يُسر الدين في المنهج النبوي

 

قال تعالى: ﴿هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ[1] .

للتَّشريعات الدينيَّة والأحكام الشرعيَّة غرضان أساسان:

الأول: تعزيز العبوديَّة لله، والخضوع لأمره في نفس الإنسان.

قال تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ[2] .

الثاني: تحقيق المصلحة للإنسان في بعده المادِّي والمعنوي، وفي حياته الدنيويَّة والأخرويَّة، وفي الجانب الفرديِّ والاجتماعيِّ.

ولا مصلحة لله تعالى في شيءٍ من التَّشريعات والأحكام. يقول تعالى: ﴿إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ ۖ وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ۖ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ[3] .

ورد عن علي : "إِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَلَقَ اَلْخَلْقَ حِينَ خَلَقَهُمْ غَنِيًّا عَنْ طَاعَتِهِمْ آمِنًا مِنْ مَعْصِيَتِهِمْ؛ لِأَنَّهُ لاَ تَضُرُّهُ مَعْصِيَةُ مَنْ عَصَاهُ وَلاَ تَنْفَعُهُ طَاعَةُ مَنْ أَطَاعَهُ"[4] .

ولأنّ مصلحة الإنسان منظورة في التَّشريع، فهو يأخذ وضعه وواقعه بعين الاعتبار، ولا يفرض عليه ما ينافي طبيعته، ويتجاوز طاقته، ويسبب له حرجًا في حياته.

يقول تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا.

يقول تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ.

يقول تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ.

وفي حديث القرآن الكريم عن بعض التَّكاليف الشرعيَّة، يشير إلى أنّ المطلوب منها هو المقدار المتيسَّر للإنسان، الذي لا يسبِّب هل عسرًا ولا حرجًا.

يقول تعالى: ﴿فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ.

يقول تعالى: ﴿فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ.

سيرة النبيِّ في تبيين الأحكام

سيرة النبي في تبيين الأحكام وتطبيقها قائمة على اليسر، ويؤكِّد على ذلك:

في صحيح أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ البيزنطي قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي جَعْفَرٍ اَلثَّانِي [الجواد] عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ جُعِلْتُ فِدَاكَ، إِنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِنَا رَمَى اَلْجَمْرَةَ يَوْمَ اَلنَّحْرِ وَحَلَقَ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ، فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ لَمَّا كَانَ يَوْمُ اَلنَّحْرِ أَتَاهُ طَوَائِفُ مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اَللَّهِ، ذَبَحْنَا مِنْ قَبْلِ أَنْ نَرْمِيَ وَحَلَقْنَا مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذْبَحَ وَلَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِمَّا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُقَدِّمُوهُ إِلَّا أَخَّرُوهُ وَلاَ شَيْءٌ مِمَّا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُؤَخِّرُوهُ إِلَّا قَدَّمُوهُ، فَقَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ: لاَ حَرَجَ، لاَ حَرَجَ"[5] .

ومثله ما ورد في صحيح البخاري عن عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ وَقَفَ في حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِمِنًى لِلنَّاسِ يَسْأَلُونَهُ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: لَمْ أَشْعُرْ فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ. فَقَالَ: (اذْبَحْ وَلاَ حَرَجَ). فَجَاءَ آخَرُ فَقَالَ: لَمْ أَشْعُرْ، فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِي. قَالَ: (ارْمِ وَلاَ حَرَجَ). فَمَا سُئِلَ النَّبيُّ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلاَ أُخِّرَ إِلَّا، قَالَ: افْعَلْ وَلاَ حَرَجَ[6] .

اليسر في تطبيق الأحكام الشرعيَّة

وروي أنَّ أعْرَابِيًّا بَالَ في المَسْجِدِ، فَثَارَ إلَيْهِ النَّاسُ ليَقَعُوا به، فَقالَ لهمْ رَسولُ اللَّهِ : (دَعُوهُ، وأَهْرِيقُوا علَى بَوْلِهِ ذَنُوبًا مِن مَاءٍ -أوْ سَجْلًا مِن مَاءٍ- فإنَّما بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ ولَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ)[7] .

وعن جابر بن عبدالله، أنَّ معاذًا كانَ يُصَلِّي مع النَّبيِّ ، ثُمَّ يَأْتي قَوْمَهُ فيُصَلِّي بهِمُ الصَّلَاةَ، فَقَرَأَ بهِمُ البَقَرَةَ، قالَ: فَتَجَوَّزَ رَجُلٌ فَصَلَّى صَلَاةً خَفِيفَةً، فَبَلَغَ ذلكَ مُعَاذًا، فَقالَ: إنَّه مُنَافِقٌ، فَبَلَغَ ذلكَ الرَّجُلَ، فأتَى النَّبيَّ فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، إنَّا قَوْمٌ نَعْمَلُ بأَيْدِينَا، ونَسْقِي بنَوَاضِحِنَا، وإنَّ مُعَاذًا صَلَّى بنَا البَارِحَةَ، فَقَرَأَ البَقَرَةَ، فَتَجَوَّزْتُ، فَزَعَمَ أنِّي مُنَافِقٌ، فَقالَ النَّبيُّ : يا مُعَاذُ، أفَتَّانٌ أنْتَ؟! -ثَلَاثًا- اقْرَأْ: والشَّمْسِ وضُحَاهَا، وسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى، ونَحْوَهَا[8] .

وجاء عنه : (إنَّ خيرَ دِينِكُمْ أيسَرُه، ثلاثًا)[9] .

وعن ابن عباس عنه : (علِّمُوا، ويسِّروا ولَا تُعَسِّروا)[10] .

وعنه : "إنِّي لَأَقُومُ إلى الصَّلَاةِ وأَنَا أُرِيدُ أنْ أُطَوِّلَ فِيهَا، فأسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فأتَجَوَّزُ في صَلَاتي كَرَاهيةَ أنْ أشُقَّ علَى أُمِّهِ"[11] .

وعن أنس، قال: ما صَلَّيْتُ ورَاءَ إمَامٍ قَطُّ أَخَفَّ صَلَاةً، ولَا أَتَمَّ مِنَ النبيِّ ، وإنْ كانَ لَيَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فيُخَفِّفُ مَخَافَةَ أَنْ تُفْتَنَ أُمُّهُ[12] .

وعن عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الإمام الباقر قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ : إِنَّ هَذَا اَلدِّينَ مَتِينٌ، فَأَوْغِلُوا فِيهِ بِرِفْقٍ، وَلَا تُكَرِّهُوا عِبَادَةَ اَللَّهِ إِلَى عِبَادِ اَللَّهِ، فَتَكُونُوا كَالرَّاكِبِ اَلْمُنْبَتِّ، اَلَّذِي لاَ سَفَراً قَطَعَ، وَلاَ ظَهْراً أَبْقَى"[13] .

الفقه المعاصر والتَّيسير على الناس

وإذا كان البعض يجد شيئًا من الحرج في بعض الأحكام والتَّشريعات الدينيَّة في هذا العصر فإنَّ ذلك بسبب وجود مشكلات في الممارسة الفقهيَّة.

فلبعد عصر النَّص والملابسات التي تكتنف النُّصوص الشَّرعية الواردة في سندها أو في اختلاف فهمها صار الفقيه يواجه مشكلة في وضوح بعض الأحكام الشَّرعيَّة أمامه. ولا يريد أن يفتي الناس بما لم يتأكَّد منه. وهنا يتشدَّد بعض الفقهاء في بعض الأحكام الشَّرعيَّة، وتكثر الاحتياطات عند بعضهم.

والملاحظ أنه في الكتب الفقهية القديمة تقلُّ الاحتياطات. أما مصطلح الاحتياط الوجوبي فلم يظهر في الكتب والفتاوى إلَّا في القرنين الأخيرين.

وفي هذا السِّياق ينقل المرجع السيد موسى الزَّنجاني عن صاحب الجواهر أنه قبيل وفاته استدعى الشيخ مرتضى الأنصاري وقال له: يا شيخ، قلِّل من الاحتياطات، فإنَّ الشَّريعة سهلة.

إنَّه ينبغي فتح المخارج والرُّخص الشَّرعية أمام النَّاس، بالرجوع إلى سائر الفقهاء في الاحتياطات الوجوبيَّة.

وكذلك توضيح مسألة إمكان الرجوع إلى فقيه آخر حتى في الفتوى، وليس في الاحتياطات الوجوبيَّة فقط، فقط جاء في فتاوى السَّيد السِّيستاني: إذا اختلف المجتهدون في الفتوى وجب الرجوع إلى الأعلم، ولو تساووا في العلم أو لم‏ يحرز وجود الأعلم بينهم كان المكلَّف مخيَّرًا في تطبيق عمله على فتوى أيٍّ منهم[14] .

للمشاهدة:

https://www.youtube.com/watch?v=w4AyL7z6W0c

للاستماع:

https://www.saffar.me/?act=av&action=view&id=1479

خطبة الجمعة 13 ذو الحجة 1442هـ الموافق 23 يوليو 2021م

[1]  سورة الحج، الآية:78.
[2]  سورة البينة، الآية: 5.
[3]  سورة الزمر، الآية: 7.
[4]  نهج البلاغة، من خطبة له يصف فيها المتقين، رقم 193.
[5]  الكافي، ج4، ص504.
[6]  البخاري (ح83) ومسلم (ح1306).
[7]  البخاري، ح6128.
[8]  البخاري، 6106.
[9]  الألباني، صحيح الأدب المفرد.
[10]  سلسلة الأحاديث الصحيحة، ح1375.
[11]  البخاري، 868.
[12]  البخاري، 708.
[13]  الكافي، ج2، ص86.
[14]  السيد السيستاني: منهاج الصالحين، ج1، ص23، مسألة 8.