في العطلة الصيفية حماية الأبناء وتنمية مواهبهم

 

عن جميل بن درّاج عن الإمام الصادق أنه قال: «بَادِرُوا أَحْدَاثَكُمْ بِالْحَدِيثِ قَبْلَ أَنْ تَسْبِقَكُمْ إِلَيْهِمُ الْمُرْجِئَةُ»[1] .

عادةً ما يكون الشباب والناشئون منطقة مستهدفة من قبل أصحاب الاتجاهات الفكرية والتوجهات السلوكية المختلفة؛ لأنّ صغار السنّ تنقصهم التجربة والنضج، وبالتالي يكون لديهم الاستعداد لتقبّل ما يطرح عليهم من أفكار وتوجهات.

وبسبب طبيعة مرحلة حداثة السن والمراهقة، وحالة الاندفاع والحماس والرغبة في التمرد وإظهار الذات، فهم معرّضون للتأثر بمثل هذه الاتجاهات والتوجهات.

والمطلوب هو التحصين والحماية، فكما يقال: «الوقاية خير من العلاج» 

وهذا ما تشير إليه هذه الرواية الواردة عن الإمام الصادق : (بَادِرُوا أَحْدَاثَكُمْ) أي لا تنتظر أن يصاب الولد أو تصاب الفتاة بشيء من التوجهات الخطأ، ثم تهتم بالمعالجة، عليك أن تأخذ زمام المبادرة وتحصّن أبناءك، أن تسلك طريق الوقاية.

(أَحْدَاثَكُمْ) أي صغار السنّ فيكم، بادروهم بالحوار والإجابة على تساؤلاتهم، والأفكار المثارة في أذهانهم، حصنوهم من اختراق التوجهات التي تستهدفهم.

«قَبْلَ أَنْ تَسْبِقَكُمْ إِلَيْهِمُ الْمُرْجِئَةُ»، المرجئة فرقة فكرية منحرفة، كانت في ذلك الوقت.

والإمام يريد أن يقول: كونوا أصحاب المبادرة، قبل أن يأتي الآخرون ويملؤون الفراغ الذهني في عقول أبنائكم وبناتكم.

وظائف وفوائد العطلة الصيفية 

وجود العطلة السنوية الصيفية أصبح نظاماً عالمياً عند كلّ الشعوب والمجتمعات، ويرى العلماء والباحثون أنها تؤدي عدة وظائف تربوية ونفسية.

نشير بشيءٍ من الاختصار إلى فوائد العطلة:

أولاً: العطلة الصيفية تعطي الطالب فرصة لتجديد نشاطه الذهني والنفسي، حتى لا يستنزفه العناء، ولا يسيطر عليه الإرهاق والملل، فيستأنف بعدها عامه الدراسي الجديد برغبة وشوق.

ثانياً: تشكل العطلة الصيفية فاصلة بين المراحل والبرامج التعليمية، تنبّه الطالب إلى حركة مسيرته الدراسية، وتجاوزه لأشواطها، ومستوى خطواته في طريقها، وتهيئه للاستعداد للمرحلة التالية.

ثالثاً: تمنح الطالب المجال لاستكمال بعض نواقصه، ومعالجة ثغرات تحصيله، ليواكب مسيرة المنهج الدراسي، ولا يتخلف عن مستوى زملائه وأقرانه.

رابعاً: تتيح الفرصة لتنمية شخصية الطالب الإنسانية، في أبعادها المختلفة، فهو إنسان ذو مشاعر وأحاسيس، وله مواهب وقدرات، فلا بُدّ له من أفق مفتوح، لإشباع مختلف حاجاته، وممارسة رغباته المتعددة، بعد أن كانت طاقته مستهلكة في البعد الدراسي طوال العام. 

لكلّ هذه الأغراض وأمثالها اتفقت أنظمة التعليم العالمية على إقرار العطلة الصيفية، ومن المنطلق ذاته، اعتمدت أنظمة العمل في جميع الدول، حق الإجازة السنوية لكلّ عامل.

تحديات العطلة الصيفية

تمثل العطلة الصيفية تحدّياً تربوياً واجتماعياً حيث يعيش الأبناء والبنات فراغاً، بعد تحررهم من التزامات الدراسة ووظائفها.

وهذا الفراغ إن لم يملأ بالبرامج المفيدة التي تنمي مواهبهم وطاقاتهم، وتستكمل بناء شخصياتهم، فقد يكون سببًا لكثير من الآثار السيئة على نفسياتهم وسلوكهم.

ويمثل موضوع (وقت الفراغ) ميداناً لبحوث مكثفة من قبل علماء الاجتماع، بل أصبح فرعاً من فروع علم الاجتماع، وبدأت الأبحاث تنصب حول إدارة الفراغ، وسلبياته التي قد تحصل عند الإنسان، كيف ينبغي أن يواجه الفرد والمجتمع والدولة مشكلة الفراغ؟

ورغم حداثة الاهتمام بهذا الموضوع علميًّا، إلّا أنه سرعان ما جذب اهتمام العلماء، واستقطب جهودهم، فأصبح منافساً لكثير من فروع علم الاجتماع، مع أسبقيتها عليه.

وذلك لما لهذا الموضوع من آثار تمتد لتشمل مختلف جوانب حياة الإنسان، النفسية والاجتماعية والاقتصادية. مما جعل الاهتمام بوقت الفراغ ليس مسألة جانبية أو هامشية، بل جزءاً أساساً من الاهتمام بشخصية الإنسان، وبالنظم الاجتماعية القائمة في الحياة المعاصرة.

إنّ عدم التفكير والتخطيط لاستثمار وقت الفراغ في العطلة والإجازة، قد يحوّلها من مبعث راحة وتجديد نشاط، إلى مصدر كآبة وملل، ومن فرصة تنمية وبناء للذات، إلى أرضية سوء تُنبت المفاسد.

مرحلة الشباب والفراغ

أخطر ما يكون الفراغ في مرحلة الشباب، حيث يمتلك الشاب قوة فائضة، تبحث عن قنوات للتصريف، وحماساً كبيراً، يدفع نحو الفاعلية والنشاط، فإذا كانت أمامه برامج وأدوار، وخيارات مناسبة، تشغل اهتمامه، وتنمي شخصيته، وتفعّل قدراته بالاتجاه الصحيح، فإنّ ذلك سيكون لصالحه وصالح المجتمع.

أما في حالة انعدام برامج وفرص الاستثمار، فإنّ الشاب يكون فريسة لمشاعر الملل والإحباط، ولقمة سائغة لتيارات الفساد والانحراف، وهذا ما تعاني منه كثير من المجتمعات المعاصرة.

ومن أخطر السلبيات التي تنتج عن الفراغ، حالة الملل والسأم وهي مؤذية للنفس، مربكة لشخصية الإنسان، وهناك مقولة متداولة، هي: «أن تشعر بالملل هو أن تقبل الموت»، والملل قد يدفع الإنسان إلى تصرفات عبثية ضارة، من أجل التخلص من الملل والخروج من عبء وطأته.

إنّ من أسوأ الظواهر التي تنتج عن فراغ العطلة الصيفية، إذا لم تستثمر بالبرامج الصالحة، ظاهرة التصرفات الشاذة، والسلوكيات المنحرفة، في وسط الجيل الناشئ، ذلك أنّ الشعور بالفراغ يدفع لتقبل أيّ اهتمام، وعادة ما يصحب التوجهات الخاطئة إغواء وإغراء، ولقلة النضج والخبرة عند الشباب والمراهقين، يكون انزلاقهم سهلاً.

وتؤكد الأبحاث والتقارير دور مشاهدة الأفلام والبرامج السيئة، في الاندفاع نحو الانحرافات الجنسية، وأعمال العنف، لدى المراهقين والمراهقات، كما أنّ استخدام شبكة الإنترنت، كثيراً ما يكون وسيلة إغواء، يستجيب لها الشباب، وخاصة في حالات الفراغ، فيدخلون عبرها على مواقع إباحية، ويرتبطون بعلاقات ضارة.

وليس مبالغة القول: إنّ العطلة الصيفية تخرّج كلّ عام أفواجاً من الملتحقين بتيارات الفساد والانحراف!.

ورد عن الإمام علي أنه قال: «مِنَ الْفَراغِ تَكُونُ الصَّبْوَةُ »[2]  أي الممارسات الصبيانية. 

وعنه : «إن يكن الشغل مجهدة فالفراغ مفسدة»[3] .

إنّ ذلك يؤكد مسؤولية الجميع في الاهتمام بالتخطيط السليم لوقت الفراغ، والعمل على احتواء واستيعاب الطلاب والطالبات خلال العطلة الصيفية، لمساعدتهم في استثمارها بما يخدم مستقبلهم ومصلحة الوطن.

دور العائلة والمجتمع 

الوضع الاجتماعي والعائلي أصبح يركز حالة إدمان الارتباط بالأجهزة الالكترونية، وما تتضمن من برامج ومواقع، فكلّ فرد في العائلة متصل بعالمه الخاص، حتى وهم جالسون معاً في بيت واحد!.

هم مجتمعون بأجسامهم، لكنّهم منفصلون بمشاعرهم وأفكارهم، كلّ فرد منفتح على عالم آخر عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

وإذا كان ربُّ البيت يعيش هذه الحالة، فمن غير المتوقع أن يختلف عنه بقية أفراد الأسرة!

إنّ هذا الانفتاح عبر هذه الوسائل لا تدري إلى أيّ عالم يأخذ الشاب والفتاة، وعلى أيّ جوٍّ ومع أيّ جهةٍ يتفاعل، وبالتالي قد يكون ذلك وسيلة من وسائل الفساد الفكري أو السلوكي. 

من جهة أخرى، فإنّ التجمعات الشبابية التي يعيش معها هذا الشاب، وتتواصل معها هذه الفتاة، قد تكون سبباً لبعض الاندفاعات والتوجهات، فلا بُدّ من حماية الأبناء في العطلة الصيفية. 

بعض العوائل قد تظن أنّ مسؤوليتها محصورة بالاهتمام والمتابعة أيام الدراسة، أما في العطلة الصيفية فهي فرصة للراحة من عناء المتابعة!

ولو أعدنا النظر لوجدنا أنّ فترة الصيف ينبغي أن تكون هي العبء الأكبر، فأيام الدراسة هناك جهة أخرى تستوعب وقت الأبناء، أما في أيام العطلة الصيفية فإنّ العائلة هي من ينبغي أن تتحمل المسؤولية.

من هنا ينبغي أن تفكر العوائل والمهتمون بالشأن الاجتماعي في التخطيط والإعداد للبرامج الكافية والمفيدة للأبناء في العطلة الصيفية، لا بُدّ من وجود وعي اجتماعي، ومؤسسات تتصدّى من أجل البرامج الصيفية لاستيعاب أبنائنا وبناتنا ويجب أن نتعاون جميعاً مع هذه البرامج والمؤسسات. 

لجان وبرامج أهلية

بحمد الله توجد في مجتمعنا كثير من البرامج واللجان الثقافية إضافة إلى المساجد، وهي بحاجة إلى دعم ومساندة المجتمع.

علينا أن نهيئ الفرص والأجواء حتى نستثمر العطلة الصيفية، وحتى يستفيد أبناؤنا من هذا الوقت في بناء شخصياتهم وتنمية مواهبهم، في الجوانب الثقافية المعرفية والاجتماعية وفي جميع المجالات. 

ومما ينبغي التأكيد عليه أنّ أبناءنا وبناتنا يتمتعون بمواهب وكفاءات متميزة، كما تشير إلى ذلك أرقام المتفوقين والمتميزين، وعلينا أن نوفر لهم الأجواء المحفزة لتنمية مواهبهم وإظهار قدراتهم، عبر مختلف البرامج المعرفية والتربوية والثقافية العلمية والعملية، وأن نسعى لحمايتهم من الأخطار والمنزلقات. 

فكلّ أبنائنا أعزة على قلوبنا، ونشعر بالحزن والألم لأي واحد منهم يصاب بخطر أو مكروه، وعلينا أن نبذل كلّ جهد ممكن لحمايتهم من الأخطار والمكاره، ولتوجيههم نحو بناء مستقبل مشرق لأنفسهم ولوطنهم ومجتمعهم.

وإذا قمنا بالواجب تجاههم وحصل ما لا نتمناه لأحد منهم فنحن معذورون أمام الله تعالى و(لا يكلّف الله نفسًا إلّا وسعها) أما إذا قصرنا في القيام بما يمكننا فنحن مسؤولون أمام الله وأمام التاريخ عن أبنائنا وبناتنا، وعمّا يحدث لهم من ضياع وانحراف وهدر لطاقاتهم.

* خطبة الجمعة بتاريخ 21 شعبان 1440هـ الموافق 26 ابريل 2019م.
[1]  وسائل الشيعة، ج٢٧، ص٨٩.
[2]  عيون الحكم والمواعظ، ص٤٧١.
[3]  ورام بن ابي فراس بن حمدان المالكي، تنبيه الخواطر، ج ١، ص٦٠.