النيّة الجميلة مع الناس

 

ورد عن الإمام علي أنه قال: «إنَّ الله سُبْحانَهُ يُحِبُّ أنْ تَكُونَ نِيَّةُ الإنْسانِ لِلنّاسِ جَمِيلَةً، كَما يُحِبُّ أنْ تَكُونَ نِيَّتُهُ في طاعَتِهِ قَوِيَّةً غَيْرَ مَدْخُولَة»[1]  

كما ينطلق الإنسان المتديّن في أدائه لشعائره العبادية من نيّة التقرب إلى الله والامتثال لأمره، كذلك عليه أن ينطلق في تعامله مع الناس من النيّة الحسنة الجميلة تجاههم.

أنت في عبادة الله تنطلق من نية القربة، دون رياء أو أيّ قصد آخر، كذلك في تعاملك مع الناس ينبغي أن تنطلق من النية الحسنة، هذا ما يؤكد عليه أمير المؤمنين ، وينسب ذلك إلى الله تعالى: «إنَّ الله سُبْحانَهُ يُحِبُّ» وهذا يؤكد لنا أهمية توفر الإنسان المؤمن على هذه الحالة.

«كَما يُحِبُّ أنْ تَكُونَ نِيَّتُهُ في طاعَتِهِ قَوِيَّةً» أي ثابتة ليس فيها أيّ تردّد، «غَيْرَ مَدْخُولَة» ليس فيها رياء، وكأنّ المتديّن يتدرّب ويتأهل في برنامج العبادة على حسن التعامل مع الناس.

أبرز تجليات النية الجميلة 

أولاً: الانطباعات الإيجابية عن الناس 

من يحمل في قلبه نية جميلة، تكون انطباعاته عن الناس إيجابية بشكل تلقائي، لا ينظر إلى غيره نظرة سلبية، ولا يفسّر تصرفات الناس تفسيراً سيئاً، ما لم تكن هناك أدلة قاطعة، لذلك نهى الدين عن سوء الظنّ بالآخرين، يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [سورة الحجرات، الآية:12].

الإثم ثابت في بعض الظنّ، لكن عليك أن تتجنب أكثره، فحين تحتمل السوء من تصرف صادر عن أخيك المؤمن، عليك أن تطرد هذا الاحتمال، وتفتش عن احتمال آخر، فقد ورد عن النبي : «اُطلُبْ لأِخِيكَ عُذرًا، فَإنْ لَم تَجِدْ لَهُ عُذراً فَالتَمِسْ لَهُ عُذرًا»[2] ، ما دام الأمر يحتمل وجود وجه حسن، وإن كان الاحتمال ضئيلاً فعليك الأخذ به.

وعن الإمام علي : «ضَعْ أمرَ أخيكَ على أحسَنِهِ حتّى يَأتِيَكَ مِنهُ ما يَغلِبُكَ، ولا تَظُنَّنَّ بكَلِمَةٍ خَرَجَت مِن أخيكَ سُوءاً وأنتَ تَجِدُ لَها في الخَيرِ مَحمِلاً»[3] .

ينبغي أن نفسّر أعمال الآخرين وتصرّفاتهم تفسيراً حسناً، ما أمكن ذلك.

إنّ حسن الظن يريح الإنسان نفسياً، ويبعد عنه الهم والتفكير السلبي، فقد ورد عن الإمام علي : «حُسنُ الظَّنِّ يُخَفِّفُ الهَمَّ، ويُنجِي مِن تَقَلُّدِ الإثمِ»[4] .

فمثلاً إذا اتصلت بأحد أصدقائك هاتفياً فلم يردّ عليك الاتصال، فأسأت الظنّ فيه بأنه تعمّد تجاهلك، فهذا يوجد استياءً في نفسك، ولعلّه مخالف للحقيقة فتكون قد احتملت إثماً، أما لو أحسنت الظن في صديقك واحتملت خللاً فنياً في خطوط الاتصال، أو أنه منشغل جداً فلم ينتبه لمكالمتك، فإنّ الظنّ الحسن يريح نفسك من حالة الانزعاج والاستياء، ويبعدك عن احتمال الإثم حين تتهمه بتعمد تجاهلك بينما الأمر خلاف ذلك..

وفي حديث عن رسول الله أنه قال: «مَن أساءَ بأخِيهِ الظَّنَّ فَقَد أساءَ بِرَبِّهِ، إنّ الله تعالى يقولُ: «اجْتَنِبُوا كَثيرا مِنَ الظَّنِّ»[5] 

بل حتى من يمارس عملاً سيئاً، ينبغي أن نتوقع له التراجع والتوبة، فإذا رأيت إنساناً يمارس فعلاً خاطئاً، توقع أن فعله صادر عن غفلة أو حالة ضعف، وقل في نفسك «آمل أن يتراجع ويتوب».

البعض إذا رأى خطأً من أحد يحكم عليه حكماً نهائياً!، وهذا خلاف النية الجميلة.

جاء في وصية لأمير المؤمنين علي لابنه الحسين : «أي بُنَيَّ، لا تُؤيِسْ مُذنِبًا، فَكَم مِن عاكِفٍ على ذَنبِهِ خُتِمَ لَهُ بخَيرٍ»[6] .

إنّ احتمال التغير والتوبة وارد، وكم من إنسان لديه ذنوب كثيرة يُختم له بخير!

حتى لو رأيت إنساناً في طريق خطأ لا تشطب عليه بشكل نهائي، كن في حالة أمل بتوبته.

ورد عن رسول الله : (أنّ رجلاً قال يوماً: والله لا يغفر الله لفلان! 

فقال الله عزّ وجلّ: «من ذا الذي تألَّى عليَّ أن لا أغفر لفلان، فإنّي قد غفرت لفلان وأحبطت عمل الثاني بقوله لا يغفر الله لفلان»[7] .

البعض ينظر للآخرين نظرة سوداء قاتمة، فيسيء الظنّ بهم، وفي بعض الأحيان يركز على أخطاء الآخرين، ويعرض عن إيجابياتهم! 

كلّ إنسان لديه إيجابيات وسلبيات، ومن يحمل نيّة جميله للناس يركز على الإيجابيات ويتغافل عن السلبيات.

ولدينا قاعدة فقهيه شرعية يطلق عليها الفقهاء (قاعدة الصحة) ومعنى هذه القاعدة: حمل فعل الغير على الصحة، أي فعل يصدر من إنسان تحمله على الصحة، وعلى ذلك إجماع الفقهاء وسيرة المتشرّعة، بل سيرة العقلاء.

حبّ الخير للناس

ثانياً: أن تنطوي نفسك على حب الخير للناس وأن تتمناه لهم. 

إذا رأيت طالباً يدرس تتمنّى له النجاح والتفوق، سواء كان من أقاربك أو بعيدًا عنك، تعرفه أو لا تعرفه.

ترى طلاباً يدخلون المدرسة، أضمر في نفسك الخير لهم، وتوجّه إلى الله بالدعاء لهم بالتوفيق والنجاح، أو ترى موظفين يتوجهون إلى أعمالهم، وآخرين يسعون في تجارتهم، أضمر الخير لهم، بل اجعل هذه النية لكلّ أبناء مجتمعك.

إنّ ذلك ينعكس عليك ثواباً وأجراً من الله تعالى، ويجعل قلبك طيباً عامراً بحب الآخرين.

الإنسان المؤمن الواعي هو الذي تنطوي نفسه على حب الخير للناس، ويتمنّى أن يقدم الخير لهم، وفي الدعاء «وأجْرِ للناس على يدي الخير» أي اجعلني سبباً وطريقًا لوصول الخير للناس، من دون فرق أو تمييز، ما دام الاتجاه الذي هم فيه والعمل الذين يقومون به ليس عملاً عدوانياً على أحد.

وعن الإمام الباقر : «إنّ المُؤمنَ لَتَرِدُ علَيهِ الحاجَةُ لأخيهِ فلا تَكونُ عِندَهُ، فيَهتَمُّ بها قَلبُهُ، فيُدخِلُهُ الله تبارَكَ وتعالى بِهَمِّهِ الجَنّةَ»[8] . 

إنّ مجرّد حمل هَمّ الآخرين والرغبة في مساعدتهم، حتى مع عدم التمكن الفعلي من مساعدتهم، يرفع مكانة الإنسان عند الله، ويدخله بذلك الجنة.

علينا أن ندرّب أنفسنا ونتعود على هذه البرمجة الأخلاقية لمشاعرنا وأحاسيسنا، فتكون انطباعاتنا عن الناس إيجابية، ونضمر في داخلنا حب الخير للناس جميعاً.

* خطبة الجمعة بتاريخ 10 جمادى الثاني 1440هـ الموافق 15 فبراير 2019م.
[1]  غرر الحكم ودرر الكلم.
[2]  بحار الأنوار، ج٧٢، ص١٩٧.
[3]  الكافي، ج٢، ص٣٦٢.
[4]  غرر الحكم ودرر الكلم.
[5]  كنز العمال، ج٣، ص٤٩٧.
[6]  بحار الأنوار، ج٧٤، ص٢٨٩.
[7]  المصدر نفسه، ج٦، ص٤.
[8]  الكافي، ج٢، ص١٩٦.