الشورى وصناعة القرار النبوي

 

﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّـهِ ۚ إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ [آل عمران، الآية: 159]

الإسلام مشروع حضاري، يستهدف بناء مجتمع إنساني على قاعدة الحرية والعدل والكرامة، ولهذا المجتمع رسالة هي إعمار الأرض، وتطوير الحياة، ونشر القيم الفاضلة.

هذا المشروع يراد إنجازه وتحقيقه بجهود إنسانية بشرية، وليس عن طريق الغيب والتدخل الإلهي المباشر، ولو أراد الله تعالى تحقيق أهداف رسالاته وأنبيائه عن طريق الغيب، لكان أمر ميسورًا، ﴿وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ، فلا حاجة لأن يتحمّل الأنبياء عناءً، ولا أن يقدّم المؤمنون تضحيات.

﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا [يونس، الآية: 99]

﴿وَلَوْ يَشَاءُ اللَّـهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ [محمد، الآية: 4]

فقد شاءت حكمته أن يمارس الإنسان حريته واختياره في هذه الحياة، وأن يحقق إعمار الأرض، وإقامة العدل بجهوده وطاقاته، على ضوء الهدى الإلهي.

إعمار الأرض وظيفة الإنسان

إنّ إعمار الحياة مهمة مطلوبة من الإنسان، فقد منحه الله تعالى عقلاً يفكر ويخطط به، ومنحه طاقات نفسية، وقدرات عملية، وهيأ وسخّر له الكون، فكلما استخدم عقله، واستنهض طاقته، وعمل بجهده، حقق خطوات على طريق تطوير الحياة وإعمارها. يقول تعالى: ﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ويقول تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ [الملك، الآية: 15]

كما أنّ إقامة العدل وظيفة إنسانية أيضاً يأمر بها الله، ﴿إِنَّ اللَّـهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ، ومطلوب من المجتمع الإنساني إقامة العدل، وليس مفروضًا عليه ذلك بالقهر.

يقول تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد، الآية: 25]

والنبي ليس بديلاً عن الناس في إقامة العدل، ومكافحة الظلم، وحينما فكّر بنو إسرائيل بهذه العقلية، وقالوا لنبيهم موسى : ﴿اذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ كان الجواب الإلهي: ﴿قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ۛ أَرْبَعِينَ سَنَةً ۛ يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [المائدة، الآية: 26].

الشورى استنهاض العقول

انطلاقًا من هذه الرؤية فإنّ النبي لم يأتِ بقوةٍ غيبيةٍ إعجازيةٍ لإقامة مشروع دعوته ورسالته، وإنّما جاء ليثير عقول الناس ويستنهض قدراتهم، ليتحمّلوا هم تحقيق المشروع وإقامته.

وفي هذا السياق كان من الطبيعي أن يأمره الله تعالى باستشارة من حوله، ليستوعبوا المشروع بعقولهم، وتتفاعل معه أفكارهم ومشاعرهم.

يقول تعالى: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ وهو كل أمرٍ يهم المجتمع، أي أمر الشأن العام.

والمشاورة طلب الرأي من الغير: أي اطلب منهم رأيهم في الشأن العام، في غير الأحكام وما نزل به الوحي.

وهو أمر صريح طبقه رسول الله وعمل به.  بغض النظر عن اختلاف العلماء، حول وجوب الشورى عليه أو استحبابها. فهل الأمر في هذه الآية للوجوب أو للندب، وهل هو أمر خاص بالنبي أو عام لكلّ قائد ووالٍ في الأمة؟

ومن غرائب الآراء ما نقله ابن عاشور: (ومن السلف من ذهب إلى اختصاص الوجوب بالنبي)[1].

ومن يقرأ السيرة النبوية يرى بوضوح كيف اعتمد رسول الله منهجية الشورى مع أصحابه في مختلف الشؤون. وكان يكرر في مواقف كثيرة قولته المشهورة: (أَشِيرُوا عَلَيَّ).

وروى عروة عن زوج رسول الله عائشة أنّها قالت: مَا رَأَيْتُ رَجُلًا أَكْثَرَ اسْتِشَارَةً لِلرِّجَالِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ [2].

وعن أبي هريرة: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَكْثَرَ مَشُورَةً لِأَصْحَابِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ[3].

وإذا كان رسول الله يريد بناء مجتمع إيماني فإنّ من أبرز ملامح صفات ذلك المجتمع هو سيادة الشورى. وفي القرآن سورة باسم (الشورى). يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [الشورى، الآية: 38]

لقد جاء وصف المجتمع بالتشاور، بعد وصفه بإقامة الصلاة، وقبل وصفه بأداء الزكاة، ليعطي لصفة التشاور صبغتها الدينية، وموقعها بين أهم الفرائض والواجبات.

فالشورى وصف يجب أن يكون ثابتًا للمؤمنين كالصلاة، فلا يمكن لمجتمع مسلم أن يتخلى عن الصلاة، وكذلك لا يتخلى عن الشورى في الأمور العامة.

استشارات نبوية

ولنذكر بعض العينات والنماذج من مشاهد الشورى ودورها في صناعة القرار النبوي.

1/ في أحداث غزوة بدر خرج النبي وأصحابه من المدينة لاعتراض قافلة قريش التجارية، وهبطوا في وادي (ذفران) ينتظرون مرورها، فبلغهم خبر مسير قريش باتجاه المدينة لحماية قافلتهم التجارية، وأنّ جيشها وصل إلى مشارف المنطقة التي يتواجد فيها رسول الله وأصحابه.

فوجد النبي نفسه بين خيارين: إما أن يقاتل أو يرجع إلى المدينة، وكلاهما صعب.

فجمع أصحابه وقال: أشيروا عليّ، فبعضهم رأى العودة إلى المدينة. وبعضهم رأى مواجهة قريش.

فكان رأي الأكثرية مواجهة قريش وعدم العودة إلى المدينة، وهذا ما عزم عليه .

2/ حين ورد النبي بدرًا اختار موقعًا لمعسكره، وهنا تقدّم الحبّاب بن منذر فقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ هَذَا الْمَنْزِلَ أَمَنْزِلًا أَنْزَلَكَهُ اللَّهُ لَيْسَ لَنَا أن نتقدمه ولا نتأخر عَنْهُ، أَمْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟

قَالَ : بَلْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ.

قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فإنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْزِلٍ، فَامْضِ بِالنَّاسِ حَتَّى نَأْتِيَ أَدْنَى مَاءٍ مِنَ الْقَوْمِ، فَنَنْزِلَهُ، ثُمَّ نُغَوِّرَ [أي ندفن العين] مَا وَرَاءَهُ مِنَ الْقُلُبِ، ثم نبني عليه حوضاً فنملؤه مَاءً ثُمَّ نُقَاتِلَ الْقَوْمَ فَنَشْرَبَ وَلَا يَشْرَبُونَ.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (ض): "لَقَدْ أَشَرْتَ بِالرَّأْيِ"[4].

3/ في واقعة أحد حيث تحرك جيش قريش باتجاه المدينة، واقترب من سفوح جبل أحد، وقف في أصحابه وقال بصوت عالٍ: (أشيروا عليَّ). فأشار بعضهم بالتحصن في المدينة، ويقاتلون من يهاجمهم فيها، وكان هذا رأي الأكابر من الأصحاب، ومال رسول الله إلى رأيهم، إلّا أنّ الشباب والفتيان، وكانوا يشكّلون الأغلبية رفضوا هذا الرأي، وطلبوا الخروج إلى العدو.

فأخذ برأي الأكثرية، ودخل بيته ولبس لامة حربه، ثم بدأ المتحمّسون يعاتب بعضهم بعضًا، بأنّهم أصرّوا عليه بالخروج، وخشوا أنّهم قد استكرهوه، فقالوا معتذرين: يا رسول الله، ما كان لنا أن نخالفك، فاصنع ما بدا لك. فقال : مَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ إِذَا لَبِسَ لَأْمَتَهُ أَنْ يَضَعَهَا حَتَّى يُقَاتِلَ[5].

4/ في غزوة الخندق، أراد أن يصنع اختراقًا في معسكر العدو فبعث إلى عيينة بن حصن وإلى الحارث بن عوف قائد غطفان فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا حتى كتبوا الكتاب وقبل إمضائه بعث إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فذكر لهما ذلك واستشارهما فيه؟

فقال له: يا رسول الله، أمرًا نحبّه فنصنعه، أم شيئًا أمرك الله به، أم شيئًا تصنعه لنا؟

قال بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك لأنّي رأيت العرب رمتكم عن قوس واحدة.

فقال سعد بن معاذ: يا رسول الله، قد كنّا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة إلّا قرى أو بيعًا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام، وهدانا له، وأعزّنا بك وبه نعطيهم أموالنا؟

قال : فأنت وذاك. فتناول سعد بن معاذ الصحيفة فمحى ما فيها من الكتاب[6].

إنّ المشاهد والموارد كثيرة في السيرة النبوية عن ممارسة الرسول لنهج الشورى.

كتب اللواء مَحمُودْ شيْت خَطَّابْ كتابًا جمع فيه مشاهد استشارات الرسول في المعارك الحربية بعنوان: (الشورى العسكرية في عهد الرسالة)، فوثق فيه إحدى وعشرين استشارة عسكرية نبوية، ذكرها المؤرخون وكُتّاب السيرة النبوية.

فلا بُدّ أن يكون عدد آخر إضافيًّا لم يسجّل، أو لم يتناقله الرواة.

وإذا كانت أكثر موارد الاستشارات النبوية قد جاءت في سياق الغزوات والمعارك، فلأنّ اهتمام العرب بأخبار المعارك والحروب كان هو الأكثر، حتى إنّ بداية روايات السيرة النبوية تمحورت حول أخبار المغازي، حتى إنّ المصدر الأساس للسيرة الذي ألّفه محمد بن إسحاق (ت: 150هـ) عنوانه: (المبدأ والمبعث والمغازي)

5/ اتّخاذ خاتم للتوقيع: حينما أراد أن يرسل رسائل إلى الملوك يدعوهم فيها للإسلام قيل له: يا رسول الله، إنّ الملوك لا يقرأون كتابًا إلّا مختومًا، فاتخذ الرسول يومئذٍ خاتمًا من فضة، نقشه ثلاثة أسطر (محمد رسول الله) وختم به الكتب[7].

6/ جاء في طبقات ابن سعد: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يَخْطُبُ إِلَى جِذْعٍ فِي الْمَسْجِدِ قَائِمًا فَقَالَ: "إِنَّ الْقِيَامَ قَدْ شَقَّ عَلَيَّ". فَقَالَ لَهُ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ: أَلا أَعْمَلُ لَكَ مِنْبَرًا كَمَا رَأَيْتُ يُصْنَعُ بِالشَّامِ؟ فَشَاوَرَ رَسُولُ اللَّهِ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ فَرَأَوْا أَنْ يَتَّخِذَهُ[8].

7/ في حادثة الإفك وعندما أخذ المنافقون يشيعون اتّهامًا باطلاً تجاه زوج رسول الله ، تلك الحادثة التي سجّلها القرآن الكريم في (سورة النور) يقول تعالى: ﴿لَّوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَـٰذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ [النور، آية: 12]

هنا أيضًا استشار رسول الله بعض أصحابه عن الموقف الأفضل للتعامل مع هذه الحادثة النكراء التي استهدفت عرضه وأسرته.

الشورى نهج ومسلك

إنّ الشورى نهج يجب أن يسلكه المسلمون في إدارة شؤونهم العامة، وأخصّ هنا الجانب الاجتماعي في مؤسساتنا الاجتماعية والدينية، والأندية الرياضية، والجمعيات الخيرية، والأوقاف والمساجد، والحسينيات، والمواكب، واللجان والأنشطة المختلفة، ينبغي أن تسود فيها قيمة الشورى وروح العمل الجمعي، وذلك يقتضي احترام رأي الآخرين، والإصغاء لوجهات نظرهم، ومناقشتهم، ثم التوافق على القرار بروح رياضية، واستعداد للتنازل عن الرأي.

فإذا كان رسول الله على عظمته وصلته بالوحي يستشير الآخرين، ويقبل اعتراضهم، ويتنازل عن رأيه لرأيهم حينما يرى المصلحة في ذلك الرأي. فإنّ علينا أن نتأسّى به ونقتدي بنهجه.

ورد عنه : الْحَزْمُ مُشَاوَرَةُ ذَوِي الرَّأْيِ وَاتِّبَاعُهُمْ[9].

وعنه : مَا تَشَاوَرَ قَوْمٌ قطّ إِلَّا هُدُوا لِأَرْشَدِ أَمْرِهِمْ[10].

ينبغي تسليط الأضواء على ممارسة رسول الله للشورى، لتتعزز ثقافة الشورى بين أبناء أمته، ولنشر هذه الصورة عن سيرة رسول الله على المستوى العالمي الإنساني، حتى يعرف العالم الصورة الحقيقية لشخصية رسول الله ، في مقابل الصورة السلبية التي يروجها المغرضون.

للمشاهدة:

https://www.youtube.com/watch?v=ItYAr4d5Ewo

للاستماع:

https://www.saffar.me/?act=av&action=view&id=1449

 

خطبة الجمعة 24 جمادى الأولى 1442هـ الموافق 8 يناير 2021م.
[1] تفسير التحرير والتنوير، ج3، ص269.
[2] معالم التنزيل للبغوي، ج2، ص124.
[3] صحيح ابن حبان، ج11، ص217.
[4] ابن كثير: البداية والنهاية، ج3، ص327.
[5] ابن جرير الطبري: تاريخ الطبري، ج2، ص190.
[6] ابن هشام: السيرة النبوية، ج2، ص223.
[7] ابن سعد: الطبقات الكبرى، ج1، ص258.
[8] الطبقات الكبرى، ج1، ص250.
[9] بحار الأنوار، ج91، ص254.
[10] الدر المنثور، ج6، ص10.