جاء الشيخ المفيد وكتب: (تصحيح الاعتقاد) وسجّل ملاحظات عقدية على ما طرحه الشيخ الصدوق، فلا يصح للشيخ الصدوق أن يمنع المفيد من أن يطرح رأيه، ولا يحق للشيخ المفيد أن يتنكر لجهود الشيخ الصدوق وآرائه العلمية، وإنما يقول ذاك اجتهاده وهذا اجتهادي، في الحوزات العلمية تجد فقيهًا يتربى في مدرسة فقيه ويتربى على يده ويتتلمذ حتى إذا امتلك القدرة على الاجتهاد والاستنباط، صار يناقش أستاذه، ويطرح غير آراء أستاذه.

المرجع السيد السيستاني حفظه الله له آراء كثيرة يخالف فيها رأي أستاذه السيد الخوئي رحمه الله، ويناقشها، ويفتي بفتاوى تختلف عن فتاويه في موارد عديدة، وهذه هي الحالة الطبيعية.

إذاً ندعو إلى أن يكون هناك إقرار لكلا الطرفين المحافظ والإصلاحي بأن يطرحا رأيهما، وأن يُعبرا عن تحفظاتهما وقلقهما، لكن مع الاعتراف بأن للآخر حقه في أن يطرح أيضاً رأيه ورؤيته.

المحاور: سماحة الشيخ رغم وجود جهود بحثية للتوثق التاريخي، وإعادة قراءة الأحداث التاريخية، وترسيخ ما هو راسخ منها، واستبعاد ما هو بعيد منها، إلا أن هناك مبالغة في الخشية من أن تؤدي هذه المراجعة إلى هدم تراث روائي، أو تراث تاريخي، أو رؤية متوارثة عبر الأجيال، فما هي الرسالة التي ينبغي أن نوصلها إلى الطرفين، سواء من يقول بضرورة التحقق والتوثيق، ومن يقول بالمسامحة والقبول بما نُقل في كتب التاريخ؟

الشيخ الصفار: في الوقع ينبغي أن نقرّ بأن الخلاف في القضايا التاريخية أمرٌ طبيعي ومشروع، وليست هناك قضية تاريخية في الغالب بين المسلمين إلا وفيها خلاف، بدأً من أيام وسنوات ولادة النبي والأئمة إذ لا تكاد تجد إماماً من الأئمة إلا وهناك اختلاف في تاريخ ولادته ووفاته في السنة أو الشهر أو اليوم أو فيها جميعا.

وكذلك في بعض تفاصيل الأحداث التاريخية هناك اختلاف في السيرة النبوية، وفي سيرة الأئمة ، وهذا الاختلاف حتى بين كبار علماء الطائفة فضلاً عن سائر الكتب، فمثلاً في مولد النبي معظم علماء الشيعة يرجحون السابع عشر من شهر ربيع الأول، إلا أن الشيخ الكليني وفي كتابه الكافي يرى أن الأصح 12 من ربيع الأول وهو ما يذهب إليه إخواننا أهل السنة.

إذاً الخلاف في القضايا التاريخية ليست قضية مهمة، والقرآن الكريم يعلمنا منهجية التعامل مع قضايا التاريخ، وتوجهنا ألا تقضوا وقتًا ولا تصرفوا جهدًا في الحديث حول تفاصيلها، فلتذهبوا للجوهر ورسالة الحدث التاريخي، ففي حديث القرآن الكريم عن أهل الكهف وعن عددهم، يقول تعالى: ﴿سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ ۖ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ۚ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ ۗ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا فليس مهمًا كم كان عددهم، المهم هي الرسالة التي في قصة أهل الكهف.

وحينما يتحدث القرآن الكريم عن حياة الأنبياء لا يذكر لنا الأسماء ولا الأوقات، ولا الأماكن في الغالب، فعندما يتحدث عن قصة ابني آدم، يقول تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ۖ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ولم يذكر اسميهما، وتسميتهما بقابيل وهابيل جاء في الروايات، فالقرآن يتحدث عن الحدث لتأكيد رسالته.

نحن مع الأسف الشديد حينما نتحدث عن قضايا التاريخ نتعقب الجزئيات، وننسى الرسالة التي يحملها الحدث، فنتعارك حول بعض الأحداث وتفاصيلها، وحول بعض الجوانب وبعض المقولات الجزئية، وننسى رسالة الحدث، لذا علينا أن نؤكد في نقاشنا حول القضايا التاريخية أن الأولوية للرسالة وللمضمون، والتفاصيل ليست مهمة لو اختلفنا فيها.

المحاور: شيخنا لو قال بعضهم وقد قيل إن هذه الحالة يجب أن تبقى حالة بحثية يتداولها أهل الاختصاص والعلماء ولا تنزل إلى القاعدة الشعبية.

الشيخ الصفار: هذا ليس صحيحاً، لماذا؟

لأننا نعيش في عصرٍ قد انفتح فيه الناس على المعرفة، في الماضي كان يقال أن هناك تخصصات وهناك أهل تخصص، ولا يقبلون التطفل على تخصصهم. أما الآن فكل العلوم وكل التخصصات قد انفتحت أمام البشر، في الماضي كان الحكام يقولون السياسة هذا شأن الحاكمين والناس لا دخل لهم في السياسة، الآن أصبحت السياسة شغل كل الناس، وأصبحت برامج تلفزيونية وصحافة ومؤتمرات تناقش كل القضايا السياسية ما عاد النقاش في السياسة خاصًا بالحكام أو بالطبقة السياسية، الطب سابقاً كان الاهتمام به يخص الأطباء، الآن اختلف الأمر هناك توعية صحية وثقافة ونقاش وأجواء مفتوحة حول القضايا الصحية، بل الأطباء يدعون الناس لكي تكون عندهم ثقافة طبية صحية، وهذا يساعد الأطباء في النجاح في مهماتهم.

الآن مع تقدم المستوى المعرفي، وتوفر المعلومات أمام الناس- تجد في بعض الأحيان أحد الحاضرين وهو يستمع للعالم أو الخطيب يدخل على الانترنت عبر هاتفه النقال ويتابع أن هذه الرواية صحيحة السند أو ضعيفة السند أو يتحقق عن هذه المعلومة أو تلك. الناس الآن انفتحوا، فالمعرفة صارت متداولة بين أيدي الناس، فكيف تمنع الناس من التساؤل والنقاش من باب ضرورة التخصص؟ يتوجب عليك أن تجتهد في تبيين بعض المطالب أمام الناس.

وفي هذا السياق نجد أنه حينما اشتد اختلاف الناس حول مسألة ثبوت الهلال وخاصة لتحديد يوم العيد، وحول مبنى المرجع السيد السيستاني "حفظه الله" حول قضية ثبوت الهلال وصارت أسئلة وكلام ونقاش، فإن مكتب سماحة السيد المرجع في سنة (1442هـ) أخرج بيانًا يوضح رأي السيد المرجع الاستدلالي حول موضوع ثبوت الهلال، ويشير إلى أنه هذا أمر تخصصي للفقهاء، لكن لأنه صار محل بحث أمام الناس، حاول المكتب أن يبين الدليل عند السيد المرجع ومبانيه بلغة مبسطة حتى يفهمها عموم الناس، فإذاً لا تستطيع الآن أن تحتكر المعرفة، وتقول أن هذه مسألة تخصصية لا تناقش إلا عند المختصين.

من جانب آخر لو تنازلنا وقلنا إن هذه قضايا تبحث عند المختصين، هذا يلزم أن الطرفين لا يطرحون وجهة نظرهم أمام الجمهور، أما أن يطرح الطرف المحافظ رأيه للجمهور ويعبئ باتجاهه، فإذا ناقشه الطرف الآخر وطرح رأيه المخالف، اعترض بعدم صحة طرح هذه القضايا إلا في الحوزة العلمية، هذا ليس من الإنصاف.

إذاً هناك أمران:

الأول: أنك لا تستطيع منع الناس من التساؤل والبحث، فأبواب المعرفة الآن متاحة أمام الجميع.

الثاني: يمكن الاتفاق بين الطرفين على عدم طرح الآراء الاختلافية أمام الجمهور ومناقشتها ضمن دائرة الحوار العلمي الخاص فقط، أما أن تحتكر جهة حق الطرح وتُمنع الجهة الأخرى فهذا مصادرة وخطأٌ كبير، وعدم إنصاف.

المحاور: شيخنا: بعض الأقوال وبعض المواقف التاريخية لها حساسية خاصة، لأنها تؤثر على ظاهرة اجتماعية، هناك ظاهرة اجتماعية متأثرة بحدثٍ ما، وتتخذ هذا الحدث شعارًا ودثارًا لها، لكي تعلن موقفها أو ممارستها، فإذا أزلت أو تعرضت لهذا الموقف، قد تجد أن سلوكها الخارجي الاجتماعي يحتاج إلى شرعية أنت أفقدته إياها، لذلك قد يتحسس من بحث هذه المسائل، قد يدخل في هذا الأمر نية من تناول البحث، فهل تجدون أن هناك جزءً من تناول المشكلة تشكيك في النوايا.

الشيخ الصفار: طبعاً جزء رئيس من المشكلة التّشكيك في النيّات، وإلا فإن بعض هذه القضايا المطروحة إذا لم تكن تؤثر على المنهجية السلوكية والعقلية عند الناس فهي قضية جانبية جزئية لا أهمية لمعالجتها.

أعتقد أنه ليس هناك داعٍ لطرحها لنفترض أن فئة يؤمنون بفكرة أو بشعار معين، ليس مؤثراً على المنهجية العقلية ولا السلوكية في أبناء المجتمع أرى من الأفضل تجنب طرح هذا الموضوع، لسنا معنيين بمعالجة كل الحوادث والجوانب التاريخية، مثلاً لو كان هناك رأي حول أن وفاة الزهراء كانت بهذا التاريخ، أو بهذا التاريخ ليست مشكلة، لكن في بعض الأحيان يكون النقاش حول قضية مؤثرة على المنهج العقلي والسلوكي للناس، هنا لا نستطيع أن نقول له لا تناقش هذا الموضوع. كيف لا! أنا مهتم بوضع مجتمعي، وأنا أجد أن هذه الفكرة تؤثر على المنهجية العقلية والسلوكية للمجتمع، فإذاً من حقي أن أتحدث عن هذا الموضوع وأن أناقشه.

مثلاً لو كان الأمر يرتبط بالعلاقة مع المحيط المذهبي قضية تفصيلية معينة إثارتها يسبب مشكلة في علاقات الشيعة مع بقية المسلمين، فهنا لا يصح الامتناع عن تناولها لأن الأئمة تناولوها حين يقولون لشيعتهم (كونوا لنا زينًا ولا تكونوا علينا شينًا)، (رحم الله من حبب الناس إلى نفسه وإلينا) فعندما تكون هناك جزئية معينة أو شعار معين أو كلمة معينة، يسبب مشكلة في علاقة الشيعة مع محيطهم هنا لا تستطيع الأمر بعدم بحث الموضوع والتأكيد منه فلعله أمر غير ثابت، أو يكون تدبيريًّا صالحًا لزمنه، أو أنه يسبب ضررًا على سمعة المذهب ومصلحة الطائفة.

في 2013م أخرجت جماعة متعصبة مظاهرات في الأعظمية ببغداد، ورفعوا بعض الشعارات السلبية في وسط سني مما يؤثر على علاقة الشيعة مع بقية المواطنين وخاصة في الظروف التي يمر بها العراق، لذلك فإن المرجع الأعلى السيد السيستاني "حفظه الله" أصدر بيانًا جاء فيه: إن "هذا التصرّف مُدان ومستنكر جداً، وعلى خلاف ما أمر به أئمة أهل البيت شيعتهم".

إذاً يجب أن نفرق بين كلمة أو رأي لا يترك أثراً على المنهجية العقلية والسلوكية فهذا ليس مهمًا النقاش حوله.

أما إذا كان الموضوع يؤثر على المنهجية العقلية والسلوكية فمن حق من يحملون هم المجتمع أن يتحدثوا حوله، ولا يصح لأحد أمرهم بالسكوت، لكون المجتمع لا يرتضي ذلك، ومتى كان المصلحون ينتظرون رضا كلّ الناس، بل ينتظرون رضا الله، ويهتمون بما يصلح المجتمع. قد يكون في بعض الأحيان رأي معين ليس له شعبية، لكنَّ فيه مصلحة فإن الإمام المعصوم كان يتبناه، والمراجع كانوا يتبنونه وقد يدفعون الثمن بتبنيهم لهذا الرأي.

في هذا السياق أذكر مثلاً أحد العلماء في إيران كتب للسيد الشهيد السيد محمد باقر الصدر "رحمه الله" يناقشه في رأيه حول طهارة أهل الكتاب، فكتب السيد الصدر رسالة جوابية إليه جاء فيها: وصلتني من سماحتكم ملاحظتكم حول الفتوى بطهارة المنتحلين للإسلام ممّن يحكم بكفرهم شرعاً، وطلبكم منّي الاحتياط في ذلك.. إلى أن يقول: (فإنّي أعرف أنّ مجرّد تماميّة الميزان العلمي والدليل الفقهي على حكم لا يستلزم التصريح به، وأعرف أنّه في حالة قيام الدليل الشرعي على فتوى مخالفة لما هو المعهود في أذهان المتشرّعة يمكن للفقيه أن لا يبرز تلك الفتوى رعايةً لعواطف جملة من الأخيار والأبرار، واجتناباً لما قد يصيبه من تأثّرهم وانكماشهم عنه، أنا أعرف ذلك، ولكن في مقابل ذلك قد توجد جهات وحيثيّات لا بدّ من أخذها بعين الاعتبار؛ إذ تنعكس عليَّ أوضاع الشيعة في مختلف أنحاء العالم ومدى ما يمكن أن يكون لفتوى معيّنة من أثر في رفع الحرج عن جملة منهم في جملة من البقاع في الدنيا، أو من أثر في تأليف قلوب من حولهم أو رفع الأذى عنهم) وهذه الرسالة منشورة بنصها وبخط الشهيد السيد في موسوعة الإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر (ج17، ص 485 ـ 489).

المحاور: سماحة الشيخ مع دور المنبر الحسيني نلاحظ أمرين:

الأمر الأول: هو غياب أبحاث ومراكز الرصد التي تزود الخطباء بالمشكلات الاجتماعية والفكرية الموجودة في المجتمع.

والأمر الثاني: أن النقاش كثيراً ما ينصب حول نتائج البحث لا حول المنهج. يعني عندنا مشكلة بأن المسائل العلوية أو الفوقية أو أصول البحث لا تُبحث سواء كان على مستوى التاريخ أو على مستوى الظاهرة الاجتماعية أو غيرها، أيضاً مراكز البحث لا توجد لدينا نحن كثير من الظواهر الاجتماعية نخشى بأن الخطيب أو رجل الدين يتعرض إلى عينة غير ممثلة لمجتمع البحث فيرى أنها تمثل مجتمع البحث هذا الإشكال رغم وفرة الباحثين في التخصصات الدينية وفي التخصصات الاجتماعية والنفسية ما هو العمل الاجتماعي ألا في الإمكان أن يزود الخطباء بماردة يستطيعون أن يبنوا عليها موقفهم وأهمية البحوث التي يتناولونها قد يكون في بعض الناس في مجتمع منغلق يعاني من مشكلة فيعتقد أن المجتمع كله يعاني منها بينما هي مزوية في زاوية من الزوايا.

الشيخ الصفار: مجتمعنا نعاني من نقص كبير في وجود مراكز للدراسات والأبحاث الاجتماعية وسبق لي أن تحدثت في بعض المحاضرات وبعض الكتابات عن هذا الأمر. نحن نصرف أموالاً وجهوداً لبناء المساجد والحسينيات وإقامة المآتم والمواكب والقيام بالزيارات والشعائر المختلفة، وهذا أمر جيد ومطلوب ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفق المؤمنين للمزيد منه، لكن ينبغي أيضاً أن نصرف جهداً في تأسيس مراكز أبحاث للدراسات الاجتماعية، ولمتابعة الأوضاع والظواهر التي تحصل في مجتمعاتنا، خاصةً أن عندنا من أبنائنا من تخرجوا في هذه المجالات البحثية، في مختلف مجالات المعرفة الإنسانية، عندنا أفراد تخرجوا وبحثوا، وأصبحت لهم كفاءة على هذا الصعيد، فنحن في حاجة إلى قيام مراكز للأبحاث والدراسات الاجتماعية.

المحاور: لحين قيامها شيخنا ألا ترون عقد مؤتمرات أو لقاءات؟

الشيخ الصفار: هذا ما أود أن أصل إليه في حديثي، وأركز على أمرين:

أولاً: علينا أن ندعم وجود مراكز أبحاث.

ثانياً: ينبغي أن تكون هناك لقاءات بين العلماء والخطباء من جهة وبين الناشطين الاجتماعيين والباحثين المجتمعيين من ناحيةٍ أخرى، قبيل المحرم وقبيل المواسم الدينية في مختلف المناسبات، ينبغي أن تكون هناك لقاءات حتى يستوضح العالم أو الخطيب هذه الظاهرة التي يريد بحثها إلى أي حد هي ظاهرة حقيقية، أو أنها حالات محدودة فردية؟ كيف يمكن معالجتها؟ وماهي الأساليب الأجدى والأفضل؟.

وحتى تحصل هذه اللقاءات أشجع على المبادرات الفردية، وشخصياً استفدت من هذه التجربة، حينما أريد أن أتناول موضوعاً أتواصل مع الكفاءات التخصصية، مثلاً إذا أردت أن أتناول الأمراض النفسية في المجتمع، أسأل عن الكفاءات ممن عندهم خبرة في هذا المجال، ويعملون فيه، أتواصل معهم، واجتمع معهم، لأكوّن رؤية حول الموضوع وهكذا في مختلف المجالات.

إذاً لدينا ثلاثة مستويات:

المستوى الأول: وجود مراكز أبحاث ودراسات اجتماعية.

المستوى الثاني: وجود مؤتمرات ولقاءات تُناقش فيها الظواهر الاجتماعية.

المستوى الثالث: المبادرات الفردية: أن العالم أو الخطيب إذا أراد أن يتناول ظاهرة اجتماعية، عليه أن يدرس هذه الظاهرة، وأن يتواصل مع المختصين حتى يستفيد من آرائهم، فيكون أقرب للرؤية الموضوعية لتلك الظاهرة ومعالجتها.

المحاور: ألا يشمل ذلك الكتابة حول منهج البحث التاريخي ومنهج التحقيق الروائي نعلم أن هناك عدة مناهج سواء كان في التحقق الروائي أو في البحث التاريخي أو في الدراسات النفسية أو الاجتماعية، اختلاف المدارس هذا يترك أثر على النتائج قد المتلقي يرى أن هناك تباينًا في النتائج دون أن يلتفت أن منهج البحث وطريقة البحث وأصول البحث هنا تختلف، هذه المدرسة تتبنى هذا المنهج ولا تتبنى هذا المنهج.

الشيخ الصفار: الاختلاف في مناهج البحث أمر قائم لا يمكن تلافيه، في مجال علم الرواية والدراية هناك اختلاف في بعض المباني، وإذا أمكن العالم أو الخطيب بأن يُقرب الفكرة إلى المستمع بحيث يقول إن هذه النتيجة التي انتهيت إليها وفقاً لهذا المبنى، ووفقاً لهذه المنهجية، فهذا أفضل من أجل توسعة أفق المستمعين، وإذا لم يكن ذلك ممكناً فالمستمع هو ينبغي أن يلتفت إلى هذا الأمر، وخاصةً المستمع الواعي المهتم بالجانب المعرفي عليه أن يلتفت إلى أن هذا الشيخ حينما يتحدث عن هذه النتيجة قد يكون متأثراً بمبنى معين، وهذا لا يمثل الرأي الوحيد وإنما يتسع الأمر لوجهات نظر أخرى.

من جانب آخر على الإنسان حينما يتناول أي قضية هي مورد نقاش أن يكون موضوعيًا، فيطرح أن هناك آراءً أخرى.

في الماضي حينما يطرح العالم أو الخطيب مسألة فقهية يطرحها ضمن رأي واحد لأن الجمهور المستمع للعالم أو للخطيب ضمن مرجع أو فقيه واحد، لكن حينما تعدد الفقهاء في الحقبة الأخيرة صرنا متعودين أن الخطيب حين يطرح مسألة يشير إلى أن المرجع الفلاني هذا رأيه. وفي إرشاد الحجاج عندما تُطرح مسائل الحج تبيّن على آراء مختلف المراجع، لأن الناس صار لديهم تنوع في تقليدهم.

وكذلك فإن العالم أو الخطيب إذا طرح مسألة عقدية أو فكرية لا يطرح رأيًا وكأنه هذا وفقط رأي الإسلام، ينبغي أن يشير إلى أن هذه المسألة فيها آراء، هناك هذا الرأي وهذا الرأي، حتى يتعوّد المستمع على وجود التنوع والثراء الفكري في المدرسة الدينية، وحتى يتحمل الناس الاختلاف في الرأي، أما إذا كان يأتي أحدهم ويطرح رأياً واحداً فقط، فكانه يخرج الرأي الآخر من الدين أو المذهب وهذا خطأ كبير يسبب التشدد والتطرف.

علينا في طرحنا المنبري والديني والتبليغي أن نربي مجتمعنا وجمهورنا على أن هناك تنوعًا في الآراء، وتنوعًا في الاتجاهات، وأن نلتمس الأعذار لأصحاب الرأي الآخر، كما يفعل علماؤنا في بحوثهم فهم في الفقه والأصول يطرحون الرأي الآخر ويناقشونه، ويطرحون رأيهم وأدلته، وإذا كان المنبر لا يتسع للتفاصيل على الأقل الإشارة إلى أن هناك رأيًا آخر في المسألة، هذا ما يجنب مجتمعنا التشدد والتعصب وسوء العلاقة بين مكوناته وأطرافه.

المحاور: سماحة الشيخ أحب أن تختموا هذا اللقاء المبارك إن شاء الله برسالة إلى المجتمع على إثر الهرج الذي حدث في أيام محرم والتناول الحاد لبعض الأطروحات التي ذكرتموها، ماهي الرسالة التي توجهونها للمجتمع حول تلقي الخطاب وحول آليات مناقشته وحول الرسالة التي أردتم إيصالها.

الشيخ الصفار: رسالتي هنا تتضمن النقاط التالية:

أولاً: ينبغي ألا تتضخم في أذهان الناس مثل هذه الاختلافات التي تحدث، نحن مجتمع بشري، وطبيعي وجود الاختلاف في الرأي وبعض التضارب في التوجهات.  

لدى المرجع الراحل السيد محمد سعيد الحكيم رحمه الله رسالة جميلة حول الفرق بين الأصوليين والأخباريين ويتحدث حول هذه النقطة فيقول: المشكلة أن لدينا بعض من يطرحون الآراء من الطرفين، يطرحون رأيهم بانفعال فيسببون تشنجًا في الساحة الدينية والاجتماعية.

وهذا ما يحصل في بعض الأحيان، البعض ينفعل ويشنج في طرحه، وعلينا أن نتعامل مع الموضوع في حجمه وفي حدوده.

ثانياً: علينا أن ننشر الوعي الأخلاقي في المجتمع، وأن ننمّي الحس الأخلاقي حتى لا يقبل المجتمع التصرف السيء من طرف تجاه آخر. ويرفض أي تشهير وإسقاط لأصحاب الرأي الآخر، إن من حقك تبيان وجهة نظرك، وأن تستدل لرأيك، لكن ليس من حقك أن تنال من الآخر، حفظ كرامة المؤمن وحفظ حرمات بعضنا البعض ينبغي أن يكون حساً وشعوراً عاماً في مجتمعنا، لا يصح للناس أن يسكتوا على انتهاك الحرمات فيما بينهم. فكما أننا إذا رأينا شخصاً ينتهب مال شخص آخر نستنكر هذا العمل، كذلك إذا رأينا شخصاً انتهك حق شخص آخر مثلًا من أبناء صنفه ونوعه، علينا أن نستنكر ونقول له هذا خطأ. إذا كان لديك رأي آخر فلتعرضه بدون تشكيك في نيات الطرف الآخر، أو جرحٍ في شخصيته، أو تحريضٍ عليه؛ هذا لا يجوز شرعاً.

إن منبر الإمام الحسين ليس مكانًا لتصفية الخصومات والحسابات، ولا مكانًا للصراعات؛ منبر الإمام الحسين مكان لتوحيد المجتمع تحت راية الحسين ، ولا مانع من أن تطرح الآراء المختلفة، ولكن لا يصح السكوت على منكر انتهاك الحرمات والتجريح في الأشخاص والشخصيات من أي أحدٍ كان، ومهما كان مقامه ومكانته. ينبغي للمجتمع أن يكون عنده هذا الحس الأخلاقي والوعي الاجتماعي، وبالأسلوب المناسب، ينبغي أن تصل الرسالة إلى كل من يمارس ذلك الأمر، وعليه أن يتوقف عن هذا الأسلوب والمنهج.

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس فقط في شرب الخمر، أو عدم التزام المرأة بالحجاب، فهذا منكر، وإذا حصل هناك انتهاك لحرمات الآخرين فهذا منكر أيضاً، وإذا صار هناك استغلال للمنبر في تصفية الخصومات والحسابات فهذا منكر لا يصح السكوت عنه، من قبل الواعين من أبناء المجتمع. ولدينا علماء ومثقفون وناشطون، ووجهاء وكل هؤلاء ينبغي أن لا يسكتوا على مثل هذه الأمور، وفي أدنى الفروض أن يتواصلوا مع أولئك الأشخاص لنصحهم وتوجيههم لخطئهم وأن يوصلوا لهم كلمة المعروف، أما إذا سكتنا عن مثل هذه الممارسات فإنها تنتشر أكثر، اليوم انتهاك حرمة فلان، وغدًا حرمتك أنت، حينئذٍ لا تبقى حرمة لأحد. وبذلك يتعلم أبناؤنا على انتهاك الحرمات، فلكلٍ عالم أو خطيب أو رمز يحترمه ويقدره، فإذا تجرأت على رموزهم تجرأوا هم بالمثل، والقرآن الكريم يوجهنا حتى بالنسبة للكفار والذين يعبدون الأصنام يقول تعالى: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ، ﴿كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ.

هذه الرسالة التي أحب أن أوجهها والخطأ وارد من الجميع، كما ورد عن رسول الله (كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون)، ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِيۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي.

أنا لست في مورد أن أنزه نفسي وألزم الآخرين، بل نحن جميعاً ينبغي أن نتبنى هذا السلوك، والمجتمع يجب أن يكون فيه هذا الوعي وهذا الحس الأخلاقي.

لمشاهدة الحوار:

https://www.youtube.com/watch?v=LrEOq785UAc

 

* استضاف الحوار وبث عبر قناة مأتم السيدة خديجة بالمنيرة.