التنشئة الدينية للطفل

 

يصادف يوم العشرين من نوفمبر يوم الطفل العالمي الذي اعتمدته الأمم المتحدة. وأقرّت فيه إعلان حقوق الطفل والاتفاقية المتعلّقة بها. وبذلك أصبح هذا اليوم مناسبة للتذكير بأهمية مرحلة الطفولة، والتأكيد على رعاية الأطفال وحماية حقوقهم، ومعالجة التحدّيات والمشاكل التي يواجهونها في الحياة المعاصرة، على الصّعيد الأسري والتعليمي والاجتماعي.

وبهذه المناسبة سنركز حديثنا حول موضوع التنشئة الدينية للطفل.

حفظ هوّية المجتمع وتحصين أبنائه

إنّ التنشئة الدينية للأطفال هي التي تحفظ هوية المجتمع واستمرار الانتماء الديني لأجياله، والغفلة عنها تؤدي إلى ضياع هوية الجيل الجديد، وضعف انتمائه الديني والاجتماعي.

يقول تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ ۖ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا[1]

وتساعد التنشئة الدينية على تحصين الجيل نفسيًّا وفكريًّا وسلوكيًّا، فتجعله أقرب إلى الاستقامة والصلاح.

ربما تتصور بعض العوائل والأسر أنّ التنشئة الدينية يمكن تأجيلها إلى ما بعد مرحلة الطفولة، وهذا تصور خطأ ينشأ من ضعف الفهم لمرحلة الطفولة، فالطفل عندهم مساوق للجهل وعدم الفهم والإدراك والشعور، وقد يعبّر عن الأطفال في مجتمعاتنا بـ (الجهال) فضمن التحية يسأل الواحد منّا الآخر: كيف حال الجهال؟ أي الأولاد والأطفال!

ويتحدّث ربّ العائلة قائلًا: سافرت مع الجهال!

إنّ الطفل ليس عديم الإدراك والفهم والشعور كما يتصور كثيرون، إنه يتحسّس ما حوله، وتستيقظ مداركه في وقت مبكر، ويسجل الانطباعات، ويلتقط الصور، وتبدأ عملية التكوّن والتشكّل لشخصيته المستقبلية وللدّعامات التي ترتكز عليها، منذ السنوات الخمس أو الست الأولى، التي يطلق عليها علماء التربية السنوات التكوينية.

تأسيس شخصية الإنسان

في مرحلة الطفولة تتأسّس شخصية الإنسان، وحين تُغرس في نفسه بذور الاتجاه الديني في هذه المرحلة يكون راسخًا ومؤثرًا في تكوين أبعاد شخصيته.

حيث تنبعث الأسئلة في نفس الطفل عند بداية إدراكه لما حوله، وحين يوجه للحصول على الإجابات المناسبة يتوفر له اطمئنان نفسي ويتخلّص من الشعور بالغموض والفراغ.

كما أنّ ذلك يحميه من الإجابات الخطأ التي قد تأتيه من مصادر غير موثوقة، وخاصة في عصرنا الحاضر، حيث ينفتح الطفل مبكرًا على الأجهزة الإلكترونية، وبرامجها محمّلة بالثقافات المختلفة.

علي : (إِنَّمَا قَلْبُ اَلْحَدَثِ كَالْأَرْضِ اَلْخَالِيَةِ مَا أُلْقِيَ فِيهَا مِنْ شَيْءٍ قَبِلَتْهُ فَبَادَرْتُكَ بِالْأَدَبِ قَبْلَ أَنْ يَقْسُوَ قَلْبُكَ وَيَشْتَغِلَ لُبُّكَ)[2].

وورد عن الإمام جعفر الصادق : (بَادِرُوا أَحْدَاثَكُمْ بِالْحَدِيثِ قَبْلَ أَنْ تَسْبِقَكُمْ إِلَيْهِمُ اَلْمُرْجِئَةُ)[3].

مسارات التنشئة الدينية

وللتنشئة الدينية للطفل أربعة مسارات:

الأول: الرؤية الدينية للوجود والحياة.

أن تُغرس في ذهنه المعتقدات الدينية، بأسلوب واضح ولغة تناسب مستوى إدراكه، وعن طريق إثارة تفكيره، ومساعدته في الوصول إلى الإجابة الصحيحة على التساؤلات التي تحصل لديه، وهذا ما تلفت إليه الآيات القرآنية التي تنقل وصايا لقمان لابنه، يقول تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ[4]

ويقول تعالى: ﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ[5]

وقد ورد عن الإمام زين العابدين في رسالة الحقوق: (وَأَمَّا حَقُّ وَلَدِكَ فَتَعْلَمُ أَنَّهُ مِنْكَ وَمُضَافٌ إِلَيْكَ فِي عَاجِلِ اَلدُّنْيَا بِخَيْرِهِ وَشَرِّهِ وَأَنَّكَ مَسْئُولٌ عَمَّا وُلِّيتَهُ مِنْ حُسْنِ اَلْأَدَبِ وَاَلدَّلاَلَةِ عَلَى رَبِّهِ وَاَلْمَعُونَةِ لَهُ عَلَى طَاعَتِهِ)[6].

إنّ الدلالة على الربّ، التي تستبطن البحث عنه في نفس الولد، هي من حقوق الولد المعنوي على أسرته.

الثاني: الالتزامات العبادية المبكرة

وتعني التربية برفق على الالتزامات العبادية مبكرًا ليألفها وتصبح جزءًا من برنامجه اليومي والحياتي.

يقول تعالى: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا[7]

ويقول تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ ۚ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا ‎﴿٥٤﴾‏ وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا[8]

وسُئل النبي عن الطفل متى يصلي، فقال: (إِذَا عَرَفَ يَمِينَهُ مِنْ شِمَالِهِ، فَمُرُوهُ بِالصَّلَاةِ)[9]

ورد عن الإمام علي : (يُؤْمَرُ اَلصَّبِيُّ بِالصَّلاَةِ إِذَا عَقَلَ وَبِالصَّوْمِ إِذَا أَطَاقَ)[10]

وورد عن الإمام الصادق : (أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ اَلصَّبِيَّ بِالصَّوْمِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ بَعْضَ اَلنَّهَارِ فَإِذَا رَأَى اَلْجُوعَ وَاَلْعَطَشَ غَلَبَ عَلَيْهِ أَمَرَهُ فَأَفْطَرَ)[11].

وهنا تبدو أهمية وجود دورات تعليم الصلاة والواجبات الدينية للأطفال، في المحيط الاجتماعي، وذلك من مهام إدارات المساجد، والمؤسّسات الدينية والتربوية، إلى جانب دور الأسرة.

الثالث: التوجيه للسّلوك الأخلاقي، بأن يتم تشجيع الطفل وتحفيزه لممارسة السّلوك الحميد، وأن يحذر من السّلوك السيء.

عَنْ أَبِي بَصِيرٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اَللَّهِ عَنْ قَوْلِ اَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ﴿قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نٰاراً وَقُودُهَا اَلنّٰاسُ وَاَلْحِجٰارَةُ قُلْتُ: هَذِهِ نَفْسِي أَقِيهَا، فَكَيْفَ أَقِي أَهْلِي؟ قَالَ : (تَأْمُرُهُمْ بِمَا أَمَرَهُمُ اَللَّهُ بِهِ، وَتَنْهَاهُمْ عَمَّا نَهَاهُمُ اَللَّهُ عَنْهُ، فَإِنْ أَطَاعُوكَ كُنْتَ وَقَيْتَهُمْ، وَإِنْ عَصَوْكَ فَكُنْتَ قَدْ قَضَيْتَ مَا عَلَيْكَ)[12]

وعنه : (مُرِ اَلصَّبِيَّ فَلْيَتَصَدَّقْ بِيَدِهِ بِالْكِسْرَةِ وَاَلْقَبْضَةِ وَاَلشَّيْءِ)[13]

الحاجة الماسّة لوجود ثقافة دينية أخلاقية تناسب مرحلة الطفولة، عبر الأساليب والوسائل الحديثة التي يتفاعل معها أطفال هذا العصر، كالقصص والأفلام والبرامج الكمبيوترية، ولا يصح أن نُسلّم أطفالنا للثقافة الواردة من الخارج بما فيها من أفكار وأنماط سلوك مخالفة لمبادئنا الدينية وقيمنا الأخلاقية.

الرابع: إشراك الطفل في الأجواء الدينية والاجتماعية، ليتأهل لأخذ دوره الاجتماعي، ويتربّى على التفاعل مع بيئته ومحيطه.

وقد أحضر رسول الله الحسنين في قضية المباهلة، وقبل البيعة منهما، وسجّل شهادتهما على كتاب المعاهدة بينه وبين قبيلة ثقيف.

وكانا يحضران مجلسه ويسمعان ما ينزل به الوحي وحديث النبي ، ويحضران المسجد في صغرهما، وربما امتطى أحدهما ظهره وهو ساجد فيطيل من أجله السّجود.

حضور الأطفال في المساجد

من هنا ينبغي أن يهتم الكبار بإحضار أبنائهم في المجالس العامة. فوجود الطفل في أماكن اجتماع الناس ينمّي شخصيته سيما في مكان كالمسجد، لكننا إذا نظرنا إلى التجمّعات في المساجد قلما نجد أطفالًا بصحبة آبائهم! وكثير من الآباء يتعذّر بخشيته أن يكون أبناؤه مصدر إزعاج للمصلين، أو يقوموا بتصرفات لا تليق بقدسية المسجد. وهذا خلاف ما نجده في السنة النبوية، إذ كان رسول الله يصلي ويسمع بكاء طفل فيختصر في صلاته.

نعم، هناك رواية تشير إلى كراهية تمكين الأطفال في المساجد. باعتبار أنّ المسجد للعبادة ولا يصلح للصغار، لكنّ بعض العلماء التفتوا إلى أنّ الرواية ضعيفة السند من جهة، ومن جهة أخرى قد يكون المراد بالأطفال هم الذين لا يتحفّظون في النجاسة. ولهذا يعلق السيد الشيرازي (رحمه الله) في موسوعته الفقهية على هذه المسألة قائلاً: «والظاهر أنّ المراد الأطفال الذين هم مظنّة التنجيس والأذية ونحوهما، لا الأطفال للصلاة، فقد صح دخول الحسن والحسين وأمامة وغيرهم مسجد رسول الله وعناية الرسول بهم، بل الإطلاقات منصرفة عن ذلك»[14].

ويعلق السيد السيستاني على هذه المسألة في العروة الوثقى بقوله: «إذا لم يؤمن تنجيسهم المسجد، وإزعاجهم فيه، وإلّا فلا بأس به ولربما يكون راجحًا»[15].

إنني أشعر بسعادة بالغة حينما أرى صغار السّن والناشئين يشاركون معنا في صلاة الجماعة والجمعة، وأكبر الآباء والأمهات الذين يصطحبون أطفالهم إلى المسجد، وأدعو للاهتمام بهم وإعطائهم دورًا يشجعهم على الحضور، كالأذان أو قراءة الدعاء، أو المشاركة في تقديم الخدمة للمصلين.

للمشاهدة:

https://www.youtube.com/watch?v=KjvWWWW5-RU

للاستماع:

https://www.saffar.me/?act=av&action=view&id=1512

خطبة الجمعة 14 ربيع الآخر 1443هـ الموافق 19 نوفمبر 2021م

[1] سورة مريم، الآية: 59.
[2] نهج البلاغة، كتاب: 31.
[3] الكافي، ج6، ص47.
[4] سورة لقمان، الآية: 13.
[5] سورة لقمان، الآية: 16.
[6] تحف العقول، ص263.
[7] سورة طه، الآية: 132.
[8] سورة مريم، الآيات: 54-55.
[9] سنن أبي داوود، ج1، ص134، ح497.
[10] بحار الأنوار، ج88، ص133.
[11] بحار الأنوار، ج88، ص133.
[12] تهذيب الأحكام، ج6، ص179.
[13] الكافي، ج4، ص4.
[14]  السيد محمد الحسيني الشيرازي. الفقه، كتاب الصلاة، ج19، ص285.
[15]  العروة الوثقى للسيد محمد كاظم اليزدي مع تعليقة السيد علي السيستاني. ج2، كتاب الصلاة هامش ص88.