تشريعات متغيرة في العهد النبوي

 

قال تعالى: ﴿يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال، آية: 24]

حينما يضع الدين تشريعًا لأيّ جانب من جوانب حياة الإنسان، فلا بُدّ وأن يكون ذلك التشريع لمصلحة الإنسان نفسه.

إذ ليس في الدين تشريع عبثي لا غرض له، ما دامت التشريعات صادرة من جهة حكيمة.

كما لا يحتمل أن يكون التشريع لمصلحة الله، فالله غني مطلق، لا تنفعه طاعة من أطاعه، ولا تضرّه معصية من عصاه.

يقول تعالى: ﴿إِنْ تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّـهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [إبراهيم، آية: 8]

وقد نصّ القرآن الكريم على أنّ غاية بعثة الأنبياء، وهدف نزول الشرائع الإلهية، هو مصلحة العباد، لتأمين حاكمية العدل في حياتهم.

يقول تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد، آية: 25]

وإذا كان أصل مجيء الرسالة لمصلحة الناس، فلا بُدّ وأن تكون أحكامها وتشريعاتها تخدم نفس الهدف، للارتقاء بحياة البشر نحو الأفضل، لذلك يطلب القرآن الكريم من الناس الاستجابة لدعوة الله ودعوة الرسول، باعتبارها دعوة للحياة في أفضل صورها ومستوياتها، يقول تعالى: ﴿يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال، آية: 24]

وفي موارد كثيرة أشارت آيات القرآن الكريم إلى المصالح الكامنة خلف التشريعات الإلهية، وأنّها لخير الإنسان ومصلحته، وإن كان يجهل ذلك أو يغفل عنه. كقوله تعالى: ﴿وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة، آية: 184]

وقوله تعالى: ﴿وَأَن تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۗ وَاللَّـهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [النساء، آية: 25]

وقوله تعالى: ﴿فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين [الأعراف، آية: 85]

وقد تكرر مثل هذا التعبير ﴿خَيْرٌ لَّكُمْ كثيرًا في القرآن الكريم في سياق تبيين عدد من الأحكام والتشريعات. وفي بعض آيات الأحكام والتشريعات إشارة إلى غرض وحكمة ذلك التشريع الذي تحمله الآية.

تبعية الأحكام لمصالح العباد

كما وردت أحاديث وروايات تؤكد تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد، كالرواية الواردة عن الإمام جعفر الصادق ، حيث سُئل عن الحلال والحرام فقال: «إِنَّهُ لَمْ يُجْعَلْ شَيْءٌ إِلَّا لِشَيْءٍ»[1].

وعلق الشيخ المجلسي على هذا النص بالقول: (أي لم يشرع الله تعالى حكماً من الأحكام إلا لحكمة من الحكم، ولم يحلل الحلال إلا لحسنه، ولم يحرّم الحرام إلا لقبحه)[2].

وروي عن الإمام علي بن موسى الرضا أنه قال: «إِنَّا وَجَدْنَا كُلَّ مَا أَحَلَّ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَفِيهِ صَلَاحُ الْعِبَادِ وَبَقَاؤُهُمْ، وَلَهُمْ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ الَّتِي لَا يَسْتَغْنُونَ عَنْهَا، وَوَجَدْنَا الْمُحَرَّمَ مِنَ الْأَشْيَاءِ لَا حَاجَةَ بِالْعِبَادِ إِلَيْهِ، وَوَجَدْنَاهُ مُفْسِداً دَاعِياً لِلفَناءِ وَالْهَلَاكِ»[3].

وقد ألّف بعض علماء الإسلام كتبًا تجمع النصوص والأحاديث التي تؤكد مبدأ تبعية الأحكام لمصالح العباد، فمن علماء السنة ألّف الحكيم الترمذي (ت: 320هـ) كتاب (إثبات العلل). ومن علماء الشيعة ألّف الشيخ الصدوق (ت: 381هـ) كتاب (علل الشرائع).

وتحدث عدد من كبار العلماء والفقهاء مقررين هذا المبدأ، وحددوا مقاصد الشريعة في الضروريات الخمس، وهي: حفظ النفس، والدين، والعقل، والنسل، والمال. وأنّ التشريع لم يأتِ إلا بحفظها[4]. وقد تبلور اتجاه يبحث في مقاصد الشريعة، ويطلق عليه الاتجاه المقاصدي والمدرسة المقاصدية.

ويدعو هذا الاتجاه إلى اعتماد محورية مقاصد الشريعة وأهدافها في استكشاف الأحكام الشرعية واستنباطها.

ومن أبرز مؤسسي وأعلام هذا الاتجاه المقاصدي إمام الحرمين الفقيه الشافعي أبو المعالي الجويني (ت: 478هـ)، مرورًا بالعز بن عبدالسلام (ت: 660هـ)، والقرافي المصري المالكي (ت: 684هـ)، ونجم الدين الطوفي الحنبلي (ت: 716هـ)، حتى بروز الشاطبي المالكي الأندلسي (ت: 790هـ) الذي نضج هذا التوجه أكثر على يديه، إلى إمام المقاصديين في هذا العصر الشيخ التونسي الطاهر بن عاشور (ت: 1973م).

والمصالح التي تستهدف الشريعة تحقيقها في حياة الناس تشمل الجوانب المادية والمعنوية، الفردية والاجتماعية، الدنيوية والأخروية.

وانطلاقًا من مبدأ تبعية الأحكام للمصالح، تأتي مسألة إمكانية التغيير في الأحكام والتشريعات بسبب تغيّر الظروف والأوضاع في حياة البشر، فقد تستلزم بعض الظروف تشريعات معينة، لا تستلزمها ظروف أخرى، وقد تناسب بعض الأحكام وضعًا اجتماعيًا ولا تناسب وضعًا آخر.

وهذا هو مبرر الاختلاف في شرائع الأنبياء، حيث تنسخ الشريعة اللاحقة أحكامًا في الشريعة السابقة، حتى جاءت النسخة الأخيرة على يد خاتم الأنبياء محمد ، وخاطب اتباع الشرائع السابقة بقوله تعالى: ﴿وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ [آل عمران، آية: 50]

وسبب هذا التغيير في الأحكام هو التغييرات الحاصلة في حياة الناس من زمن إلى آخر، حيث يتغير واقع المصلحة فيستلزم تغيرًا في الحكم.

يقول المحقق الحلي (ت: 676هـ): (إنّ الشرائع تابعة للمصالح، وهي جائزة الاختلاف، فجاز اختلاف ما هو تابع لها)[5].

ويقول أيضاً: (المصلحة: هي ما يوافق الانسان في مقاصده لدنياه أو لآخرته أولهما، وحاصله: تحصيل منفعة أو دفع مضرّة، ولما كانت الشرعيات مبتنيات على المصالح، وجب النظر في رعايتها)[6].

ويقول السيد الخوئي: (إنّ دخل خصوصيات الزمان في مناطات الأحكام مما لا يشكّ فيه عاقل، ... وإذا تصوّرنا وقوع مثل هذا في الشرائع، فلنتصوّر أن تكون للزمان خصوصية من جهة استمرار الحكم وعدم استمراره، فيكون الفعل ذا مصلحة في مدّة معينة، ثم لا تترتب عليه تلك المصلحة بعد انتهاء تلك المدة، وقد يكون الأمر بالعكس)[7].

تغيّر التشريعات في السيرة النبوية

نشأ المجتمع الإسلامي على يد رسول الله فهو الذي أسّسه وربّاه ورعاه، ولأنّ ظروف النشأة مرّت بأوضاع ومراحل مختلفة، من العهد المكي والعهد المدني، ومن حالة الضعف والقلة، إلى دخول الناس في دين الله أفواجًا، ومن مراحل التأسيس والاستيعاب، إلى مرحلة التمكن والتفاعل مع المفاهيم والمبادئ الدينية.

كان هذا التغيّر في ظروف المجتمع الناشئ سببًا لتغير بعض الأحكام والتشريعات، ففي القرآن الكريم نزلت آيات تنسخ أحكامَ آياتٍ سابقة، يقول تعالى: ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ۗ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّـهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة، آية: 106]

كما أنّ رسول الله قرّر أحكامًا وتشريعات ثم استبدلها بعد وقت بأحكام وتشريعات أخرى، ويمكننا أن نشير إلى بعض النماذج من خلال ما ورد في السنة والسيرة النبوية.

أ - سرية الدعوة ثم الإجهار بها:

بدأت الدعوة الإسلامية بمكة سرية، وكان النبي يدعو من يثق بقبوله للدعوة وهو مستخف في دار الأرقم بن أبي الأرقم، وأحيانًا كان من يدخل الإسلام يعرف الآخرين ممن أسلموا قبله، واستمرت هذه الحالة لمدة ثلاث أو أربع سنين، ثم أمره الله بالإجهار بالدعوة حين نزل قوله تعالى: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [الحجر، آية: 94]، فصعد النبي على جبل الصفا وأعلن دعوته.

ب - بين الصبر والمواجهة

 نال المسلمين من المشركين أذى كبير، وتعرض بعض المسلمين للتعذيب والتنكيل، واضطر بعضهم للهجرة من وطنه مكة للحبشة، وكان الحماس والاندفاع يملأ نفوسهم، ويتوقون لمواجهة المشركين دفاعًا عن أنفسهم، لكنّ رسول الله كان يقول لهم: «اصْبِرُوا فَإِنِّي لَمْ أُومَرْ بِالْقِتَالِ»[8].

وبعد أن هاجر إلى المدينة المنورة وتمكن فيها، وكان المشركون مستمرين في إيذاء المسلمين بمكة ومصادرة أموالهم، نزل قوله تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّـهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ﴿٣٩﴾ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّـهُ [الحج، آية: 39-40]، وهي أول آية نزلت بالجهاد على المشهور بين المفسرين.

نسبة المكافأة العددية في الجهاد

في بداية المواجهة القتالية بين المسلمين ومحاربيهم الكافرين كان عدد المسلمين محدوداً في مقابل الكثرة العددية للكفّار، فجاء التشريع ليضع معادلة تُحدِّد للمسلمين نسبة المكافأة العددية بينهم وبين العدوّ، بحيث لا يجب عليهم القتال إذا كان عددهم أقلّ من تلك النسبة، وهي نسبة الواحد إلى عشرة، اعتماداً على قوة الإيمان والعزيمة، وروح التضحية العالية، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ﴾ [الأنفال، آية: 65].

ومع تعدّد المعارك، وما تحمَّله المجاهدون من أعباء الحروب، اقتضى الأمر صدور تشريع جديد لتعديل نسبة المكافأة في العدد، وخاصّة مع زيادة عدد المسلمين، فنزلت آيةٌ جديدة بتشريع جديد، كانت فيه نسبة القتال هي واحد في مقابل اثنين، يقول تعالى: ﴿الآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [الأنفال، آية: 66].

قال ابن عاشور: هذه الآية نزلت بعد الآية التي قبلها بمدّةٍ، قال في الكشاف: «وذلك بعد مدّةٍ طويلة»[9].

تغيير القبلة

حيث كان المسلمون في مكة لثلاثة عشر عامًا من البعثة إلى الهجرة يستقبلون بيت المقدس في صلاتهم، واستمر ذلك بعد الهجرة إلى المدينة المنورة سبعة عشر شهرًا، كما رجح بعض المحققين[10] وقيل أقل من ذلك. ثم جاء الأمر الإلهي باستقبال المسجد الحرام في الصلاة.

يقول تعالى: ﴿قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة، آية 144]

إرث الزوجة من زوجها نفقة عامة

ماذا تستحقّ المرأة من مال زوجها بعد وفاته؟ وهل عليها فترة عدّة وحداد؟

كان التشريع الإسلامي قد أقرّ ما كان متعارفاً عند العرب قبل الإسلام، أي إنّ الرجل إذا مات لم يكن لامرأته من ميراثه شيءٌ إلاّ النفقة حَوْلاً كاملاً، شريطة أنْ تعتدّ في بيت الزوج المتوفّى، فإنْ خرجت قبل الحَوْل سقطت نفقتها. وهذا ما قرَّرته الآية الكريمة: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [البقرة: 240]. واتّفق المفسّرون والفقهاء قولاً واحداً على نسخ هذه الآية بآيتين:

الأولى: التي حدَّدت عدة الوفاة بأربعة أشهر وعشرة أيّام، وهي قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً﴾ [البقرة: 234].

والثانية: التي جعلت للزوجة نصيباً من تركة زوجها، وهي قوله تعالى: ﴿وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ﴾ [النساء: 12]. وعليه فإنّ المرأة تنفق على نفسها من نصيبها[11].

حبس لحوم الهدي

نهى النبي المسلمين أن يحبسوا لحوم الأضاحي فوق ثلاثة أيام، وفي السنة الثانية ألغى هذا الأمر لزوال مبرره وهو الضائقة عند الناس لقلة اللحوم.

عَنْ نُبَيْشَةَ، - رَجُلٌ مِنْ هُذَيْلٍ - عَنِ النَّبِيِّ قال: «إِنِّي كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ لُحُومِ الأَضَاحِي فَوْقَ ثَلاَثٍ كَيْمَا تَسَعَكُمْ، فَقَدْ جَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالْخَيْرِ، فَكُلُوا، وَتَصَدَّقُوا، وَادَّخِرُوا»[12].

القران في التمر

عنه : «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنِ الْقِرَانِ فِي التَّمْرِ وَأَنَّ اللَّهَ وَسَّعَ عَلَيْكُمْ فَاقْرِنُوا»[13] حيث عنون البخاري في صحيحه بابًا بعنوان القران في التمر، وهو ضمّ تمرة إلى تمرة لمن أكل مع جماعة، فقد نهى النبي عن ذلك وقت الضيق الاقتصادي عند المسلمين، فلما وسّع الله عليهم رفع النبي عنهم ذلك النهي.

النهي عن أكل لحوم الحمر الأهلية

وهي محللة بالأصل لكن النبي نهى عن أكلها يوم خيبر كما ورد عن الإمام الباقر : «نَهَى رَسُولُ اَللَّهِ عَنْهَا، وَعَنْ أَكْلِهَا يَوْمَ خَيْبَرَ، وَإِنَّمَا نَهَى عَنْ أَكْلِهَا فِي ذَلِكَ اَلْوَقْتِ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ حَمُولَةَ اَلنَّاسِ، وَإِنَّمَا اَلْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي اَلْقُرْآنِ»[14].

الهرولة في الطواف

سُئِلَ اِبْنُ عَبَّاسٍ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ قَوْماً يَرْوُونَ أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ أَمَرَ بِالرَّمَلِ حَوْلَ اَلْكَعْبَةِ، فَقَالَ: كَذَبُوا وَصَدَقُوا، فَقُلْتُ: وَكَيْفَ ذَاكَ؟ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اَللَّهِ دَخَلَ مَكَّةَ فِي عُمْرَةِ اَلْقَضَاءِ، وَأَهْلُهَا مُشْرِكُونَ، وَبَلَغَهُمْ أَنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ مَجْهُودُونَ فَقَالَ رَسُولُ اَللَّهِ : رَحِمَ اَللَّهُ اِمْرَأً أَرَاهُمْ مِنْ نَفْسِهِ جَلَداً، فَأَمَرَهُمْ فَحَسَرُوا عَنْ أَعْضَادِهِمْ، وَرَمَلُوا بِالْبَيْتِ ثَلاَثَةَ أَشْوَاطٍ، وَرَسُولُ اَللَّهِ عَلَى نَاقَتِهِ، وَعَبْدُاَللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ آخِذٌ بِزِمَامِهَا، وَاَلْمُشْرِكُونَ بِحِيَالِ اَلْمِيزَابِ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ حَجَّ رَسُولُ اَللَّهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَمْ يَرْمُلْ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِذَلِكَ، فَصَدَقُوا فِي ذَلِكَ، وَكَذَبُوا فِي هَذَا .[15]

الاجتهاد لمواكبة المتغيرات

إذا كان رسول الله بوجوده قد أمّن مواكبة التغيرات الاجتماعية بما يناسبها من تشريعات، عبر ما يتلقّاه من وحي، أو بممارسة دوره القيادي، وإصدار تشريعات تدبيرية، فماذا عن مرحلة ما بعد رسول الله ؟ فهناك متغيّرات في ظروف الحياة وطبيعة تطور المجتمع، وقد تستلزم هذه المتغيرات تشريعات مناسبة، فمن يقوم بذلك؟

حسب معتقد الشيعة الإمامية فإنّ الائمة من أهل البيت ، يملؤون هذا الفراغ، ويقومون بهذا الدور، من خلال ما ورثوه من علم النبوة.

وقد ورد عن الأئمة أحكام تختلف عن أحكام شرّعت في العهد النبوي بسبب ما أدركوه من تغير في الظروف الاجتماعية، ومنها:

1/ ما أورده الشريف الرضي في نهج البلاغة أن عليّاً سُئل عن قول رسول الله : «غَيِّرُوا الشَّيْبَ، وَلاَ تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ».

فقال : «إِنَّمَا قَالَ ذلِكَ وَالدِّينُ قُلٌّ، فَأَمّا الْآنَ وَقَدِ اتَّسَعَ نِطَاقُهُ، وَضَرَبَ بِجِرَانِهِ، فَامْرُؤٌ وَمَا اخْتَارَ»[16].

2/ عن أبان بن الأحمر قال: «سَأَلَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَبَا اَلْحَسَنِ - الكاظم - : عَنِ اَلطَّاعُونِ يَقَعُ فِي بَلْدَةٍ، وَأَنَا فِيهَا، أَتَحَوَّلُ عَنْهَا؟

قَالَ: نَعَمْ.

قَالَ: فَفِي اَلْقَرْيَةِ، وَأَنَا فِيهَا أَتَحَوَّلُ عَنْهَا؟

قَالَ: نَعَمْ.

قَالَ فَفِي اَلدَّارِ، وَأَنَا فِيهَا أَتَحَوَّلُ عَنْهَا؟

قَالَ: نَعَمْ.

قُلْتُ: فَإِنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ قَالَ: اَلْفِرَارُ مِنَ اَلطَّاعُونِ كَالْفِرَارِ مِنَ اَلزَّحْفِ.

قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اَللَّهِ إِنَّمَا قَالَ هَذَا فِي قَوْمٍ كَانُوا يَكُونُونَ فِي اَلثُّغُورِ فِي نَحْوِ اَلْعَدُوِّ، فَيَقَعُ اَلطَّاعُونُ، فَيُخَلُّونَ أَمَاكِنَهُمْ يَفِرُّونَ مِنْهَا، فَقَالَ رَسُولُ اَللَّهِ ذَلِكَ فِيهِمْ»[17].

لكنّ حياة الأئمة بين الناس لم تمتد لأكثر من قرنين ونصف تقريبًا حيث حدثت الغيبة الكبرى للإمام الثاني عشر، فهل يتوقف دور مواكبة التغيّرات تشريعاً؟

كلا، فإنّ الفقهاء العدول يواصلون القيام بهذا الدور ضمن ضوابط الاجتهاد المقررة.

قال العلاّمة الحلّي: «الأحكام منوطة بالمصالح، والمصالح تتغيَّر بتغيُّر الأوقات، وتختلف باختلاف المكلَّفين، فجاز أن يكون الحكم المعيّن مصلحةً لقومٍ في زمانٍ فيؤمر به، ومفسدةً لقومٍ في زمانٍ آخر فينهى عنه»[18].

الفقيه يقرأ النص الشرعي حول أيّ موضوع، ويتلمَّس الظروف الاجتماعية التي أحاطت بصدور الحكم من المشرِّع، فإذا قطع أو اطمأنّ بمدخلية ظرف معيّن في صدور ذلك الحكم، ورأى أنّ الظروف الاجتماعية المعاصرة لا تتحقّق في ظلّها المصلحة التي توخّاها الحكم وقت صدوره، بل قد يكون الأمر على النقيض من ذلك، ففي مثل هذه الحالة يمكن للفقيه إعادة النظر في التشريع الذي تضمّنه النصّ الوارد.

وقد ينص الشرع على ملاكات ومناطات بعض الأحكام، فيمكن للفقيه أن ينظر في استنباط ما يتلاءم مع المتغيّرات على ضوء تلك الملاكات. وإذا لم يكن الملاك منصوصًا عليه، ولكنّ الفقيه اطمأنّ من خلال خبرته العلمية إلى ملاك محدد أمكنه الإفتاء على ضوئه.

ضعف الاستجابة الفقهية لتطورات الحياة

إنّ الفقيه يمتلك هذه الصلاحية، ويمكنه القيام بدور مواكبة المتغيّرات تشريعيًا وفق الضوابط والقواعد. لكنّ الفقهاء يتفاوتون في ممارسة هذه الصلاحية، فبعضهم قد لا يكون مواكبًا لتغير الظروف والأوضاع، أو غير ملاحظ لانعكاساتها على حياة الناس. وبعضهم يتردد في مخالفة الآراء السائدة والمألوفة، ويعبّرون عن ذلك بالقول: إنّ مخالفة المشهور مشكل.

وقد يواجه الفقيه عندما يصدر فتوى بحكم شرعي مخالف للرأي السائد اعتراضًا في بعض الأوساط. فيتلكأ في الإقدام على مثل هذه المواقف. وهذا ما يجعل حركة التطوير في الممارسة الاجتهادية بطيئة ضعيفة.

بل حتى التطوير في أسلوب عرض الأحكام الشرعية يواجه ترددًا وتحفّظًا. ففي الطبعة الأخيرة من منهاج الصالحين لفتاوى السيد السيستاني كانت هناك بعض التغييرات، ومنها حذف مسائل ترتبط بالزواج من الصغيرة، أي غير البالغة، فحصل هناك تساؤل: لماذا يحذف هذا الحكم الشرعي؟

ووجهت إحدى الوسائل الإعلامية السؤال لمكتبه، وقد أجاب مكتب السيد السيستاني على التساؤل بما نشر على موقعه الرسمي بما يلي: كان زواج الصغار ـــ أي زواج غير البالغة من غير البالغ ـــ أمراً متداولاً في العديد من المجتمعات الشرقية إلى وقت قريب، ومن هنا تضمّنت الرسالة الفتوائية في طبعاتها السابقة بعض أحكامه، ولكن لوحظ انحساره في الزمن الراهن، فتمّ حذف جانب منه من الطبعات الأخيرة، وما نريد التأكيد عليه هو: أنه ليس لولي الفتاة تزويجها إلّا وفقاً لمصلحتها، ولا مصلحة لها غالباً في الزواج إلّا بعد بلوغها النضج الجسمي والاستعداد النفسي للممارسة الجنسية، كما لا مصلحة لها في الزواج خلافاً للقانون بحيث يعرّضها لتبعات ومشاكل هي في غنًى عنها[19].

وفي هذا السياق مثلًا نجد الرسائل العملية الفقهية حينما تتحدث عن الكفارات ككفارة الإفطار في شهر رمضان عمدًا يذكرون أنّها مخيّرة بين عتق رقبة، وصوم شهرين متتابعين، وإطعام ستين مسكينًا.

مع علم الجميع أن لا موضوع لعتق الرقبة في هذا العصر، فما الداعي لذكره مع ما يثيره في ذهن القارئ المعاصر من تساؤل وامتعاض؟

وقد يقول البعض بأنّ مثل ذلك مذكور في القرآن الكريم. لكنّ القرآن نصٌّ مقدّس له خصوصيته، لا مجال للتغيير والتبديل فيه، والرسالة العملية الفقهية ليست كذلك.

ليس في الدين قصور عن استيعاب المتغيّرات وتطورات الحياة، لكنّ القصور والتقصير في واقع المسلمين الذين لم يرتقوا إلى مستوى دينهم العظيم.

إنه لكي تتجلى قدرة التشريع الإسلامي على مواكبة تطورات الحياة والمتغيرات الاجتماعية، لا بُدّ وأن تتجاوز الأوساط الفقهية تحفظاتها، وتنطلق في ممارساتها الاجتهادية من مبدأ تبعية الأحكام لمصالح العباد، وتأثير اختلاف الزمان والمكان في تشخيص الموضوعات واستنباط الأحكام.

للمشاهدة:

https://www.youtube.com/watch?v=QIAsTvZFWTE

للاستماع:

https://www.saffar.me/?act=av&action=view&id=1446

خطبة الجمعة 3 جمادى الأولى 1442هـ الموافق 18 ديسمبر 2020م.
[1] الشيخ الصدوق: علل الشرائع، ج1، ص8.
[2] الشيخ المجلسي: بحار الأنوار، ج6، ص110.
[3] علل الشرائع، ج2، ص592.
[4] الشهيد الأول: القواعد والفوائد، ج1، ص38
[5] المحقق الحلي: معارج الأصول، ص162.
[6] المصدر السابق، ص221.
[7] البيان في تفسير القرآن، ص 278.
[8] الواحدي: أسباب نزول القرآن، ص309.
[9] محمد الطاهر ابن عاشور: تفسير التحرير والتنوير 9: 156.
[10] السبحاني: سيد المرسلين، ج2، ص47
[11] محمد جواد مغنية: تفسير الكاشف، ج1، ص370.
[12] الألباني: صحيح الجامع الصغير وزيادته، ح 2476.
[13] ابن حجر العسقلاني: فتح الباري، ج 9، ص 708.
[14] الشيخ الكليني: الكافي، ج6، ص245.
[15] وسائل الشيعة، ج13، ص352.
[16] نهج البلاغة، حكمة: 17.
[17] الحر العاملي: وسائل الشيعة ج2، ص 430.
[18] كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، ص358.
[19] موقع مكتب المرجع الديني السيد السيستاني، بعنوان (أسئلة مراسلة بي بي سي حول بعض الممارسات غير الصحيحة وأجوبتها): https://www.sistani.org/arabic/archive/26347/