السيرة النبوية مصدر هداية وإلهام

 

قال تعالى: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّـهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب: 21]

يؤدي الأنبياء وظيفتهم في هداية الناس إلى عبادة الله تعالى وإلى الالتزام بمكارم الأخلاق عبر طريقين:

البلاغ المبين

الأول: مخاطبة الناس وتوجيه الدعوة والإرشاد إليهم بأفضل لغة وأوضح بيان، لاستثارة عقولهم، وإيقاظ وجدانهم، وإحياء نزعة الخير والصلاح في نفوسهم.

وقد منح الله تعالى أنبياءه أفضل قدرات التخاطب والتأثير والإقناع، فكلّ نبي كان يخاطب قومه باللغة التي يستخدمونها والأسلوب الذي يفهمونه.

يقول تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ۖ فَيُضِلُّ اللَّـهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [إبراهيم: 4]

وكان خطاب الأنبياء لأقوامهم في غاية الجلاء والوضوح، وهو ما يطلق عليه القرآن الكريم ﴿الْبَلَاغُ الْمُبِينُ، حيث تكرر وصف خطاب الأنبياء بهذه الصفة

يقول تعالى: ﴿فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ [النحل، 35]

ويقول تعالى: ﴿وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ [العنكبوت، 18]

ويقول تعالى: ﴿فَإِنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ [التغابن، 12]

كما أنّ الأنبياء يراعون مستوى الفهم العام عند الناس الذين يخاطبونهم، حيث ورد عنه : "إِنَّا مَعَاشِرَ اَلْأَنْبِيَاءِ أُمِرْنَا أَنْ نُكَلِّمَ اَلنَّاسَ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ"[1].

النموذج والقدوة

الثاني: تقديم النموذج العملي والتطبيقي للالتزام بالمبادئ والقيم عبر سيرة الأنبياء وسلوكهم، حيث يكون النبي حياة متحركة لرسالته بين الناس، فهو يدعوهم إلى ما يلتزم به ويطبقه، وذلك ما يثبت مصداقيته، فإنّ الناس لا يثقون فيمن يخالف فعله قوله.

كما أنّ معايشة الناس لمن يلتزم بالمبادئ والقيم تجعلهم أقرب للاقتناع بإمكانية التطبيق والالتزام بتلك القيم، فهي ليست دعوة مثالية غير قابلة للتطبيق.

لذلك أراد الله تعالى أن يكون أنبياؤه قدوات يتطلع الناس إلى الاقتداء والتأسي بهم في ممارسة الحياة وإدارتها وفقًا للمبادئ ومكارم الأخلاق.

وكما أمر الله تعالى بإطاعة الرسول في أوامره ونواهيه فقال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّـهِ [النساء، 64]، كذلك فإنه تعالى وجه الناس للتأسي والاقتداء برسول الله ، يقول تعالى: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّـهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب: 21]

لذلك اعتبر الفقهاء أنّ سيرة النبي وأفعاله حجة في معرفة معالم الدين وأحكامه كأقواله، فكما نستنبط الحكم الشرعي من قول رسول الله كذلك نستنبطه من فعله وعمله ضمن ضوابط الاستنباط المقررة. وإلى جانب قوله وفعله فإنّ تقريره أيضًا حجة فالأعمال التي يقوم بها الآخرون بمحضر رسول الله فيمضيها ولا يعترض عليها يمكننا استنباط الحكم الشرعي من إمضائه وإقراره لها.

من هنا تبدو أهـمية السيرة النبوية الشريفة، فهي مصدر هداية لمعرفة معالم الدين وأحكامه، وهي منبع إلهام للالتزام بمكارم الأخلاق، وتجسيد القيم الإنسانية الفاضلة.

وحين يدعونا الله للتأسي بالنبي والاقتداء به فهذا يعني ضمنا الدعوة للاطلاع على حياة رسول الله وقراءة سيرته.

قراءة السيرة النبوية

إنّ قراءة السيرة النبوية تزيدنا معرفة برسول الله وبعظمة شخصيته، وترسّخ محبته وعشقه في قلوبنا ونفوسنا، كما أنّها تحفزنا للاقتداء به والتأسي بمكارم أخلاقه.

لقد أسرت أخلاق رسول الله حتى المناوئين له، فقادتهم إلى الإيمان به، والانضواء تحت رايته

جاء في رواية: عن جابِرٌ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللِّهِ ﷺ بذاتِ الرِّقاعِ، فإذَا أَتَيْنَا عَلَى شَجرةٍ ظَلِيلَةٍ تركْنَاهَا لرسول اللَّه ﷺ، فَجاء رجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِين، وَسَيفُ رَسُول اللَّه ﷺ مُعَلَّقٌ بالشَّجرةِ، فاخْترطهُ فَقَالَ: تَخَافُنِي؟ قَالَ: لا! قَالَ: فمَنْ يمْنَعُكَ مِنِّي؟ قَالَ: اللَّه. قَالَ: فسقَطَ السَّيْفُ مِنْ يدِهِ، فَأخَذَ رسَول اللَّه ﷺ السَّيْفَ فَقال: منْ يمنعُكَ مِنِّي؟  فَقال: كُن خَيْرَ آخِذٍ، فَقَالَ: تَشهدُ أنْ لا إلَه إلاَّ اللَّهُ، وأنِّي رسولُ اللَّه؟ قَالَ: لاَ، ولكِنِّي أعاهِدُك أنْ لا أقَاتِلَكَ، وَلاَ أكُونَ مَعَ قَومٍ يُقَاتِلُونَكَ، فَخلَّى سبِيلهُ، فَأتى أصحابَه فقَالَ: جِئتكُمْ مِنْ عِندِ خيرِ النَّاسِ"[2].

وعلى مرّ العصور كانت سيرته تستقطب الباحثين المنصفين حيث يعتنقون الإسلام من خلال الاطلاع على السيرة النبوية.

وقد اهتم أهل البيت وصحابة النبي بحفظ سيرة رسول الله ونقلها لأجيال الأمة.

الفرادة والتميّز في السيرة النبوية

ويمكن القول إنه لم تحظَ شخصية في التاريخ الإنساني بمثل ما حظيت به شخصية النبي محمد ، من اهتمام بتاريخ حياته وتوثيق سيرته.

ومما انفردت به السيرة النبوية الشريفة عن تاريخ كلّ الشخصيات الأخرى، احتواؤها على أدقّ التفاصيل في حياة رسول الله الشخصية والاجتماعية، وكأنموذج لهذا الاستيعاب المدهش، نشير إلى أحد كتب السيرة النبوية، وهو كتاب (سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد) لمصنفه الإمام محمد بن يوسف الصالحي الشامي (ت:942هـ)، الذي استخلصه من أكثر من ثلاثمئة كتاب، حسبما ذكر في مقدمته، وقسمه إلى نحو ألف باب، وقد طبع مؤخراً في اثني عشر مجلداً، يزيد مجموع صفحاتها على 6000 صفحة.

وحين نقرأ عناوين أبواب هذا الكتاب نجد مثلاً: ثلاثة وعشرين باباً، استغرقت 120 صفحةً تقريباً مخصصة لصفات جسم النبي عضواً عضواً، كرأسه وشعره، وجبينه، وحاجبيه، وعينيه، وسمعه، وأنفه، وخديه، وفمه، وأسنانه، ولحيته، وعنقه، وظهره، وصدره، وبطنه، ويديه، وإبطيه، وساقيه، وفخذيه...

كما أفرد لصفاته المعنوية 24 باباً زادت صفحاتها على 120 صفحة، كالحديث عن حلمه وعفوه، وحيائه، ومداراته وصبره، وبره وشفقته ورحمته، وتواضعه، وشجاعته، وكرمه وجوده، وزهده وورعه، وهبيته ووقاره، ومزاحه ومداعبته، وضحكه وتبسمه...

وخصص خمسة أبوابٍ لطريقة النبي في كلامه وتحريك يده حين يتكلم أو يتعجب، ونكته في الأرض بعود، وتشبيكه أصابعه وتسبيحه، وتحريكه رأسه، وعضه لشفته، وضربه يده على فخذه عند التعجب.

كما خصص أبواباً لطريقة جلوسه واتكائه ومشيه، وأبواباً في ذكر مأكولاته ومشروباته، وطريقته في الأكل والشرب، وأبواباً حول نومه ويقظته، وأبواباً في سيرته في لباسه وذكر ملبوساته،

وأبواباً حول بيته وما فيه من أثاث وتجهيزات، وأبواباً حول دوابه التي يمتطيها والأنعام التي كان يقتنيها، إلى أبواب أخرى متعددة فيما يتصل بحياته الشخصية.

أما عن حياته الاجتماعية، ففي الكتاب عشرات الأبواب عن شؤونه العائلية، في ذكر زوجاته وأبنائه وبناته، وعن نسبه وأسرته وأقربائه، وعشرات الأبواب حول أصحابه.

والمساحة الأوسع في الكتاب تشغلها مئات الأبواب عن سيرته في الدعوة وتبليغ الرسالة، ومواجهة مكائد الأعداء والمناوئين، وإدارة المعارك والغزوات، ورسائله إلى الملوك، واستقباله الوفود، وقيادة الأمة، وإدارة المجتمع في مختلف الجوانب السياسية والاقتصادية والقضائية.

هذا كتاب واحد من مئات - إن لم يكن آلاف - الكتب التي صنفت في السيرة النبوية، منذ بدأ التدوين في النصف الأول من القرن الثاني الهجري، على يد محمد بن اسحاق المطّلبي (ت: 150 ه) ثم استمرت مسيرة الكتابة والتدوين في السيرة النبوية دون انقطاع، بحيث لا يكاد يخلو عصر أو جيل في تاريخ الأمة من ظهور مدونات في السيرة النبوية، إلى عصرنا الحاضر، حيث يذكر الباحثون: أنّ ما صنّف في هذا العصر في سيرة النبي محمد يفوق عدداً ما وضعه القدامى خلال قرون.

وما يلفت النظر أكثر، هو الاقبال الشديد في هذا العصر على ما يكتب عن النبي محمد ، فبعض هذه الكتب تنفد نسخ طبعتها خلال شهور من نشرها، وبعضها تكررت طباعتها أكثر من عشر مرات في سنوات معدودة.

إنّ على كلّ مسلم أن يهتم بالاطلاع على سيرة رسول الله وأن يربّي أبناءه على محبة رسول الله والعشق لشخصيته العظيمة.

وإنّ أفضل ردٍّ على الإساءات لشخصية رسول الله من قبل بعض المتطرفين في الغرب، هو نشر سيرة رسول الله ومكارم أخلاقه بلغة إنسانية عصرية، لمختلف شعوب العالم عبر الوسائل المؤثرة كالأفلام السينمائية، والأفلام الكارتونية الموجهة للأطفال، وعبر الروايات الأدبية، والكتابات الجذابة.

تواجهنا تحدّيات ومشاكل في قراءة السيرة النبوية لفرز الصحيح مما ورد فيها عن غير الصحيح، ولفهم أحداثها، وموارد تنزيلها على الواقع المعاصر، وهو ما نواجهه في قراءة مختلف جوانب الدين والتراث.

للمشاهدة:

https://www.youtube.com/watch?v=OgCfWpJICpM

للاستماع:

https://www.saffar.me/index.php?act=av&action=view&id=1438

خطبة الجمعة 21 ربيع الأول 1442هـ الموافق 6 نوفمبر 2020م
[1] الكليني: الكافي، ج1، ص23.
[2] مسند الإمام أحمد بن حنبل، ح14929.