الظلم الجديد للمرأة

 

قال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا[1]

كما أبرز الدين نماذج ورموزًا من الرجال ليقتدي بهم الناس في التزام المبادئ وتجسيد القيم السامية، كذلك أبرز نماذج ورموزًا من النساء لنفس الغرض والهدف. ليكنّ قدوة لأجيال البشرية من النساء والرجال.

حيث تحدّث القرآن الكريم مثلًا عن امرأة فرعون (آسيا بنت مزاحم)، وعن مريم ابنت عمران كمثل للذين آمنوا بما يشمل الرجال والنساء.

يقول تعالى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‎﴿١١﴾‏ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ[2]

وبذلك يريد الإسلام أن يقول: إنّ المرأة مؤهلة كالرجل للوصول إلى مستوى الكمال وتحقيق درجات التقدم والرّقي، وأنّها تنافس الرجل في خطّ الالتزام بالمبادئ والقيم، وامتلاك الكفاءات والقدرات.

وهذا ما تؤكد عليه الآية الكريمة في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا[3].

إنّ الآية الكريمة تستعرض أهم مجالات الخير وآفاق التقدم والسّمو، مع ذكر المرأة حينًا إلى جنب الرجل، لإثبات حضورها وأهليتها لاقتحام كلّ الميادين.

زينب القدوة في الكمال والجهاد

وحين نحتفي بميلاد عقيلة الطالبيين زينب بنت علي ، إحدى عظيمات الدين والتاريخ، فإنّ علينا أن نستحضر هذه الحقيقة. فزينب امرأة حققت بكمالها وجهادها ما يقصر عنه ملايين الرجال.

وقد ورد عن الإمام زين العابدين أنه خاطبها بقوله: (وَأَنْتِ بِحَمْدِ اَللَّهِ عَالِمَةٌ غَيْرُ مُعَلَّمَةٍ فَهِمَةٌ غَيْرُ مُفَهَّمَةٍ)[4].

وحين يروي حَبْر الأمة عبدالله بن عباس عن السيدة زينب، يقول بفخر واعتزاز: حدثتني عقيلتنا زينب بنت علي[5].

وهذا حذلم بن كثير (من فصحاء العرب)، أخذه العجب من فصاحة زينب وبلاغتها، وأخذته الدّهشة من براعتها وشجاعتها الأدبية، حتى إنه لم يتمكن أن يشبّهها إلّا بأبيها سيّد البلغاء والفصحاء، قال: قدمت الكوفة في المحرّم سنة إحدى وستين عند منصرف علي بن الحسين والسّبايا من كربلاء ومعهم الأجناد يحيطون بهم، وقد خرج الناس للنظر إليهم... قال: ورأيت زينب بنت علي ولم أرَ خَفِرَةً أنطق منها، كأنّها تُفرغ عن لسان أبيها أمير المؤمنين.

وكان للسّيدة زينب دور أساس رئيس في النهضة الحسينية.

فهي الشخصية الثانية على مسرح الأحداث بعد شخصية أخيها الإمام الحسين .

 ومن يقرأ أحداث كربلاء ويقلّب صفحات كتابها، يرى السيدة زينب إلى جانب الحسين في أغلب الفصول والمواقف، بل إنّها قادت مسيرة الثورة بعد استشهاد الإمام الحسين وأكملت حلقاتها.

 ولولا كربلاء لما بلغت شخصية السيدة زينب هذه القمّة من السّمو والتألق والخلود.. ولولا السيدة زينب لما حقّقت كربلاء أهدافها ومعطياتها وآثارها في واقع الأمة والتاريخ.

 لقد أظهرت كربلاء جوهر شخصية السيدة زينب، وكشفت عن عظيم كفاءاتها وملكاتها القيادية، كما أوضحت السيدة زينب للعالم حقيقة ثورة كربلاء، وأبعاد حوادثها.

حقًّا إنّها بطلة كربلاء وشريكة الحسين.

لقد أفحمت ابن زياد بمنطقها الإيماني فردّ عليها معترفًا بانتصار حجتها عليه قائلًا: كَيْفَ رَأَيْتِ صُنْعَ اَللَّهِ بِأَخِيكِ وَأَهْلِ بَيْتِكِ؟

فَقَالَتْ: مَا رَأَيْتُ إِلاَّ جَمِيلاً، هَؤُلاَءِ قَوْمٌ كَتَبَ اَللَّهُ عَلَيْهِمُ اَلْقَتْلَ، فَبَرَزُوا إِلَى مَضَاجِعِهِمْ، وَسَيَجْمَعُ اَللَّهُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ، فَتُحَاجُّ وَتُخَاصَمُ، فَانْظُرْ لِمَنِ الفَلَجُ يَوْمَئِذٍ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا اِبْنَ مَرْجَانَةَ[6].

قال لها ابن زياد: إن تكوني بلغت من الحجة حاجتك فقد كان أبوك خطيبًا شاعرًا[7].

وقالت ليزيد بن معاوية في مجلسه الذي أراد فيه إظهار قوته وهيبته: (وَلَئِنْ جَرَّتْ عَلَيَّ اَلدَّوَاهِي مُخَاطَبَتَكَ إِنِّي لَأَسْتَصْغِرُ قَدْرَكَ وَأَسْتَعْظِمُ تَقْرِيعَكَ وَأَسْتَكْثِرُ تَوْبِيخَكَ لَكِنَّ اَلْعُيُونَ عبْرَى وَاَلصُّدُورَ حَرَّى).

إلى أن قالت: (فَكِدْ كَيْدَكَ وَاِسْعَ سَعْيَكَ وَنَاصِبْ جُهْدَكَ فَوَ اَللَّهِ لاَ تَمْحُو ذِكْرَنَا وَلاَ تُمِيتُ وَحْيَنَا وَلاَ تُدْرِكُ أَمَدَنَا وَلاَ تَرْحَضُ عَنْكَ عَارَهَا وَهَلْ رَأْيُكَ إِلاَّ فَنَدٌ وَأَيَّامُكَ إِلاَّ عَدَدٌ وَجَمْعُكَ إِلاَّ بَدَدٌ يَوْمَ يُنَادِي اَلْمُنَادِي: «أَلاٰ لَعْنَةُ اَللّٰهِ عَلَى اَلظّٰالِمِينَ» فَـ «اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ رَبِّ اَلْعٰالَمِينَ» اَلَّذِي خَتَمَ لِأَوَّلِنَا بِالسَّعَادَةِ وَاَلْمَغْفِرَةِ وَلِآخِرِنَا بِالشَّهَادَةِ وَاَلرَّحْمَةِ وَنَسْأَلُ اَللَّهَ أَنْ يُكْمِلَ لَهُمُ اَلثَّوَابَ وَيُوجِبَ لَهُمُ اَلْمَزِيدَ وَيُحْسِنَ عَلَيْنَا اَلْخِلاَفَةَ إِنَّهُ رَحِيمٌ وَدُودٌ وَ«حَسْبُنَا اَللّٰهُ وَنِعْمَ اَلْوَكِيلُ»)[8].

إنّ سيرة السيدة زينب تمثل استنهاضًا ودعوة للمرأة المسلمة لكي تثق بنفسها، وتفجّر طاقاتها وكفاءتها في خدمة دينها ومجتمعها، وأن تشارك في حمل هموم الأمة وتطلّعات المجتمع.

تحجيم اهتمامات المرأة المعاصرة

لقد ظلمت المرأة في الماضي بعزلها وتهميشها وتحجيمها في إطار انوثتها، ليبقى الرجل وحده متفردًا في صناعة الأحداث وتحقيق الإنجازات العلمية والاجتماعية.

ورغم أنّ المرأة في العصر الحاضر قد استطاعت كسر طوق العزلة والتهميش، وفرضت نفسها بعد مسيرة نضال مريرة شريكة للرجل في إدارة الحياة، ولا تزال تسعى لاستكمال أدوار شراكتها.

لكنّها اليوم تواجه ظلمًا جديدًا يستهدف إعادة تحجيمها في إطار أنوثتها، بدفعها للاهتمام المبالغ فيه بمظاهر أنوثتها.

إنّ الثقافة التي تبشّر بها الحضارة الغربية المادية، تشجع المرأة على إظهار جمال ومفاتن جسمها، وعلى الاهتمام بوسائل الزينة والتجميل.

إنّ عليها ضمن أجواء هذه الثقافة الزائفة أن تصرف جهدًا ليكون شكلها جاذبًا ومظهرها مغريًا، وكأنّ ذلك هو مقوّم شخصيتها.

لقد أصبحت المرأة سلعة إعلامية يتاجر بصورها في الدعاية والإعلان والإعلام. واستخدمت أداة في ماكينة الفنّ الهابط الذي يحرّض الشهوات والرغبات الجنسية.

إنّ من يؤمن بإنسانية المرأة وكرامتها وما تمتلك من كفاءات وقدرات تشارك بها الرجل في إدارة الحياة يرفض هذا الامتهان للمرأة.

على المرأة أن تدخل إلى معترك الحياة الاجتماعية بكفاءتها وأخلاقها، وألّا تقبل أن يُتعاطى معها من خلال مظاهر أنوثتها، وملامح جسمها.

إنّ على المرأة أن تحرص على تنمية قدراتها العلمية وكفاءتها العملية، وأن تؤدي واجباتها تجاه الوطن والمجتمع بجدية وإخلاص، دون أن تعيش همّ إظهار أنوثتها.

للمشاهدة:

https://www.youtube.com/watch?v=tkfnz-JFoik

للاستماع:

https://www.saffar.me/?act=av&action=view&id=1514

 

خطبة الجمعة 6 جمادى الأولى 1443هـ الموافق 10 ديسمبر 2021م.
[1] سورة الأحزاب، الآية: 35.
[2] سورة التحريم، الآيات: 11-12.
[3] سورة الأحزاب، الآية: 35.
[4] بحار الأنوار، ج45، ص162
[5] مقاتل الطالبيين، ص91.
[6] بحار الأنوار، ج45، 114.
[7] الكامل في التاريخ والأدب، ج3، ص189.
[8] بحار الأنوار، ج45، ص114.