التنافس في الخدمة الاجتماعية

 

ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه قال: «مَنْ كَبُرَتْ هِمَّتُهُ كَبُرَ اهْتِمَامُ»[1] 

في بداية حياة الإنسان يكون عاجزًا عن إدارة حياته وتسيير شؤونه، حيث تقوم عائلته بتنشئته وتربيته وإدارة شؤون حياته، فهو لا يمتلك القدرة الجسمية، ولا المؤهلات النفسية والعقلية المناسبة للتعامل مع الحياة، من هنا تكون الولاية عليه من قبل أبيه أو جدّه أو أمه، أو وصي عليه من قبل أحد والديه. 

وبعد أن يكتمل نموه الجسمي وإدراكه العقلي ونضجه النفسي ويصبح بالغًا راشدًا، يستقلّ بإدارة حياته، ويكون مؤهلًا لاتخاذ القرارات الخاصة به.

وعندما يصبح ذا عائلة تتسع دائرة مسؤولياته إلى العائلة التي يقودها ويديرها ويرعاها، فإذا اجتهد في تطوير قدراته وطاقاته يصبح مؤهلًا لإدارة مساحة أوسع من شؤون الحياة العامة، عبر المناصب والمواقع الإدارية والقيادية في المجتمع.

الطموح والهمة العالية

كلّ إنسان لديه القابلية والاستعداد لكي يتبوأ مواقع قيادية في إدارة الحياة والمجتمع، لكن ذلك يعتمد على مدى ثقته بنفسه واكتشافه لقدراته وطاقاته، واجتهاده في البذل والتضحية، كلما كانت ثقته بنفسه أكبر وكان لديه اهتمام بتطوير قدراته وطاقاته، كان أقدر على إدارة مساحة أوسع من الحياة.

ولا شك أنّ التصدي للخدمة الاجتماعية والشأن العام يستهلك من الإنسان وقتًا وجهدًا ومالًا، لكن ذلك جزء من واجبه الديني والإنساني والاجتماعي.

فالدين يشجع الإنسان على أن يكون طموحًا، يتطلع إلى إدارة أوسع مساحة من المجتمع والحياة، ولذلك ورد في القرآن الكريم من دعاء المؤمنين ﴿وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [سورة الفرقان، الآية: 74].

من أبرز مجالات الطموح والتطلع لممارسة الدور القيادي، مجال الاهتمام بالخدمة الاجتماعية، أن يتحمّل الإنسان المسؤولية، ويتصدّى لخدمة المجتمع، فلا يكفي أن تدير نفسك وعائلتك، بل عليك أن تفكر في إدارة المجتمع من حولك.

كلما استطعت أن تتصدى إلى مساحة أوسع في إدارة المجتمع فهو خير لدنياك وآخرتك، فهو جزء من الواجب الديني، فقد ورد في الحديث عن رسول الله : «أحَبُّ النّاسِ إلَى الله تَعالى أنفَعُهُم لِلنّاسِ»[2] .

وعنه : «خَصْلَتَانِ لَيسَ فَوْقَهُمَا مِنَ الْبِرِّ شَيءٌ: الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَالنَّفْعُ لِعِبَادِ الله»[3] .

ونقرأ في الدعاء: «وَأجْرِ لِلنّاسِ عَلى يَديَ الخَيْرَ»[4] .

إنّ فطرة الإنسان ومشاعره الإنسانية تدفعه للسعي لمساعدة الآخرين ونفعهم، وذلك يحفّز مواهب الإنسان وقدراته، حيث تتبلور شخصيته وتنمو مواهبه القيادية ومهارته في الإقناع والتواصل والإدارة والقيادة، ولذلك ورد عن أمير المؤمنين : «مَنْ كَبُرَتْ هِمَّتُهُ كَبُرَ اهْتِمَامُ».

من يدير عائلته تبقى قدراته ضمن هذا الإطار، أما إذا علت همته واتسعت دائرة اهتمامه إلى الشأن الاجتماعي العام، فإن ذلك يحفّزه لاهتمامات أكبر، وبذلك تصقل شخصيته وتنمو قدراته، يقول الإمام علي : «شَجاعَةِ الرَّجُلِ عَلى قَدْرِ هِمَّتِهِ»[5]  سواء كانت شجاعة الرأي أو شجاعة القلب، بمقدار ما تكون لديك همّة فإنك تنمي طاقاتك وقابلياتك بشكل تلقائي.

صحيح أنّ الخدمة الاجتماعية تضيف على الإنسان أعباء، فيصرف من وقته وجهده وماله.

كما قال الإمام علي : «بِقَدْرِ الهِمَمِ تَكُونُ الهُمُومُ»[6]  لكن ذلك يمنحك شرفًا ومكانة عند الله وعند الناس؛ لأنّ النفوس جُبلت على حبّ من أحسن إليها. 

أمّ الأيتام

نشرت الصحف[7]  عن امرأة هندية تدعى (سيندهوتاي سابكال) أطلقوا عليها (أمّ الأيتام) حيث تبنت مئات الأيتام وشيدت أربع دور لرعايتهم.

كانت بداية قصتها: منذ نحو 48 عامًا، عندما كانت حاملًا في شهرها التاسع، وكان زوجها يعاملها بجفاء وغلظة، وفي إحدى نوبات غضبه ركلها في بطنها وطردها خارج المنزل، ولم يكن لها مأوى إلّا حظيرة أبقار، فتركها متوقعًا أنّها ستموت دهسًا تحت أقدام الأبقار على الأرجح. 

لكنّ الله قدّر لها الحياة، وفي تلك الليلة أنجبت بنتًا، واضطرت إلى قطع حبلها السّري بحجر ذي حافة حادة!

وفي اليوم التالي أخذت تتسوّل لتحصل على طعام يمكّنها من البقاء هي وطفلتها على قيد الحياة، وكان أسلوبها في التسول ترديد الأناشيد التعبدية التبتلية؛ وفي نهاية اليوم تعود لتنام في حظائر الأبقار أو المقابر أو محطات القطارات!

وذات مرة وجدت طفلًا يبكي بجوار أمه المتوفاة على رصيف القطار، فحرّك ذلك المشهد مشاعرها وأخذته ورعته بعدما رفضت السلطات تسلّمه، وكانت تلك هي نقطة التحول في حياتها. 

بدأت تقدّم الطعام إلى الشّحاذين والأطفال المتخلى عنهم، ومع تزايد أعدادهم سعت للحصول على المزيد لتوفر للأطفال مأوًى مريحًا وتعليمًا جيدًا.

وحاليًا تدير بمساعدة ابنتها (ماما تاوديبيكا)، أول طفلة تبنتها، أربع دور للأيتام، اثنتان للفتيات واثنتان للفتيان.

وهي لا تعرض الأطفال الذين تتبناهم للتبنّي، بل تعاملهم كأبنائها وليس عليهم مغادرة الدار قبل بلوغ الثامنة عشرة من العمر، ويتم الاهتمام بهم حتى يحصلوا على وظيفة ويتزوجوا.

وأصبح الكثير ممن تبنّتهم محامين وأطباء ومهندسين وأكاديميين، أخذوا يتبرعون لمؤسستها التي تعمل من أجل مساعدة المعوزين.

المذهل أنّها قادرة على التواصل مع كلّ أولئك الأطفال، ولديها حاليًا (282) زوج ابنة، و(48) زوجة ابن، وما يزيد على ألف حفيد.

ويفتخر الأطفال، الذين ربّتهم ومنحتهم الرعاية، بحمل اسمها جزءًا من أسمائهم.

تحب (سيندهوتاي سابكال) الحيوانات أيضًا، وتدير مأوى للأبقار المريضة أو التي تتعرض لسوء المعاملة أو يتم التخلي عنها، ويوجد في ذلك المأوى (175) بقرة، تعتبرها من أفراد عائلتها. 

وقد تم توثيق قصة حياتها في كتاب وفيلم، عرض في مهرجان لندن السينمائي، وفاز بأربع جوائز محلية، وتم اختياره ليكون الفيلم الافتتاحي في الدورة الرابعة والخمسين من مهرجان لندن السينمائي.

وقد حصلت على أكثر من (750) جائزة وكرّمها رئيسان للهند، فصرفت أموال الجوائز في شراء أراضٍ لبناء منازل للأطفال الأيتام.

أخذ العبرة والعظة

كثيرًا ما نسمع في الواقع الحاضر ونقرأ في التاريخ عن أشخاص توسعت مداركهم وصقلت شخصياتهم من خلال اهتمامهم بالخدمة الاجتماعية، وأصبحت لهم مكانة في مجتمعاتهم وفي العالم، وهذا ينبغي أن يحفّزنا على التنافس في خدمة مجتمعنا، خاصة وأنّ الإنسان المؤمن يسعى لنيل رضا الله تعالى في المقام الأول.

إنّ المتدينين الذين يهتمون بالعبادات كالحج والزيارة ويشاركون في مواكب العزاء، ينبغي أن يكونوا في الطليعة المتصدّين للأعمال الخيرية وخدمة المجتمع، فذلك ما يأمر به الدين ويحقق للإنسان الثواب والأجر الأكبر عند الله تعالى.

صحيح أنّ ذلك يحمّل الإنسان أعباء، إضافة إلى مسؤولياته العائلية وببرامجه المتعددة، خاصة في هذا الزمن الذي تشعبت فيه الارتباطات الاجتماعية، لكنّ الله تعالى يبارك للإنسان في ماله ووقته وجهده إذا أنفق منه في سبيل الله ومن أجل خدمة الناس.

شخصيات تستحق التقدير 

هنيئًا للعاملين من النساء والرجال الذين يتصدون للعمل في الجمعيات الخيرية والأندية الرياضية وفي لجان العمل التطوعي المختلفة.

إنهم يحرزون لأنفسهم مقامًا كبيرًا عند الله في الآخرة، كما أنهم ينمون شخصياتهم وقدراتهم ومواهبهم.

وعلى المجتمع أن يُقدّر لهؤلاء العاملين عطاءهم ودورهم، وأن يكون التنافس لخدمة المجتمع هو الميدان الذي يتسابق إليه الناس.

وبهذه المناسبة أبارك للإخوة الأعزاء في مجلس الإدارة الجديد لجمعية القطيف الخيرية، حيث تم انتخابهم مساء الأربعاء ليلة الخميس الأسبق 24 جمادى الأولى 1440هـ.

نسأل الله أن يثيب العاملين في الإدارة السابقة على جهودهم، ويوفق الإدارة الجديدة للاستمرار في مسيرة الجمعية وأداء رسالتها.

كما تم بالأمس انتخاب مجلس إدارة جديد لجمعية سيهات الخيرية، ولا بُدّ أن نشيد بالإقبال الكبير من قبل أهالي سيهات على حضور الجمعية العمومية، فقد كان التصويت بأرقام متقدمة قياسًا إلى الجمعيات الأخرى، وانتخبت إدارة جديدة لجمعية سيهات، نسأل الله لهم التوفيق والمزيد من العمل في خدمة مجتمعهم ووطنهم.

نأمل من هذه الإدارات الجديدة التي نقدر دورها وعطاءها ونشاطها أن يسعوا لتطوير أنشطة الجمعيات التي يتولون إدارتها وأن يضاعفوا الخدمات التي يقدمونها وأن يفعلوا تواصلهم مع المجتمع، ونأمل أن يتفاعل الجمهور مع هذه الجمعيات الخيرية.

من كان له نقد أو وجهة نظر فلا ينبغي أن يحصرها في المجالس، فينشر صورة سلبية، وإنما ينبغي أن يتواصل مع الجهة المعنية في هذه الجمعيات، وأن يشارك عمليًا في هذه الجمعيات.

* خطبة الجمعة بتاريخ 3 جمادى الثاني 1440هـ الموافق 8 فبراير 2019م.
[1]  غرر الحكم ودرر الكلم، ص258، حكمة 1224.
[2]  كنز العمّال، ج 15،ص 917، ص43583.
[3]  تحف العقول، ص35.
[4]  الصحيفة السجادية، دعاء مكارم الأخلاق.
[5]  غرر الحكم ودرر الكلم، ص235، حكمة 10.
[6]  المصدر نفسه، ص167، حكمة 172.
[7]  جريدة الشرق الأوسط: الجمعة، 2 صفر 1440 هـ- 12 أكتوبر 2018 م، رقم العدد [ 14563]، (أم الأيتام الهندية).