اللياقة الاجتماعية وظيفة تربوية

 

ورد عن رسول الله أنه قال: «ما نَحَلَ والِدٌ وَلَدَهُ أَفْضَلَ مِنْ أدَبٍ حَسَنٍ»[1] 

وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه قال: «خَيرُ ما وَرَّثَ الآباءُ الأَبناءَ الأَدَبَ»[2] .

لاحظ علماء الأحياء والتربية أنّ هناك تفاوتًا كبيرًا بين مدة الرعاية التي يحتاجها الإنسان، مقارنة بسائر الحيوانات، فمدة الطفولة عند الحيوانات بالأيام أو الأسابيع أو بالشهور في أقصى التقديرات، ولا تكاد تجد نوعًا من الحيوانات يحتاج إلى رعاية لأكثر من سنة، بل بعض الحيوانات كالحشرات والأسماك لا تحتاج إلى رعاية، أو تكون رعايتها لحظات معدودة.

فعلى سبيل المثال أنثى السمك تلقي بيضها في الماء قبل الفقس، فيفقس، وبعض الأنواع يفقس داخل السمكة ثم تضع اليرقات في الماء، وبمجرد أن تفقس السمكة من بيضها، أو تُلقى في الماء، تمارس حياتها بشكل مستقل دون حاجة لرعاية أو تدخل من قبل الأم، وتوجد أنواع قليلة من السمك ترعى نسلها للحظات بسيطة.

بينما الإنسان تحتاج حضانته وتنشئته إلى سنوات عديدة، وسبب ذلك أنه مخلوق مميز، يختلف عن بقية الكائنات، بتنوع أبعاده، فلديه نفس مليئة بالمشاعر والأحاسيس المتصارعة، والميول والرغبات المتناقضة، ولديه قدرات عقلية هائلة، وهو مدني بطبعه، له بعد اجتماعي، كما أنه مهيأ ومؤهل للعب دور كبير على مستوى الحياة والكون، باعتباره مستخلفاً لله في الأرض.

من جهة أخرى، فإنّ ما لدى الإنسان من كفاءات وقدرات على شكل مواد خام، وبذور واستعدادات، فيحتاج إلى فترة من الرعاية والتربية، لتنمو طاقاته، وتتطور قدراته، ويتدرب على مواقف الحياة، وتتشذب غرائزه وميوله، وتترشّد مسارات سلوكه.

وظيفة التربية

التربية في المجال الإنساني لها وظيفتان ومهمتان:

أولاً: مهمة التعليم 

وترتبط بالقدرات العقلية والعملية، حيث يتعلم الإنسان ما يتعلق بأفقه الذهني العقلي، وما يرتبط بخبراته العملية التجريبية.

ثانياً: التأهيل الاجتماعي 

الذي يطلق عليه في ثقافتنا العربية (الأدب)، أي أن يكون الشخص مستوعبًا وقادرًا على الالتزام بآداب التعامل في محيطه الاجتماعي، وهو ما يصطلح عليه التأهيل الاجتماعي أو اللياقة الاجتماعية.

وذلك بأن يعرف كيف يتصرف مع محيطه وأبناء نوعه تصرفًا لائقًا، حتى يكون مقبولًا عندهم، منسجمًا معهم. 

في المجتمعات القديمة كان التركيز على الأدب أكثر من التعليم؛ لأنّ فرص التعليم لم تكن متوفرة، ولم يكن هناك تقدّم علمي، لذلك كان الناس يديرون حياتهم بخبراتهم العملية التي يتلقونها من عوائلهم وبيئتهم، حيث كانت معظم الأعمال مهنية يدوية، كالزراعة والصيد، وكذلك كانت التجارة تدار بالخبرات العملية، وفق السائد والمألوف.

وقد أدركنا ـ في جيلنا ـ تجاراً كباراً، لكنّهم أميون، لا يقرؤون ولا يكتبون، ويديرون تجارة كبيرة ضخمة. وهكذا كان دور العلم في حياة الإنسان أقلّ تأثيراً، وفرص التعليم محدودة، لهذا لم تكن العائلة تصرف جهدًا كبيرًا في مجال التعليم، بينما كان الاهتمام منصبًّا في مجال الأدب؛ لعدم وجود اهتمامات أخرى، وللتداخل الاجتماعي الكبير في حياة الناس، فهامش الحياة الخاصة كان محدودًا في حياة الإنسان سابقًا، فكان الأدب والتأهيل الاجتماعي محلّ التركيز والاهتمام عند العوائل، يعلّمون الابن كيف يعمل، وكيف يتصرف ويتعامل مع الآخرين.

في العصر الحاضر والمجتمعات الحديثة اختلفت المعادلة، أصبح التركيز على جانب العلم والتعليم؛ لأنّ التعليم فرض نفسه، بل أصبح إلزاميًا في معظم الدول، وليس باختيارك أن يتعلم ابنك أم لا! 

وأصبح التعليم له مناهج وأنظمة وقوانين، وبهذا أصبح الإنسان مطالبًا ببذل الجهد وصرف الوقت في التعليم، والعائلة وجدت نفسها ملزمة بأن تهتم بتعليم أبنائها؛ لأنّ مستقبل حياتهم يعتمد على التعليم، وفي مقابل ذلك تراجع الاهتمام بالتأهيل الاجتماعي والتربية الأخلاقية.

إذا كان الابن ضعيفًا في بعض المواد الدراسية أحضروا له مدرسًا خاصاً لتدريسه، وتصرف العائلة كلّ جهدها في تقدم الأبناء في المجال التعليمي.

والسؤال الملح: ماذا عن مجال السلوك؟

كيف يتأهل الأبناء في الجانب الاجتماعي؟ 

نتائج انحسار الاهتمام بالتربية

يعيش شباب اليوم حياة مفتوحة على مختلف المؤثرات والتحديات، ويواجهون طوفانًا من المعلومات وألوانا من الثقافات، وإهمال الجانب التربوي تجاههم يؤدي إلى نتائج عديدة:

أولًا: تعرّض كثير من الأبناء والبنات للمشاكل النفسية، فقد أصبحنا نجد عدداً من أبنائنا وبناتنا يعانون من المشاكل النفسية، كحالة الكآبة والانطوائية، وعدم القدرة على التكيف مع الآخرين.

ثانياً: حدوث ظواهر سلوكية غير سوية حيث تطالعنا الجرائد المحلية ـ بشكل مستمر ـ عن انجراف بعض الشباب نحو المخدِّرات، وتكون العصابات الإجرامية والفساد الأخلاقي، وانتشار ظواهر التنمر والتفحيط، حتى أصبحت لدينا دور للأحداث (قبل 18 سنة)!! أي ما يشبه السجون لتوقيف صغار السنّ المتورطين في انحرافات سلوكية، ومن المؤسف جدًّا أن تجداً أولاداً في سنّ الرابعة عشرة ينزلقون في منزلقات العنف والجريمة والرذيلة!!

ثالثاً: ضعف اللياقة الاجتماعية فهناك تراجع ملحوظ عند بعض أبناء هذا الجيل في اللياقة الاجتماعية، وفي القدرة على إدارة الحياة الزوجية.

فقد تدخل مجلساً ويقابلك ابن صاحب المجلس، فتجده غير متعلم على التصرف المناسب واللائق من الناحية الاجتماعية، وذلك لأنه لم يؤهل للتعامل بالمستوى المطلوب وفق الأعراف والتقاليد الاجتماعية والضوابط الأخلاقية، ومن أمثلة ذلك أن يقدّم الماء أو القهوة باليد اليسرى، أو لا يحسن استقبالك!

نحن مطالبون أن نهتم بهذا الجانب، وهو ما تؤكد عليه النصوص الدينية. 

وفي الحديث المروي عن رسول الله : «حقّ الولد على والده أن يحسن اسمه وأدبه»[3] .

وذلك يعني أن يؤهله اجتماعيًا ويوجهه لكسب اللياقة الاجتماعية. 

ونقرأ في الحديث الوارد عن رسول الله : «ما نَحَلَ والِدٌ وَلَدَهُ أَفْضَلَ مِنْ أدَبٍ حَسَنٍ»

وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب : «خَيرُ ما وَرَّثَ الآباءُ الأَبناءَ الأَدَبَ»

وعنه : «لا شرف مع سوء أدب»[4] . 

أي إذا لم يكن الإنسان ملتزمًا بالتصرف اللائق، مكتسبًا للياقة الاجتماعية فمهما كان عنده من المقومات تكون الثغرة واضحة في شخصيته وحياته.

متطلبات التأهيل الاجتماعي

إنّ تأهيل الأبناء والبنات اجتماعيًّا من قبل العائلة يتطلب أمرين:

الأمر الأول: أن تكون أجواء العائلة مدرسة تربوية اجتماعية؛ لأنّ الأبناء البنات يتأثرون بالوضع الذي يعيشونه داخل عوائلهم.

كيف يتعامل الأب مع الأم، كيف يتعاملان مع الأولاد، ومع الجيران، ومع الأقرباء، ومع الناس بشكل عام. 

إنّ الأولاد يكتسبون سلوكهم من خلال المعايشة، فينبغي للعائلة أن تلتفت إلى هذا الجانب، فكلّ تصرّف من الوالدين ينعكس على الأبناء.

قصة معبّرة

ذهبت امرأة لزيارة جارتها، فلما دخلت واستقرّ بها المجلس، وجدت أنّ ابنة جارتها تدور حولها وتلتفت كأنها تبحث عن شيء!

فقالت لها المرأة متعجبة: بنيّة، عمّاذا تبحثين؟!

قالت: أبحث عن وجهك الثاني.

قالت: ماذا تقصدين بوجهي الثاني؟!

قالت: لأنّ أمي عندما طرقتِ الباب وعرفت صوتك، قالت: جاءت (أم وجهين)!!

وبغض النظر هل أنّ هذه القصة حقيقية أم رمزية، فمما لا شك فيه أنّ الأطفال يلتقطون ما يسمعون في بيوتهم. 

ومثل ذلك حين يتصل شخص يسأل عن الأب، فيجيبه أحد الأبناء (بتوجيه من أبيه): أبي ليس موجوداً، لقد خرج ونسي هاتفه في المنزل!!

بمثل هذه العادات السيئة يتربّى الأبناء على الكذب والمراوغة. 

على العائلة أن تلحظ هذا الجانب في تصرفاتها وأحاديثها أمام الأبناء؛ لأنهم يأخذون ما يعيشونه كنموذج في حياتهم. 

أحياناً يكون عند الأم أو الأب مشكلة مع إخوته أو أقربائه، فيحاول أن ينقل المشكلة لأبنائه، فيفرض القطيعة عليهم، ويزرع في نفوسهم كره أعمامهم، أو أقربائهم أو جيرانهم، وهو خطأ كبير.

الأمر الثاني: التوجيه والتوعية في مجال السلوك والعلاقات الاجتماعية

للتوجيه أثر كبير على سلوك الأبناء، خصوصاً إذا كان بأسلوب محبب جميل، فالأبناء بحاجة إلى توجيه وتذكير بكيفية التعامل مع الآخرين، بدءًا من المدرسة، حيث ينبغي توصية الأبناء باحترام معلميهم وزملائهم.

أحياناً يواجه الطالب بعض المشاكل في المدرسة من معلمه أو زملائه، وهنا يمكن للعائلة أن توجهه لامتصاص تلك المشاكل والتعامل الأفضل معها، بعيداً عن حالة الانتصار للابن وذمّ الطرف الآخر، فهو أسلوب لا يحلّ المشكلة بل ربما يعقدها.

وحينما يتجاوز الابن مرحلة الدراسة، ويلتحق بالوظيفة يبقى بحاجة إلى تذكيره بضرورة التعامل الحسن مع زملائه.

قرأت بعض مذكرات الناجحين في مجال عملهم الوظيفي، فوجدت أنّ توصيات الوالدين كان لها أثر كبير في تحقيق نجاحهم. 

وهكذا قبل مرحلة الزواج وأثنائها ينبغي على العائلة أن تؤهل الأبناء للنجاح في الشراكة الزوجية، فهي مرحلة مهمة في حياة الأبناء والبنات، وهكذا ينبغي للعائلة أن توجه أبنائها وبناتها لحسن التصرف والتعامل مع الجيران. 

مثل هذه التوصيات لها أهمية كبيرة، وهي ليست مجرّد توصية وإنما نهج تتعامل به العائلة مع الأبناء.

بهذا نكون قد أدينا جزءًا من الواجب علينا تجاه أبنائنا، بأن نؤهلهم ونكسبهم اللياقة الاجتماعية.

* خطبة الجمعة بتاريخ 22 رجب 1440هـ الموافق 29 مارس 2019م.
[1]  المستدرك على الصحيحين، ج٤، ص٢٦٣.
[2]  غرر الحكم ودرر الكلم. ج1، ص359، حكمة 88.
[3]  جامع أحاديث الشيعة، ج٢١، ص٣٣٢، حديث 1130.
[4]  غرر الحكم ودرر الكلم. ج1، ص770، حكمة 97.