ظاهرة التنمر في العلاقات الاجتماعية

 

ورد عن الإمام علي : «إذا حَدَتْكَ القُدْرَةُ عَلى ظُلْمِ النّاسِ فَاذْكُرْ قُدْرَةَ اللهِ سُبْحانَهُ عَلى عُقُوبَتِكَ، وَذَهابَ ما آتَيْتَ إلَيْهِمْ عَنْهُمْ، وَبَقائَهُ عَلَيْكَ».[1]  

إذا رأى الإنسان نفسه في موقع القوة والقدرة، فقد تُسوِّل له نفسه استخدام قدرته في قهر الآخرين، والنيل من حقوقهم المادية أو المعنوية، وذلك نابع ـ في الأساس ـ من تضخم النزعة الأنانية في نفس الإنسان، حيث تدفعه إلى التجاوز والاعتداء على حقوق الآخرين. وقد تظهر هذه الحالة في مرحلة الطفولة، لهذا يبحث علماء التربية حالة العدوانية في سلوك الأطفال، ويؤكدون على ضرورة رصد هذه الظاهرة ومحاصرتها، حتى لا تتجذر وتنمو في نفس الطفل مع نموّه وتقدّم سنّه. 

أما في مرحلة المراهقة فتصبح هذه الظاهرة أجلى وأخطر؛ لأنّ الشاب في هذه المرحلة يشعر بقوة عضلاته، وتتأجج أحاسيسه ومشاعره الذاتية، مما يجعله معرّضاً للانزلاق باتجاه العدوانية.

تعريف التنمر

في هذا العصر تتحدث كلّ المجتمعات الإنسانية عن ظاهرة (التنمر) في أوساط الشباب وطلاب المدارس إلى المرحلة الجامعية، وتبحث هذه الظاهرة على المستوى العالمي.

ويعرّف الأب المؤسس لأبحاث هذه الظاهرة دان ألويس، التنمر المدرسي على أنه: سلوك عدواني متعمد من جانب طالب أو أكثر بهدف إلحاق الأذى الجسدي أو النفسي بطالب آخر، بصورة متكررة وطوال الوقت، ويمكن أن تكون هذه الأفعال السلبية بالكلمات مثل التهديد والتوبيخ والشتائم، كما يمكن أن تكون بالاحتكاك الجسدي كالضرب والدفع والركل، أو حتى دون استخدام الكلمات أو التعرّض الجسدي مثل التكشير بالوجه، أو الإشارات غير اللائقة، أو الإساءات المكتوبة، أو العزل من الأنشطة والمناسبات الاجتماعية.

انتشار الظاهرة

ظاهرة التنمر في أوساط الشباب ليست حالة جديدة، فهي موجودة في كلّ المجتمعات الإنسانية، لكنها الآن أصبحت أكثر ظهوراً واتساعاً وخطورة، فقد كشفت إحصائيات حديثة لليونسكو أنّ ربع مليار طفل يتعرّضون للتنمر في المدارس من إجمالي مليار طفل يدرسون حول العالم.

وأجريت الدراسة على (19) دولة، وأسفرت نتائجها عن نسب مذهلة منها أن (34%) من الطلاب تعرّضوا للمعاملة القاسية، وأنّ (8%) منهم يتعرضون لـ(البلطجة) يومياً، لذلك أصبحت هناك بحوث ومؤتمرات وبرامج مختلفة حول هذه الظاهرة.

وقد وجدت إحدى الدراسات أنّ الطلاب من ذوي الاحتياجات الخاصة يتعرضون للتنمر أكثر من أقرانهم بمرتين أو ثلاث، وأنّ نسبة (60%) من هؤلاء الطلاب يتعرضون للتنمر بشكل مستمر، في مقابل نسبة (25%) مقارنة بجميع الطلاب.

وفي المملكة العربية السعودية عكست إحدى الدراسات مدى انتشار العنف وسوء معاملة الأطفال في المدارس، التي نفّذها برنامج الأمان الأسري الوطني، وذكرت الدراسة أنّ (٤٧٪)‏ من الأطفال يتعرضون للتنمر، وهذا يعني أنّ طفلاً أو اثنين من كلّ أربعة أطفال يتعرضون للتنمر أو العنف من أقرانهم. ما يرجح أنّ هؤلاء الأطفال عرضة للإصابة بمشكلات عاطفية وسلوكية على المدى البعيد. 

وأشارت الدراسة إلى أنّ التنمر الجسدي أكثر عند الذكور من الإناث، بينما نجد أنّ التنمر اللفظي والنفسي أو التنمر الإلكتروني منتشر لدى الفتيات أكثر من الذكور.

أسباب ظاهرة التنمر

في بحث هذه الظاهرة ومعالجتها يرصد التربويون عدة أسباب لنموها وانتشارها، ومن هذه الأسباب:

إنّ الثقافة السائدة في صفوف الأطفال والمراهقين، لها دور في الدفع نحو هذه الظاهرة واتساعها.

حيث إنّ البرامج والأفلام التلفزيونية، والألعاب الإلكترونية المنتشرة، تضخ أمام الأطفال مشاهد العنف والصراع بشكل يومي، حتى أصبحت جزءاً من أوقات استمتاع الأطفال، فقد اعتاد كثير من الأبناء على قضاء الساعات الطوال في ممارسة ألعاب إلكترونية عنيفة وفاسدة على أجهزة الحاسب أو الهواتف المحمولة، وهي التي تقوم فكرتها الأساسية على مفاهيم مثل القوة الخارقة، وسحق الخصوم، واستخدام كافة الأساليب لتحصيل أعلى النقاط والانتصار.

وربما يجد الأهل أنّ الطفل ينشغل عنهم بهذه البرامج حتى يتفرغوا لبرامجهم واهتماماتهم، ولكن إذا لم يراقبوا نوعية المواد التي يستعرضها الطفل في برامجه وألعابه، قد يتفاجؤون أنّ طفلهم اتجه نحو العنف والعدوانية، ثم تجذرت المشكلة في نفسه!

حين تغفل الأسرة عن تهذيب سلوك أبنائها، عند صدور بعض التصرفات الخاطئة تجاه بعضهم البعض أو تجاه الآخرين ولا تهتم بهذا الأمر، تتجذر هذه السلوكيات في نفوسهم! 

صحيح أنه ينبغي التغاضي عن بعض الهفوات البسيطة، حتى لا يقع الطفل دائماً تحت طائلة المحاسبة والمراقبة، لكن حينما تلحظ العائلة تكرر بعض النزعات والسلوكيات عند الطفل لا ينبغي أن تمر على المسألة مرور الكرام، وإنما يجب أن تفكر في الاهتمام بمعالجة المشكلة عند طفلها حتى لا تنمو وتتجذر وتتصاعد. 

انعكاس طبيعة التنشئة والبيئة العائلية للطفل، فإذا نشأ في بيئة عائلية سليمة بعيدة عن المشاكل، يكون أقرب إلى حالة المسالمة والوداعة، أما إذا نشأ في وسط عائلي موبوء بالنزاع والخلاف، ورأى مظاهر التنازع والصدام والاعتداءات المتقابلة بين والديه مثلاً، أو بين إخوته، فإنه يكتسب هذه السلوكيات.

كما أنّ الأذى الذي يقع على الطفل في محيط أسرته قد يسبب لديه رد فعل ويكتسب هذا السلوك فيمارس العنف ضد الآخرين.

بعض الأطفال تجد لديه قاموساً من السباب والشتائم، تلقّاها من البيئة التي يعيش فيها، تراه يرددها وقد لا يعرف معانيها.

وهناك مصطلح جديد وهو (التنمر داخل العائلة)، حيث إنّ بعض المشاكل التي تحصل بين الأزواج تصبح أشبه بالمعركة، تجد كلّ واحد من الطرفين يعيش الاهتمام بإيذاء الطرف الآخر، وتنشأ بينهما حالات من الانتقام وتصفية الحسابات، وكأنهما ليسا بزوجين! والله تعالى يقول: ﴿وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً.

بعض الحالات من الخلافات الزوجية التي ترفع إلى المحاكم تثير الدهشة والاستغراب، كل واحد يأتي بأدلة ضدّ الطرف الآخر، وكلّ واحد يتجسّس على خصمه، وكأنّ الحياة العائلية تحولت إلى جحيم ومعركة وعداوة وتصفية حسابات، وذلك من أشدّ حالات التنمر!

أثر البيئة الاجتماعية حيث إنّ لها دورًا في صياغة شخصية الطفل وسلوكياته، فالمجتمعات التي تمرّ بحالة فتن وحروب وصراعات داخلية ينشأ أبناؤها متأثرين بحالة العنف والاحتراب، وتتحدث التقارير عن حالة المجتمع السوري ـ على سبيل المثال ـ وحاجته إلى برامج وسنوات لإعادة التأهيل النفسي والاجتماعي لأبنائه، بعد سنوات الحرب الداخلية.

وتمتدّ الحالة أيضاً إلى بيئة العمل الوظيفي، فإذا سادتها أجواء التنافر والخصام تظهر فيها حالات التنمر فيما بين الإدارة والموظفين، وفيما بين الموظفين أنفسهم.

بعض المديرين يتنمرون في التعامل مع موظفيهم، بدل أن يفكروا في مساعدة الموظف والارتقاء به ودعمه وتشجيعه، يعاملونه بالإساءة والتنكر لكفاءته وإنجازه!!

وكذلك الحال في التعامل مع المراجعين، بعض المديرين يتعامل بطريقة سيئة، وكأنه يتلذذ بإيذاء المراجعين، وأسهل كلمة على طرف لسانه: (تعال غداً، أو بعد أسبوع)!!

ويشكو بعض المراجعين للدوائر الرسمية حين يذهب إلى دائرة لإنهاء معاملة أنّ الموظف لا يخبره عن المستندات المطلوبة كلها، بل يطلب منه كلّ يوم شيئاً جديداً مما يضطره أن يتردد ويراجع عدة مرات، حتى يؤذي المراجع؛ لأنه يعيش حالة معقدة داخل نفسه، فيتنمر على الناس مستغلًّا موقعه!!

كما تحصل حالات تنمر تجاه العمالة المنزلية من قبل بعض العوائل، إلى حدٍّ قد يدفع العاملة إلى التفكير في الانتقام من العائلة، وقد حصلت حالات فظيعة من الانتقام!! 

التنمر الديني

أحد الباحثين اقترح مصطلحاً أطلق عليه (التنمر الديني) ويعبّر عن ظاهرة ومشكلة حقيقية، فبعض المتدينين يرى أنّ عقيدته تبرر له الإساءة للمخالفين، فيتنمر ضد أتباع الدين الآخر والمذهب الآخر، وهناك روايات ونقولات تنسب إلى الإسلام تدعو للتعامل السيئ مع أتباع الأديان الأخرى، مثل: ألجؤوهم إلى أضيق الطرق، لا تدعوهم يمشون في الطريق الواسع!! 

وكتب أحدهم بعد أن غادر حالة التشدد: ما زلت أتذكر يوم كنت متحمّساً، حين أقود سيارتي وأرى أجنبياً غير مسلم أضايقه بسيارتي حتى أؤذيه!

هل هذا الإسلام؟!

وقال لي أحد الأشخاص: كنت أدرس في إحدى جامعات مصر وكان معنا طلاب غير مسلمين، وكنت أنا ومجموعة من الطلبة المتدينين نتعاون لإيذاء الطلاب المسيحين الأقباط قربة إلى الله تعالى!!

وكذلك قد يحصل التنمر ضمن أتباع الدين الواحد بسبب نزعة التعصب الطائفي، وقد رأينا صدور فتاوى من بعض المتشددين لمطالبة أتباعهم بمقاطعة أتباع المذاهب الأخرى وازدرائهم واحتقارهم باعتبارهم مبتدعة وأهل شرك. بل وقد يحصل التنمر داخل المذهب الواحد، بين المختلفين في المرجعية أو المدارس الفكرية، حيث يسعى البعض لإيذاء الطرف الآخر، ولأنه يعتبرهم مبتدعين ضالين منحرفين، يسعى لعرقلة عملهم، ويفكر كيف يضايقهم، يقوم بذلك قربة إلى الله تعالى!!

كلّ هذه الحالات سيئة مرفوضة شرعاً وعقلاً، وإذا استخدمتها تجاه الآخرين، فهناك من يستخدمها تجاهك أيضًا وتجاه أبنائك. 

مواجهة الظاهرة

من هنا لا بُدّ من الوقوف أمام هذه الظاهرة في العلاقات الاجتماعية، وذلك من خلال الأمور التالية: 

أولًا: من خلال التربية والتنشئة في البيت والمدرسة، بسلامة الأجواء فيهما والتوجيه إلى حسن التعامل مع الآخرين.

ثانيًا: من خلال القوانين الرادعة. فلا بُدّ من سنّ قوانين تردع الاعتداء على حقوق الآخرين المادية والمعنوية. 

ثالثًا: نشر الثقافة الأخلاقية القيمية، التي تؤكد على الرفق والإحسان، واحترام حقوق الإنسان، وتنمية الوازع الديني الذي يمنع الإنسان من أن يعتدي على الآخرين.

إنّ الإمام عليًّا يقول: «والله لو اُعطيتُ الأقاليم السبعة بما تحتَ أفلاكها على أن أعصي الله في نملةٍ أسلبُها لبَّ شعيرةٍ ما فعلتُ»[2] .

هذا هو الوازع الديني، حتى تجاه الحيوان فضلاً عن الإنسان. 

من هنا تأتي النصوص الدينية الكثيرة التي تؤكد على هذا الأمر، مما يدعو الخطاب الديني للتركيز على ذلك، بدل أن نستهلك خطاباتنا الدينية في القضايا التاريخية والنظرية والمثالية، علينا أن نركز على معالجة مثل هذه الظواهر في حياتنا الاجتماعية، حتى يتجنب الناس ظلم بعضهم بعضًا.

وعلينا أن نستحضر في نفوسنا كلمة أمير المؤمنين علي : «إذا حَدَتْكَ القُدْرَةُ عَلى ظُلْمِ النّاسِ فَاذْكُرْ قُدْرَةَ اللّهِ سُبْحانَهُ عَلى عُقُوبَتِكَ»

أنت قد تستطيع أن تتخذ إجراءً ضدّ زوجتك، لكن الله تعالى لك بالمرصاد إن كنت ظالماً، يقول تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ وكذلك الزوجة التي تسوّل لها نفسها أن تمارس قدرة أو قوة تجاه زوجها بغير حقّ، أو المدير تجاه موظفيه، أو أيّ شخص تجاه الآخرين، عليه أن يستحضر مسؤوليته أمام الله سبحانه وتعالى وقدرة الله على عقوبته.

ثم يقول الإمام : «وَذَهابَ ما آتَيْتَ إلَيْهِمْ عَنْهُمْ، وَبَقائَهُ عَلَيْكَ» أي إنّ هذا الذي يتحمل أذاك فترة من الزمن يذهب عنه الأذى، لكنّه سيبقى عليك وستواجهه يوم القيامة أمام الله تعالى!!.

* خطبة الجمعة بتاريخ 17 جمادى الثاني 1440هـ الموافق 22 فبراير 2019م.
[1]  غرر الحكم ودرر الكلم.
[2]  نهج البلاغة، الخطبة ٢٢٤.